"Responsible Statecraft": التطهير العرقي الإسرائيلي يقترب من نهايته في شمال غزّة
تبذل "إسرائيل" قُصارى جُهودها لطرد الفلسطينيين من قطاع غزّة، ضمن خُطّة كانت واضحة مُنذ وقت مُبكّر من الهجوم العسكري الإسرائيلي المستمرّ من أكثر من عام، وتقتربُ الآن من تحقيق هدفها في الجزء الشمالي من القطاع.
مجلة "Responsible Statecraft" الأميركية تنشر مقالاً للكاتب والباحث الأميركي بول ر. بيلار، يتحدّث فيه عن التطهير العرقي الذي تقوم به "إسرائيل" في شمال غزّة.
أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية بتصرّف:
تبذل "إسرائيل" قُصارى جُهودها لطرد الفلسطينيين من قطاع غزّة، ضمن خُطّة كانت واضحة مُنذ وقت مُبكّر من الهجوم العسكري الإسرائيلي المستمرّ من أكثر من عام، وتقتربُ الآن من تحقيق هدفها في الجزء الشمالي من القطاع. كذلك، أشار المسؤولون الإسرائيليون إلى ما يُؤكّد أنّ هذا هو هدفهم بالفعل. وفي الأسبوع الماضي، قال عميد في "الجيش" الإسرائيلي للصحافيين إنّ "طرد السكان من هذه المنطقة يعني أنّ إسرائيل لن تتخلّى عن هذه المنطقة". والتي تشمل مدينة بيت لاهيا ومخيّم جباليا للّاجئين، ولم يكن لدى "الجيش" الإسرائيلي أيّ نيّة لعودة السكان إطلاقاً، و"لن تسمح بدخول أيّ مُساعدات إنسانية إلى هذا الجزء من غزة، لأنّه لم يبقَ هناك أيّ مدنيّين"، كما قال المتحدّث باسم "الجيش" الإسرائيلي الذي حاول في وقت لاحق التراجع عن تصريحاته.
ولكنّ التقارير حول ما يحدث على الأرض، رغم الإجراءات الإسرائيلية الرامية إلى عرقلة التغطية الإعلامية من القطاع، تظهر أنّ الممارسات تتّسق مع عملية التطهير العرقي، حتّى إنّ مُراسلي صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية أكّدوا عمليات الطرد القسري للفلسطينيين، بينما أكّدت تقارير أخرى منع المساعدات الإنسانية كافة من الدخول إلى شمال غزّة، الأمر الذي يُؤدّي إلى مجاعة بين السكّان.
الصور السائدة في شمال غزة الآن هي تلك التي أصبحت مألوفة مُنذ أكثر من عام، حيث الأحياء السكنية تحوّلَتْ إِلى أنقاض، والفلسطينيون يبتعدون عن منازلهم مع ما يستطيعون من حمله من مُقتنيات قليلة، ويشبه المشهدُ مثيله في التطهير العرقي الإسرائيلي السابق للفلسطينيين أي نكبة عام 1948.
مع ذلك، النفي الإسرائيلي لا يُمكنه إخفاء أنّ ما يحدث هو نسخة من "خطّة الجنرالات"، وهو مشروع قُدّم إلى حكومة بنيامين نتنياهو في شهر أيلول/سبتمبر الماضِي، سُرّب بعد ذلك، ويقضي بقطع الإمدادات عن شمال قطاع غزّة وإبلاغ كلّ من يعيش هناك بضرورة مغادرته، أو سيعتبر مقاتلاً وسوف يُستهدف.
مع أنّ التركيز الحالي للعمليات الإسرائيلية ينصبّ الآن على الشمال، لكنّ الكثير ممّا قام به "الجيش" الإسرائيلي في مُختلف أنحاء قطاع غزّة خلال العام الماضي كان أيضاً مُتّسقاً مع التطهير العرقي. وعدد الضحايا الفعلي الذين لا تزال جثّامينهم تحت الأنقاض قد يكون أعلى بكثير من العدد الرسمي الذي يبلغ الآن نحو 43 ألف ضحية. فقد حوّل "الجيش" الإسرائيلي غزّة إلى أرض قاحلة غير صالحة للعيش، ودمّر أنظمة الرعاية الصحّية والتعليم والمرافق، وخدمات الطوارئ، ومعظم البنية التحتية الأخرى اللازمة لوجود المجتمع.
في الوقت ذاته، يحرص زعماء حركة الاستيطان اليهودية في الضفّة الغربية على توسيع المستوطنات نحو قطاع غزّة أيضاً. وبينما تُركّز "خطّة الجنرالات" بشكل أكبر على الجانب الأمني، مع فكرة تحويل الجزء الشمالي من القطاع الذي أطلقت منه حركة حماس هجومها في 7 تشرين الأوّل/أكتوبر في العام الماضي، إلى منطقة عازلة تُسيطر عليها القوات الإسرائيلية. وفي حين لا تزال حكومة نتنياهو خاضعة لانتقادات محلّية للسماح بهذا الهجوم، ستكون هذه الخطّةُ بمثابة منصّة لإعلان "إنجاز" يمكن الإشارة إليه، بعد استحالة تحقيق هدف "إسرائيل" المعلن في "تدمير" حركة حماس، كما أنّ هذه الخطّة لم تفعل شيئاً يُذكر لمنع أشكال أخرى محتملة من العنف الفلسطيني ضدّ "الجيش" الإسرائيلي.
