"Antiwar": خطّة التطهير العرقي في غزّة.. لم يخترعها ترامب

إنّ ابتكار ترامب لا يتمثّل في التهديد بتطهير غزة، بل إنه يتلخّص في التخلّي عن هدف قديم يتمثّل في تصوير طرد الفلسطينيين على أنه خطة سلام.

  • الدمار في غزة
    الدمار في غزة

موقع "Antiwar" الأميركي ينشر تقريراً يتحدّث فيه عن خطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب بشأن غزة. ويقول الموقع إنّ الخطة ليست من اختراع ترامب، بل هي خطة غربية قديمة، كشف عنها ترامب الآن، ويصوّرها الغرب على أنّها خطة سلام، ويقوم الإعلام الغربي بتجميلها ووضعها بقالب "أخلاقي وإنساني".

أدناه نص التقرير منقولاً إلى العربية:

كانت نيّة وأهداف بنيامين نتنياهو، حين أطلق هجومه "الانتقامي" المستمرّ على غزّة منذ 16 شهراً، إمّا التطهير العرقي أو الإبادة الجماعية للفلسطينيين. وعلى طوال هذه المدّة كان الرئيس الأميركي السابق جو بايدن متواطئاً في جريمة الإبادة الجماعية، أمّا الرئيس الجديد دونالد ترامب فهو حليف نتنياهو في التطهير العرقي. بايدن قدّم القنابل التي يبلغ وزنها 2,000 رطل للإبادة الجماعية، ويقال إنّ ترامب يقدّم الآن القنابل الأكبر إطلاقاً التي يبلغ وزنها 11 طنّاً، لتحفيز نزوح السكّان.

ادّعى بايدن أنّ "إسرائيل" تساعد سكّان غزة من خلال "القصف البساطي" على القطاع "للقضاء على حماس" على حدّ تعبيره، بينما يزعم ترامب أنّه يساعد الفلسطينيين في القطاع من خلال" نقلهم من وطنهم" لتنظيف "موقع مهدّم". وكان بايدن قد وصف تدمير 70% من مباني غزّة بأنه "دفاع عن النفس"، في حين يقول ترامب إنّ التدمير الوشيك لكلّ ما تبقّى آتٍ، وإنّ "الجحيم كلّه سيندلع".

وقد واظب بايدن على القول إنّه "يعمل بلا كلل من أجل وقف إطلاق النار"، وهو يشجّع "إسرائيل" على مواصلة قتل الأطفال شهراً بعد شهر، في الوقت عينه. ويدّعي ترامب أنّه دعم مفاوضات وقف إطلاق النار، لكنّه يغضّ الطرف الآن عن انتهاك "إسرائيل" للاتفاق، من خلال الاستمرار في الغارات والعمليّات العسكرية ضدّ الفلسطينيين في غزّة والضفّة الغربية على حدّ سواء. ومن خلال رفض دخول شاحنات المساعدات الحيوية ومعظم الخيام الموعودة أو المنازل المتنقّلة تقريباً. إضافة إلى حرمان ومنع المئات من الفلسطينيين الجرحى والمحتاجين إلى العلاج في الخارج بالانتقال. كذلك، من خلال منع عودة الفلسطينيين إلى ديارهم في شمال غزّة، وعدم الانخراط في المرحلة الثانية من مفاوضات وقف إطلاق النار.

على الرغم من أنّ معظم وسائل الإعلام تعاملت على نطاق واسع مع هذه الانتهاكات الإسرائيلية، على أنّها مزاعم حركة "حماس"، أكّد صحّتها 3 مسؤولين إسرائيليين ووسيطين لصحيفة "نيويورك تايمز". بتعبير آخر، لقد خرقت "إسرائيل" الاتّفاق في المستويات كلّها، وترامب يقف خلف هذه "الدولة" الأكثر تفضيلاً بقدر ما فعل بايدن من قبله.

"اندلاع الجحيم"

بما أنّ "إسرائيل" كانت تعلم جيّداً خروقاتها لاتّفاق وقف إطلاق النار، فلم يكن لدى حركة "حماس" سوى أداة ضغط وحيدة لفرض تنفيذ الاتّفاق، من خلال رفض إطلاق سراح المزيد من الأسرى الإسرائيليين لديها. وهو بالضبط ما أعلنت عنه الحركة الفلسطينية وفعلته حتّى تحترم "إسرائيل" بنود الاتّفاق.

