"Responsible Statecraft": سوريا للسوريين.. درس يمكن للشرع أن يطبقه الآن أو يسيء تطبيقه
لا يوجد لدى الزعيم السني الجديد نموذج محدّد، حيث كان القرن مليئاً بالحكم الاستعماري والتنافسات العسكرية.
-
رئيس سوريا الانتقالي أحمد الشرع
مجلة "Responsible Statecraft" الأميركية تنشر مقالاً تحدّثت فيه عن تاريخ سوريا التي واجهت فيه الانقسامات الطائفية، منذ عام 1946 وصولاً إلى اليوم، مستعرضةً التحدّيات الكبيرة التي تواجه الرئيس الانتقالي أحمد الشرع بسبب الانقسامات الطائفية والولاءات المتصارعة في سوريا.
أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية:
لا يوجد مكان أفضل للبدء في فهم سوريا بعد انهيار سلالة الأسد في كانون الأول/ديسمبر من فيلم "سيروكو". يظهر الفيلم الذي أنتج عام 1951 همفري بوغارت في دور تاجر أسلحة أميركي مرتزق يزوّد المقاومة العربية للفرنسيين أثناء الثورة الدرزية ضدّ الحكم الاستعماري في عشرينيات القرن العشرين.
في حوار يتردّد صداه عبر العقود، يوبّخ الأمير حسن، زعيم الثورة ذو العيون الفولاذية، بوغارت: "هل تريد أن تعرف لماذا نقاتل نحن السوريين الفرنسيين؟ يمكنك أن تقول لشعبك أننا نقاتل لأنهم غزوا بلادنا. إنهم يريدون أن يحكمونا، وأن يخبرونا بما يجب أن نفعله. نحن نريد أن نحكم أنفسنا. نريد سوريا لأنفسنا. نحن نقاتل لطرد أعدائنا، واستعادة حريتنا، وسوف ننتصر لأنّ الله والعدالة في صفّنا".
وبينما بدأ البريطانيون استخدام القوة الجوية ضدّ التمرّد العراقي المجاور، كان الردّ الفرنسي على الثورة الشعبية في بلد جديد يسمّى سوريا، والذي تمّ نحته من جثة الإمبراطورية العثمانية المنهكة، هو إنشاء جيش بقيادة ضباط فرنسيين وتجنيدهم من الأقليات الدرزية والشركسية والعلوية التي كانت تعاني من حكم الأغلبية السنية السياسية والتجارية.
وإلى جانب "جيش بلاد الشام الخاص"، أنشأ الفرنسيون أيضاً دويلات عاجزة، واحدة في دمشق وأخرى في حلب، وكذلك للأقليات الدرزية والعلوية. وكان لكلّ منها علم، رفع بعضه أثناء الثورة التي أطاحت مؤخّراً ببشار الأسد، وكلّ هذا كان جزءاً من سياسة تهدف إلى تقويض الجهود الشعبية الرامية إلى إقامة دولة مستقلة متماسكة سياسياً وإقليمياً.
فشلت هذه الاستراتيجية الفرنسية القائمة على "فرّق تسد" تماماً. فقد كانت دمشق وحلب مرتبطتين ارتباطاً وثيقاً بالتجارة والتاريخ المشترك. وكانت الطوائف الدينية تريد صفقة عادلة في سوريا التي أعيد تصوّرها حديثاً، وليس استقلالاً مصطنعاً.
وكما هي الحال الآن، فإنّ شعار "سوريا للسوريين" يتردّد صداه بعمق أكبر كثيراً من الجهود الأنانية الساخرة التي بذلتها العديد من الجهات الفاعلة، المحلية والأجنبية، للاستيلاء على سوريا لتحقيق مصالحها السياسية أو الطائفية.
وقد نالت سوريا الاستقلال في عام 1946، وانضمّت سوريا الحديثة، الموحّدة في وحدة إقليمية واحدة، إلى الساحة العالمية.
ولكنّ النخبة السياسية السنية، من الرجال، الذين تلقّوا تعليمهم على أساليب الإدارة العثمانية ومعركة الاستقلال، كانوا منهكين سياسياً وأيديولوجياً. وكان فشلهم سبباً في ترك الساحة السياسية خلال الخمسينيات والستينيات لسلسلة محيرة من الانقلابات والانقلابات المضادة التي قادها في الغالب الدروز أو العلويّون الذين لا يمكن نسيانهم؛ جنود (درّبهم الفرنسيون) مصمّمون على إعادة اختراع أنفسهم وبلادهم.
وكما كانت الحال في مصر في عهد عبد الناصر، كان سلك الضباط في سوريا بمثابة الحاضنة الجديدة للسلطة السياسية. ولكن على النقيض من المصريين، كان الضباط السوريون منقسمين فيما بينهم.
ولم تنتهِ هذه السلسلة من سفك الدماء وعدم الاستقرار السياسي المستمرّ إلا عندما شقّ حافظ الأسد، الأب، طريقه إلى القمة في عام 1970.
