"ذا إنترسبت": بعد انهيار النظام التعليمي.. أهالي غزّة يدرّسون أطفالهم بأنفسهم

أطفال غزة بلا مدارس منذ 13 شهراً والأهالي يبحثون عن المعلمين والمتطوعين العاطلين عن العمل لسد الفجوات.

  • "ذا إنترسبت": بعد انهيار النظام التعليمي.. أهالي غزّة يدرّسون أطفالهم بأنفسهم

موقع "ذا إنترسبت" الأميركي ينشر تقريراً لـ أحمد السمّاك

حين وصلت عائلة شريفة الدريملي إلى رفح في كانون الأول/ديسمبر الفائت، كان أطفالها بلا مدرسة منذ نحو ثلاثة أشهر. وكانت "إسرائيل" قصفت منزلهم في مدينة غزة بعد يومين من الهجوم العسكري على القطاع المحاصر، وهو ما أجبرهم على الاحتماء في المستشفى مدة شهر قاس. وعند تعرض المستشفى للحصار، غادرته العائلة كما فعل الأطباء والمرضى والنازحون. وأدّى قصف المبنى السكني المزدحم في مخيم النصيرات، والذي أعقبته أوامر إخلاء إسرائيلية، إلى فرار العائلة مرة أخرى.

وفي النصيرات، كافحت الدريملي للعثور على مدرسة لأطفالها. وبعد أن وجدت عائلتها الأمان النسبي في رفح، وهي الجزء الجنوبي من قطاع غزة، قررت أن تتولى زمام الأمور بنفسها.

وصرحت لموقع "ذا إنترسبت" قائلةً: "لقد كنت أمضي ما لا يقل عن ثلاث ساعات يومياً في تعليم أطفالي"، حيث كانت تتنقل بين تدريسهم والقيام بالمهمات المنزلية، مثل الطهو وتسخين المياه، والتي أصبحت أكثر إرهاقاً في خضم الحرب. "لقد كان الأمر صعباً للغاية". 

وخلال تلك الفترة، كانت المدارس في جميع أنحاء غزة تحولت إلى ملاجئ للنازحين. وعلى مدى الأشهر الـ13 الماضية، دمر "الجيش" الإسرائيلي 93% من المدارس والمؤسسات التعليمية في غزة، وعلق التعليم الرسمي لجيل كامل فيما أطلق عليه خبراء الأمم المتحدة "إبادة المدارس". وتشير تقارير وزارة التربية والتعليم في غزة إلى أن نحو 650 ألف طالب في سن الدراسة، و200 ألف طالب في مرحلة التعليم العالي، و35 ألف طفل مسجل في رياض الأطفال، تعطلت دراستهم، في حين قتلت "إسرائيل" 11600 طفل في سن الدراسة وأصابت عشرات الآلاف غيرهم.

وفي أيلول/سبتمبر، أطلقت وزارة التربية والتعليم الفلسطينية في الضفة الغربية مدارس إلكترونية للطلاب في غزة للسماح لهم بمواصلة تعليمهم عبر الإنترنت. إلا أنّ الانقطاع المتكرر للإنترنت والكهرباء جعل هذا الأمر مستحيلاً بالنسبة إلى عدد لا يحصى من الناس في غزة؛ وحتى أولئك الذين فروا إلى مصر ما زالوا يعانون صعوبة الحصول على التعليم.

ويلجأ الأهالي مثل عائلة الدريملي، العازمون على الحفاظ على ما يشبه التعليم لأطفالهم الصغار، إلى الصفوف غير الرسمية التي يقدمها المعلمون والمتطوعون العاطلون من العمل بدلاً من ذلك.

وذكرت أنّ يوسف الدريملي، البالغ من العمر 9 سنوات، كان من الطلاب المتفوقين، إلا أنه بعد مرور شهرين على الحرب، كان يكافح من أجل كتابة اسمه. وقالت والدتهما إن الحرب أثرت سلباً على نفسيته وعلى نفسية شقيقته فاتنة البالغة من العمر 11 عاماً. وأضافت الدريملي: "لقد تأثر تركيزهما بشدة. وتسبب بمشكلة نفسية". 

ملاجئ النازحين مدارسهم

لقد عانى يوسف وفاتنة الأمرّين. فعندما أطلق جنود إسرائيليون قذائف مدفعية على بنايتهم في النصيرات في كانون الأول/ديسمبر الماضي، أصيبت ساق الدريملي بينما استشهد اثنان من أقارب زوجها. وبعد عدة أشهر في رفح، أجبر الغزو الإسرائيلي للمنطقة، التي يعيش فيها أكثر من مليون فلسطيني، الأسرة على حمل أمتعتها والمغادرة مرة أخرى. وفي شهر أيار/مايو، عادت إلى النصيرات، إلى نفس الغرفة في نفس المبنى الذي أقامت فيه العام الفائت.