وفي جهد ثنائي مألوف، قدّمت "إسرائيل" عرضاً لغضبهما الوهمي. ولم يفوّت ترامب أيّ وقت في تصعيد المخاطر بشكل كبير. ولقد منح "إسرائيل" أو ربّما الولايات المتّحدة بذاتها، الضوء الأخضر "لإطلاق الجحيم"، ممّا يعني على الأرجح استئناف الإبادة الجماعية.

وكان ترامب قد هدّد في حال رفضت "حماس" إطلاق سراح الأسرى الثلاثة المقرّر بحلول الموعد النهائي ظهر يوم السبت الفائت، فعليها الآن الإفراج عن الأسرى جميعهم. وقال إنّه لن يقبل بعد الآن إطلاق سراح "القطرات والقطرات" على مدار المرحلة الأولى من وقف إطلاق النار التي تستمرّ 6 أسابيع. بصيغة أخرى، ينتهك ترامب شروط وقف إطلاق النار الأوّلي الذي تفاوض فريقه على تحقيقه. وبات من الواضح أن لا نتنياهو ولا ترامب يحاولان إنقاذ الاتّفاق، بل إنهما يعملان بلا كلل لتفجيره.

وكانت صحيفة "هآرتس" قد ذكرت في نهاية الأسبوع الماضي، عن مصدر إسرائيلي أنّ هدف نتنياهو هو "عرقلة" وقف إطلاق النار قبل أن يصل إلى المرحلة الثانية حيث من المفترض أن تنسحب القوّات الإسرائيلية بالكامل من القطاع، وتبدأ مرحلة إعادة الإعمار. مع أنّه بمجرد "أن تدرك حماس أن لا مرحلة ثانية، فقد لا تكمل المرحلة الأولى"، بحسب ما قال المصدر للصحيفة. فحين أصرّت حماس على الإفراج التدريجي عن الأسرى تحديداً، فعلت ذلك لكسب الوقت، مع العلم أنّ "إسرائيل" ستكون حريصة على استئناف المذبحة بمجرّد أن تعيد الأسرى.

وحتّى يتمكّن ترامب وأصدقاؤه من أصحاب المليارات من الاستفادة من إعادة اختراع القطاع بوصفه "ريفيرا الشرق الأوسط"، وسرقة عائدات حقول الغاز في بحر غزّة، على الفلسطينيين إمّا القبول بالتطهير العرقي أو مواجهة العودة إلى الإبادة الجماعية.

الجزء الهادئ بصوت عالٍ

كما كان ينبغي أن يكون واضحاً، وافق نتنياهو فقط على وقف إطلاق النار الذي أعلنته واشنطن فقط لأنّه يعلم أن الاتّفاق لم يكن حقيقياً أبداً. ولقد كانت موافقة مؤقّتة حتّى تتمكّن الولايات المتّحدة من إعادة ترتيب رواية بايدن عن الإبادة الجماعية بينما يتسلّم الرجل القوي والأكثر وضوحاً منصبه.

والآن، أصبح الأمر كلّه يتعلّق بـ "فنّ الصفقة" وفرص الاستثمار العقاري. ولكن، خطّة ترامب "لامتلاك" غزّة و "تنظيفها" تركت حلفاءه في أوروبا، بل أتباعه في الحقيقة، يتلوّون في مقاعدهم.

وكما هو الحال دائماً، لدى ترامب عادة مزعجة في قول الجزء الهادئ بصوت عال. من تمزيق قشرة الأخلاق الغربية المهشّمة بالفعل، وإظهار الجميع بمظهر سيّئ. وتبقى الحقيقة، هي أنّه على مدار 15 شهراً فشلت "إسرائيل" في تحقيق أيّ من أهدافها المعلنة في غزّة، من القضاء على "حماس" إلى تأمين عودة الأسرى، لأنّ أيّاً من هذه لم تكن الأهداف الحقيقية.