لقد أدّت التغييرات السياسية الإسرائيلية الأخيرة إلى جعل حكومة نتنياهو أكثر ميلاً إلى المضي قدماً في التطهير العرقي في غزّة. ولقد أقال نتنياهو وزير الدفاع يوآف غالانت، لأنّه قد فضّل وقف إطلاق النار الذي يشمل إعادة الأسرى الإسرائيليين، وقال إنّه "لم يتبقّ شيء" للجيش الإسرائيلي ليفعله في غزّة". وتمّ استبدال غالانت بوزير الخارجية يسرائيل كاتس الذي يُعتبر على نطاق واسع رجلاً مُطيعاً لنتنياهو.
منّ التغييرات التي أجراها نتنياهو على حكومته زيادة انخراطه في الاعتماد ليس فقط على الأحزاب المتشدّدة التي تُفضّل الحفاظ على الإعفاء من الخدمة العسكرية الذي عارضه غالانت، ولكن أيضاً على المتطرّفين، مثل وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، وهو من الذين كانوا صريحين في الدعوة إلى إقامة مستوطنات يهودية في غزة وطرد الفلسطينيين. كما أنّ التطوّرَ السياسي في الولايات المتّحدة مع انتخاب دونالد ترامب وعودته إلى السلطة، أعطى نتنياهو قدراً أكبر من الحرّية لمواصلة التطهير العرقي. لقد كان سجلّ ترامب في ولايته الأولى في منح حكومة نتنياهو كلّ ما تريده تقريباً، سبباً في جعل فوزه هامّاً في "إسرائيل". وقد كان بن غفير وزميله الوزير المتطرّف بتسلئيل سموتريتش تغمرهما السعادة بفوز ترامب، وأعلنا عن أنّ عودته إلى منصبه، "هو وقت السيادة، وقت النصر الكامل".
البعض يُحاول تقديم رؤية مختلفة لتداعيات فوز ترامب والتوجّه نحو السلام في غزّةَ، من ضمنهم بعض الأميركيين العرب في ولاية ميشيغان الذين منحوه أصواتهم، لكن لا بدّ من وضع الأمل في مزاعم ترامب المتكرّرة بأنّه سينهي الحرب الحالية في الشرق الأوسط في سلّة الغموض حتّى الآن. ولا شكّ في أنّ ترامب، مثله كمثل أيّ رئيس قادم آخر، يرغب في أن يرى هذه الفوضى تزول من على طاولة سياسته الخارجية في أقرب وقت ممكن من ولايته. ولكنّ السعي إلى وضع حدّ أو نهاية جزئية للحرب لا يقول شيئاً عن الكيفية التي قد تنتهي بها. كان الجانب الآخر من سياسة ترامب في الشرق الأوسط خلال ولايته الأولى، إلى جانب الاحترام الشديد لنتنياهو، هو العداء للفلسطينيين، وقد ظهرت بالإجراءات من إغلاق المكتب الدبلوماسي الفلسطيني في واشنطن، إلى إلغاء التمويل لوكالة الأمم المتّحدة المسؤولة عن المساعدات الإنسانية للفلسطينيين "الأونروا". وخلال الحملة الرئاسية، استخدم ترامب كلمة فلسطيني كإهانة في وجه خصمه جو بايدن قبل انسحابه من المنافسة الانتخابية.
سوف يضغط ترامب على نتنياهو لإنهاء الهجوم الإسرائيلي على غزّة وعلى لبنان عاجلاً وليس آجلاً، لكنّه سيفعل ذلك من دون أن يقول أو يفعل شيئاً للفلسطينيين الذين يعيشون هناك. فترامب يُفضّل أن تقوم "إسرائيل" بـ "إنهاء المهمّة" في غزّة. والتطهير العرقي يُشكّلُ جُزْءاً رئيسيّاً من "المهمة" التي تقوم بها "إسرائيل" حالياً، والانتهاء من ذلك يعني استكمال التطهير العرقي في الطرف الشمالي للقطاع، حتّى لو كان ذلك يعني تأجيل تنفيذ الخطط الإسرائيلية الأكثر طموحاً لإفراغ بقية القطاع من سُكّانه إلى وقت آخر.
وبالإضافة إلى القضايا الأخلاقية والقانونية الواضحة التي ينطوي عليها هذا الأمر، فإنّ جريمة التطهير العرقي التي تُمارسها "إسرائيل" في غزّة لها عواقب أخرى على الاستقرار الإقليمي والمصالح الأميركية. ولن تنتهي المقاومة الفلسطينية لـ "إسرائيل"، بل سيستمرّ العنف في التفاقم. فالإجراءات الإسرائيلية المتطرّفة لن تُؤدّي إِلّا إلى زيادة الغضب والرغبة في الردّ. ونظراً لأنّ الاستبداد والظلم الإسرائيلي للفلسطينيين كان المصدر الأكبر لعدم الاستقرار والعنف في المنطقة، كما يتبيّن مجدّداً من خلال كيفية نشوء الحرب الحالية في لبنان وتبادل إطلاق النار بين "إسرائيل" وإيران نتيجة للوضع في غزّة، فإنّ التطهير العرقي سوف يعمل على دعم هذا القدر الأوسع من عدم الاستقرار، وسوف تصبح "إسرائيل" منبوذة على المستوى الدولي أكثر فأكثر مع ابتعاد أفعالها كثيراً عن أيّ شيء يُمْكن اعتباره ردّاً عادلاً ومُناسباً على الهجوم الذي شنّته حركة "حماس".
إنّ المدى الذي تُشارك فيه الولايات المتّحدة في الأعمال الإسرائيلية هذه، من خلال الاستمرار في توفير الأسلحة والغطاء الدبلوماسي، سوف يصبح على نحو متزايد هدفاً للازدراء الدولي أخلاقيّاً، وهو ضدّ مصالح الشركات التجارية الأميركية وضدّ مصالح مواطنيها.
نقله إلى العربية: حسين قطايا