وفي ظل استمرار إغلاق المدارس الرسمية، أطلق عدد من المتطوعين والمنظمات غير الربحية عدّة مبادرات تعليمية للطلاب النازحين. إلا أنّه لم يكن من السهل على الدريملي أن تجد مكاناً لأطفالها في النصيرات.

وقالت: "لقد عثرت على بعض المبادرات التعليمية التي تديرها المنظمات غير الحكومية والناشطون الذين يدرّسون الطلاب في خيام، إلا أنّ هذه الخيام كانت ممتلئة ولم يتمكنوا من استقبال أطفالي".

وفي النهاية، عثرت الدريملي على آية حسن، وهي معلمة لغة إنكليزية نازحة كانت تعيش في مكان قريب وتقدم دروساً للعائلات في المنطقة.

وقالت آية حسن لموقع "ذا إنترسبت" إنها بدأت بتعليم أطفالها، عماد الدين البالغ من العمر 10 سنوات ونادية البالغة من العمر 7 سنوات وآدم البالغ من العمر 5 سنوات، بعد فرارهم من مدينة غزة. وفي وقت لاحق، طلبت منها الكثير من العائلات النازحة تعليم أطفالها. 

في البداية، كانت آية حسن تزور خيام العائلات لإعطاء الدروس. ثم عرضت صاحبة المبنى المؤلف من 35 شقة وهي من آل الدريملي على حسن مساحة صغيرة مجاناً، ما سمح لها بتعليم الأطفال النازحين في المنطقة مقابل رسوم زهيدة جداً. وقالت حسن إنها فقدت وظيفتها كمعلمة ومترجمة بسبب الحرب، وكانت الفصول الدراسية مصدر الدخل الوحيد لأسرتها المكونة من خمسة أفراد. وكانت تتقاضى من الطلاب شيكلين (0.54 دولار أميركي) عن كل صف، وتكسب نحو 700 شيكل شهرياً.

وأردفت: "لقد درّست اللغة الإنكليزية والعربية والرياضيات لـ 30 طالباً باستخدام أساليب ممتعة. وكان الأمر بمثابة وسيلة لتخفيف التوتر بالنسبة لهم أكثر من مجرد تجربة تعليمية، في ظل غياب الكتب والمذكرات". 

لم يكن التدريس في زمن الحرب خالياً من التحديات. ووفقاً لحسن، فقد كانت المساحة صغيرة  باعتبار أن أكثر من 100 شخص يحتمون في الطبقة السفلية نفسها من دون كهرباء أو تهوية جيدة. وكان الافتقار إلى الإنترنت يمثل تحدياً كبيراً، إذ كنت أحتاج إليه لتشغيل بعض الأغاني أو مقاطع الفيديو التعليمية. تمنيت حقاً أن يكون لدي إنترنت لمتابعة طلابي بعد انتهاء الحصص الدراسية".  

"عند وقوع هجوم أثناء الفصول الدراسية، يرتعب الأطفال. بعضهم يهرب والبعض الآخر يمسك بيدي. وأنا أيضاً كنت أخاف من القصف".  

وعلى الرغم من أن أطفال الدريملي كانوا يحضرون الفصول الدراسية مع حسن، فإن ذلك لم يكن بديلاً من التعليم التقليدي، ولاسيما في ظل أهوال الحرب الإضافية.

وكثيراً ما تتذكر فاتنة مدرستها القديمة في مدينة غزة. وقالت لموقع "ذا إنترسبت": "كان هناك ملعب لكرة القدم وآخر لكرة السلة. وعندما هربنا، لم آخذ معي زيي المدرسي الجديد وحقيبتي. لقد استفدت من المعلمة [حسن]، إلا أنه في نفس الوقت من العام الماضي، كنت في مدرستي. كل ما أحلم به هو العودة إلى منزلنا في غزة". 

في 4 تشرين الأول/أكتوبر، قصفت "إسرائيل" فجأة المبنى الذي كانت الأسرة تحتمي فيه. واضطرت مع أكثر من 700 آخرين إلى البحث عن مأوى جديد مرة أخرى. ومع نزوح نحو 90% من سكان غزة داخلياً وتدمير مساحات كبيرة من القطاع بشكل كامل، فإن العثور على مكان جديد للعيش فيه يمثل تحدياً بحد ذاته. وبعد معاناة، تمكنت الدريملي من تأمين خيمة في قرية الزوايدة وسط القطاع. وهناك، وجدت صفوفاً لأطفالها في الخيام المحلية. في المقابل، لم تجد آية حسن مكاناً آخر لتعليم الأطفال النازحين. 