حتّى إنّ وزير خارجية بايدن، أنتوني بلينكن، اضطرّ إلى الاعتراف بأنّ المذبحة الجماعية التي ارتكبتها "إسرائيل"، أدّت إلى زيادة كبيرة بعدد المتطوّعين في صفوف مقاتلي حركة "حماس".

وكانت تقارير عسكرية إسرائيلية قد كشفت في الأسبوع الماضي، أنّ "إسرائيل" قتلت العديد من أسراها في غزّة باستخدام قنابل ضخمة عشوائيّاً لكسر التحصينات زوّدتها بها الولايات المتّحدة. ولم تتسبّب هذه القنابل في إنشاء مناطق انفجار ضخمة فحسب، بل كانت أيضاً بمثابة أسلحة كيميائية، حيث أغرقت أنفاق "حماس" بأوّل أكسيد الكربون، وخنقت الأسرى. وكان وزير الأمن الإسرائيلي السابق يوآف غالانت قد أكّد في مقابلة تلفزيونية، عن عدم اكتراث القيادة الإسرائيلية بمصير الأسرى. كما اعترف بأنّ "الجيش" استخدم ما يسمّى بروتكول "هنيبعل" في أثناء هجوم "حماس" في 7 أكتوبر 2023، ممّا سمح للجنود بقتل الإسرائيليين بدلاً من المخاطرة بالسماح لهم بأخذهم كأسرى حرب من قبل الجماعة الفلسطينية.

كلّ هذه الأمور التي تلقي ضوءاً مختلفاً على سردية تصرّفات "إسرائيل" في غزّة، تمّ طمسها بشكل شبه كامل من قبل وسائل الإعلام الغربية.

الحدّ من الضرر

كانت خطّة "إسرائيل" منذ البداية هي التطهير العرقي لفلسطيني غزّة، والآن يوضّح ترامب ذلك صراحة. وفي الواقع، اضطرّت وسائل الإعلام الغربية إلى الدخول في سباق محموم للحدّ من الضرر من الإعلان عن الخطّة أمام جمهورها، باستخدام تعابير ملطّفة لتجنّب توضيح أنّ ترامب و"إسرائيل" يستعدّان للتطهير العرقي لأكثر من مليوني فلسطيني يعيشون في غزّة. هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" مثلاً، تتحدّث عن "إعادة التوطين" لسكّان القطاع، وأنّ الفلسطينيين على شفا المغادرة لأسباب غامضة. بينما أشارت صحيفة "نيويورك تايمز" إلى التطهير العرقي على نحو إيجابي، وعلى أنّه "خطة التنمية" التي وضعها ترامب، بينما تصفها وكالة "رويترز" بلا مبالاة، بأنّها مجرّد "نقل" لسكّان غزّة.

لقد وُضعت العواصم الغربية ووسائل الإعلام المتوافقة معها في هذا الموقف المزعج، لأنّ الدول العميلة لواشنطن في الشرق الأوسط رفضت مواجهة "إسرائيل" وخطّة ترامب للتطهير العرقي. وعلى الرغم من المذابح الإسرائيلية المتزايدة باستمرار، رفضت مصر فتح حدودها القصيرة مع غزّة للسماح للسكّان الذين تعرّضوا للقصف والجائعين بالتدفّق إلى سيناء المجاورة.

بطبيعة الحال، لم يكن هناك أيّ سؤال مطروح عن إمكانية أن تسمح لهم "إسرائيل" بالعودة إلى قراهم وبلداتهم في فلسطين، والتي طردوا منها في الأصل تحت تهديد السلاح في العام 1948، لأجل إنشاء دولة يهودية أعلنت من جانب واحد. وحينها، كما هو الحال الآن، تواطأت القوى الغربية في عمليّات التطهير العرقي الإسرائيلية. هذا هو السياق التاريخي الذي تتغاضى عنه وسائل الإعلام الغربية، وحتّى في المناسبات النادرة التي تعترف فيها بوجود مشكلة تصوّرها ذات صلة بـ "الهمجية الفلسطينية المفترضة"، وتلجأ إلى استخدام مصطلحات مراوغة مثل "دورات العنف" و"العداوات التاريخية".