وكانت التحدّيات التي واجهت سلطته خلال أربعة عقود من الحكم تأتي من مصدرين، داخل عائلة الأسد نفسها، والأهم من ذلك، من الصحوة الإسلامية، والمتشدّدين، والتقليديين الذين نجحوا في عام 1956، ومرة أخرى في عامي 1964 و1984، وأخيراً في عام 2011، في تحدّي سلطة التفوّق العلوي التي استند إليها حكم عائلة الأسد.
وكانت دمشق تكافح، آنذاك كما هي الحال اليوم، من أجل إرساء زعامات مستقرة وخيرية راغبة في تقاسم السلطة عبر الانقسام الطائفي وقادرة على مقاومة استرضاء أيّ عدد من القوى الأجنبية، العربية والغربية، العازمة على الفوز بما أسماه المؤرخ البريطاني الشهير باتريك سيل "الصراع على سوريا".
وأحمد الشرع، الرئيس "المؤقت" الذي توّج حديثاً، هو أحدث زعيم عسكري سوري يزعم أنّه يرتدي عباءة الزعامة الوطنية، من بين دائرة ضيّقة من المنافسين الطموحين. ويعدّ الشرع، رمزاً لاستعادة التفوّق السنّي، وتستقرّ قوّته السياسية في أيدي القادة العسكريين السنّة والجهاديين.
ولكن ما زال من غير الواضح ما إذا كان الشرع يمارس سلطة حقيقية بارزة، أم أنه مجرّد حامل منصب مناسب ومتحدّث باسمه، تتمّ ترقيته من قبل الفصائل العسكرية المنتصرة، والتي ليست كلّها سورية، والتي يهيمن عليها أيديولوجيون سنّة عازمون على التغلّب على العلويين المحاصرين وأمراء الحرب الدروز والكرد في الجنوب والشمال الشرقي.
إنّ الانقسامات الطائفية والجغرافية في سوريا حقيقية وقوية سياسياً، لا تقلّ اليوم عن الانقسامات على مدار تاريخ سوريا الحديث. ولا تزال الجهود الرامية إلى خلق هوية سورية وطنية تستوعب أيضاً الولاء لطائفة أو عشيرة أو أمير حرب عملاً قيد التنفيذ، وتحدّياً من الدرجة الأولى للمتشدّدين السنة الذين يحكمون الآن.
ويهدف الشرع إلى الحفاظ على الأصدقاء والفوز على الأعداء. ويتعهّد المؤيّد السابق لتنظيم القاعدة باحترام الطبيعة الطائفية للحياة السورية ودعم شكل أكثر "شمولاً" للحكم، في حين يتفاوض على الاعتراف بسلطة أولئك الذين يتحدّون سيادة دمشق، وإضفاء الطابع المؤسسي عليها، إن وجد، والحد منها.
إنّ المجتمع المدني السوري، يأمل رغم كلّ ما تحمله سوريا من تاريخ، أن يتمكّن المقاتلون المنتصرون من تأدية دور قياديّ في رسم مستقبل سوريا السياسي.
ولكن منذ أواخر أربعينيات القرن العشرين، لم تكن الطبقة السياسية السورية، التي أنهكها النضال ضدّ الاستعمار الفرنسي، والتي تفوّق عليها لاحقاً سلك ضباط أكثر طموحاً وموهبة، وإن كان مقسّماً إلى فصائل متوطنة، منافساً جدّياً على السلطة.
إنّ عجز الطبقة السياسية السورية عن وضع حدود لدور الجيش في السياسة، وهو ما خلق الظروف اللازمة لصعود نظام الأسد، يظلّ التحدّي الأبرز الذي يواجه زعماء المجتمع المدني اليوم.
لقد بذل الشرع جهداً متضافراً، وإن لم يتحقّق، لصياغة سياسة خارجية "خالية من المشكلات". إنّ هذا يشمل "إسرائيل"، التي تحتلّ الأراضي السورية التي احتلّتها في عام 1967 ومؤخّراً في عام 2024. إنّ الجميع، باستثناء مصر السيسي، مستعدّون، في الوقت الراهن على الأقل، لمنح الشرع فرصة من دون الاستثمار كثيراً في نجاحه.
إنّ جهود الرئيس الجديد لإنشاء قوة أمنية موحّدة كمرساة للنظام أمر مفهوم. ويتحدّث الشرع عن دولة "طبيعية" أي دولة سنية. يعلن أنصاره عن ولادة "دولة الأمويين" من جديد، ممّا يضخّم مخاوف الأقليات المسيحية والدرزية والعلوية والشركسية القلقة من تعرّضها للخطر بسبب صعوده.
في عشية المداولات التي كانت تهدف إلى رسم مستقبل سوريا بعد الأسد، لم يجد الشرع نموذجاً سورياً يحتذي به. فالنخبة السُنّية التقليدية لا تقدّم الكثير من التوجيه. أما حزب البعث، الذي وعد "بالوحدة والحرية والاشتراكية"، فلم يقدّم سوى الضعف والبؤس والتدخّل الأجنبي.
لقد اجتاح الشرع دمشق كالريح الحارة، ويتعيّن عليه وعلى رفاقه الآن أن يثبتوا أنهم لم يتعلّموا من أولئك الذين هزموهم مؤخّراً فحسب، بل إنهم قادرون أيضاً على التغلّب على الإرث المضطرب الذي خلّفه من سبقوهم.
نقلته إلى العربية: بتول دياب.