لا صفة رسمية في مصر

لقد فرّ أكثر من 105 آلاف فلسطيني من الحرب إلى مصر، حيث لا يزال الكثير منهم يواجه تحديات في الحصول على التعليم والخدمات الأخرى. ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى أن مصر منحتهم، عند فرارهم من غزة، تأشيرة مدتها 45 يوماً فقط ولم يتم تجديدها. وهذا يعني أنه ليس لديهم وضع قانوني في البلاد ولا يمكنهم تسجيل أطفالهم في المدارس العامة أو فتح حسابات مصرفية أو الاشتراك في خدمات الإنترنت.

ووصف أحد الفلسطينيين من غزة، الذي وصل إلى مصر في نيسان/أبريل مع طفليه، لموقع "ذا إنترسبت"، العقبات التي واجهها في أثناء محاولته إلحاق ولديه البالغين من العمر 6 و9 سنوات بالمدرسة. وطلب من الموقع الامتناع عن نشر اسمه، خوفاً على سلامته.

وقال للموقع: "لقد قصدت عدداً من المدارس الحكومية ووزارة التربية والتعليم في مدينة العبور [خارج القاهرة]، فأخبروني أننا لا نقبل الأطفال الفلسطينيين الذين لا يحملون تصاريح إقامة". والمدارس الخاصة تُعدّ بعيدة المنال. فإحدى المدارس التي تحرّى عنها تتقاضى 280 ألف جنيه مصري (5740 دولاراً أميركياً) في السنة، في حين طلبت مدرسة أخرى 149 ألف جنيه مصري (3050 دولاراً أميركياً). 

وتابع قائلاً: "تخيل أننا فقدنا كل شيء في الحرب. كيف يمكننا تحمل ذلك؟ لقد قالوا إنهم سيسمحون لأطفالي بالتسجيل، لكن من دون شهادة [إكمال] في حال لم تكن لديهم إقامة قانونية". 

وبعد خمسة أشهر، تمكن من العثور على مدرسة جديدة في القاهرة للأطفال الفلسطينيين تدرس المنهج الفلسطيني مجاناً. ويحضر أطفاله حالياً فصولهم الدراسية، ولكن بعد أن خسر ابنه الأكبر عاماً دراسياً كاملاً.

ويتوافر للفلسطينيين خيار آخر في مصر وهو الأزهر، وهو مؤسسة إسلامية مشهورة. وقد قام بعض الآباء بتسجيل أطفالهم في مدارس تابعة له، لكنهم وجدوا صعوبة في التكيف مع المنهج الدراسي الذي يركز بشكل كبير على الدراسات الدينية.

وقالت فداء عوني، وهي سيدة فلسطينية تعيش في مصر مع ابنتين في سن الدراسة وزوجها لا يزال عالقاً في غزة، لموقع "ذا إنترسبت": "أطفالي ليسوا معتادين على هذه المناهج الجديدة. وقد استغرق الأمر خمسة أشهر لتحقيق تقدم بسيط". 

وأشارت ابنتها سلمى عماد، البالغة من العمر 13 عاماً، والتي تدرس بالأزهر في الإسكندرية منذ خمسة أشهر، إلى إن التكيف مع المنهج الجديد كان أمراً صعباً.

وفي حديثها إلى الموقع، قالت: "الصفوف الدينية كثيرة، لكن المواد الأخرى جيدة. لا زلت أفضّل المنهج الفلسطيني. أساتذتي المصريون طيبون والمدرسة جيدة، لكن مدرستي في غزة كانت أكبر وأجمل". 

إنّ الدروس عبر الإنترنت التي تقدمها وزارة التربية والتعليم الفلسطينية ليست خياراً لأطفال عوني. فقد أشارت عوني إلى أنها "لا تملك إنترنت ثابتاً ولا تملك جهاز كمبيوتر محمولاً أو جهاز "آيباد"، ومعرفتي بالتكنولوجيا محدودة للغاية. ولم يسبق لي أن أرسلت بريداً إلكترونياً". 

علاوة على ذلك، تعتقد بأن التدريس عبر الإنترنت ليس بفعالية التعليم الحضوري نفسها. وقالت إن كثيرين من طلاب غزة يتلقون دروساً عبر الإنترنت أثناء وجودهم في مصر للحصول على الشهادة فحسب، لكنهم يكملون تعليمهم بدروس خاصة. في المقابل، تنظر ابنتها صبا البالغة من العمر 9 سنوات إلى هذه التحديات، ولاسيما في ظل غياب والدها، بعين مغايرة.

وصرّحت لموقع "ذا إنترسبت"، قائلةً: "أريد متابعة الدراسة لسببين. أولهما، لأجل والدي، لأني أريد أن أجعله فخوراً بي. وثانياً، تحدياً لـ’إسرائيل" التي دمرت مدارسنا لتحويلنا إلى شعب غير متعلم".

نقلته إلى العربية: زينب منعم

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.