بعد أن تراجعت نوبات ترامب في الأيّام القليلة الماضية، فضّل السياسيون الغربيون ووسائل الإعلام، الإيحاء بأنّ "خطّة التنمية" التي وضعتها إدارته في غزّة هي في الواقع ابتكار. مع أنّه في الحقيقة الرئيس ترامب لا يقدّم أيّ جديد عندما يطالب بتطهير عرقي للفلسطينيين في غزّة. والفرق هنا هو أنّ اقتراحه يتّسم بالوضوح غير المعتاد لسياسة أميركية راسخة منذ أمد بعيد، حين وضعت "إسرائيل" دائماً خططاً لطرد الفلسطينيين من غزّةَ إلى مصر ومن الضفّة الغربية إلى الأردن.

والأمر الأكثر أهمّية كما أشار موقع "ميدل إيست آي" قبل عقد من الزمن، هو أنّ واشنطن كانت على استعداد تامّ لتنفيذ الجزء المتعلّق بغزّة من مشروع الطرد منذ المراحل الأخيرة من رئاسة جورج دبليو بوش الثانية في عام 2007، أي قبل 18 عاماً.

ولقد حاول كلّ رئيس أميركي، من ضمنهم باراك أوباما، الضغط على مصر لمنح "إسرائيل" فرصة طرد سكّان غزّة إلى سيناء، لكنّ، القاهرة قاومت الضغوط، ورفضت الأمر في مختلف المراحل.

السرّ المكشوف

هذا السرّ المكشوف غير معروف بين الناس، الأمر الذي يتيح للمسؤولين والسياسيين الغربيين، التظاهر أمام الرأي العامّ بالجزع من اقتراح ترامب. ولماذا الآن، لأنّ الأمر يبدو سيّئاً، ويزداد سوءاً حين يتجلّى الابتذال في عرض ترامب "العقاري"، خاصّة في خضمّ اتّفاق وقف إطلاق النار المفترض.

لقد كان القادة الغربيون يأملون تحقيق التطهير العرقي لغزّةَ بمزيد من اللياقة، أو بطريقة "إنسانية" كانت ستكون أكثر فعّالية في خداع الرأي العامّ على ضفتي الأطلسي، والحفاظ على ادّعاء الغرب بأنّه متمسّك بالقيم الحضارية في مواجهة "الهمجية" الفلسطينية المزعومة.

ومنذ عام 2007، يعرف مشروع التطهير العرقي المشترك بين واشنطن و"إسرائيل" باسم "خطّة غزّة الكبرى". وكان الحصار الإسرائيلي للجيب الصغير، الذي بدأ في أواخر عام 2006، مصمّماً لخلق الكثير من البؤس والفقر لدرجة أنّ الناس هناك كانوا يصرخون للسماح لهم بالخروج. وكان هذا عندما بدأت "إسرائيل" في صياغة ما يسمّى بـ "حمية الجوع" لسكّان القطاع، مع احتساب السعرات الحرارية لإبقائهم بالكاد على قيد الحياة. 

كان توجّه "إسرائيل" في غزّة هو أنّها مثل أنبوب معجون الأسنان يمكن عصره. وبمجرّد أن ترضخ مصر وتفتح الحدود، السكان سوف يتدفّقون إلى سيناء بدافع اليأس.

وقد تعرّض كلّ رئيس مصري للتنمّر والضغط والرشوة للاستسلام، لكنّ، الرؤساء حسني مبارك ومحمّد مرسي وعبد الفتاح السيسي، رفضوا جميعاً الرضوخ.

ولم تكن مصر واقعة تحت أيّ أوهام بشأن ما كان على المحكّ بعد 7 تشرين الأوّل/أكتوبر 2023. ولقد أدركت تماماً أنّ خطّة "إسرائيل" لغزّة كانت مصمّمة للضغط على الأنبوب بقوّة بحيث يجبر الجزء العلوي على الخروج.

الضغط على مصر

منذ البداية، صرّح مسؤولون مثل مستشار الأمن القومي الإسرائيلي السابق غيورا آيلاند، علناً أنّ الهدف هو جعل غزّة "مكاناً لا يمكن أن يوجد فيه أيّ إنسان". وبعد أسبوع واحد فقط من هجوم "حماس" في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، قال المتحدّث باسم الجيش أمير أفيفي، إنّ "إسرائيل لا تستطيع ضمان سلامة المدنيين في غزّة. وعليهم التوجّه جنوباً إلى شبه جزيرة سيناء".

في اليوم التالي، قام أحد المقرّبين من نتنياهو والسفير الإسرائيلي السابق لدى الولايات المتّحدة داني أيالون، بتضخيم هذه النقطة وقال إنّ "هناك مساحة لا نهاية لها تقريباً في صحراء سيناء، وسنقوم نحن والمجتمع الدولي بإعداد البنية التحتية، والكرة الآن في ملعب مصر".

وقد كُشف عن تفكير "إسرائيل" في مسوّدة سياسية مسرّبة من وزارة الاستخبارات. واقترح أنّه بعد طرد الفلسطينيين، سيؤوون في مدن من الخيام بداية، قبل بناء مساكن دائمة في شمال سيناء.

في الوقت ذاته، ذكرت صحيفة "فايننشال تايمز" أنّ نتنياهو كان يضغط على الاتّحاد الأوروبيّ بشأن فكرة دفع فلسطينيي القطاع إلى سيناء تحت غطاء الحرب.

وقيل إنّ بعض أعضاء الاتّحاد الأوروبيّ، بما في ذلك جمهورية التشيك والنمسا، كانوا متقبّلين للفكرة، وطرحوها في اجتماع للدول الأعضاء. وقال دبلوماسي أوروبيّ لم يذكر اسمه للصحيفة المذكورة إنّه "حان الوقت الآن لممارسة المزيد من الضغط على المصريين للموافقة"، في حين كانت إدارة بايدن تزوّد "إسرائيل" بالقنابل للحفاظ على مستوى ضغط مرتفع. 

وكان السيسي مدركاً تماماً لما كانت تواجهه مصر، من خطّط غربية منسّقة للتطهير العرقي لغزّة. ولم يكن لذلك أيّ علاقة بترامب، الذي كان على بعد أكثر من عام من انتخابه رئيساً.

في منتصف تشرين الأول/أكتوبر 2023، بعد أيّامٍ من المذبحة، ردّ السيسي في مؤتمر صحافي مع المستشار الألماني أولاف شولتس بالقول إنّ "ما يحدث الآن في غزّة هو محاولة لإجبار السكان المدنيين على اللجوء والهجرة إلى مصر، لا يمكن قبوله".

كان هذا هو بالضبط السبب في أنّه كرّس الكثير من الجهد لتحصين الحدود القصيرة المشتركة بين غزّة وسيناء قبل وبعد بدء الإبادة الجماعية الإسرائيلية للفلسطينيين.

خطاب مبيعات السلام

الواقع أنّ خطّة المبيعات لترامب سوريالية إلى هذا الحدّ، بسبب التزامه على نحو غير مبالٍ بالنصّ الأصلي، محاولاً أن تبدو الخطة إنسانية إلى حدّ ما، بينما يزيد تسليح "إسرائيل" بالقنابل الضخمة، ويهدّد بـ "اندلاع الجحيم". وهو يقارن اقتراحه بمحنتهم الحالية، "إنّهم يقتلون هناك بمستويات لم يشهدها أحد من قبل. لا يوجد مكان في العالم أكثر خطورة من قطاع غزّة، وهم يعيشون في الجحيم". ويبدو أنّ هذه هي الطريقة الواضحة للغاية التي يستخدمها ترامب لوصف الإبادة الجماعية التي تنكر "إسرائيل" ارتكابها، والولايات المتّحدة تنكر تسليحها.

وكان نتنياهو قد تحدّث عن العثور على "قطعتي أرض في مصر والأردن حيث يمكن لشعب غزة العيش في سعادة وأمان كبيرين".

والكلام عن مساعدة سكّان غزّة ليس سوى بقايا خطابية قديمة، حين كانت الإدارات الأميركية المتعاقبة تستعدّ لبيع التطهير العرقي كجزء لا يتجزّأ من مرحلة جديدة من "عملية السلام" الأسطورية.

وكما أشار موقع "ميدل إيست آي" في عام 2015، فقد تمّ تجنيد واشنطن للمشاركة في خطّة غزّة الكبرى في عام 2007. وكان الاقتراح آنذاك أن تتخلّى مصر عن 1600 كيلومتر مربع من المساحة في سيناء، أي 5 أضعاف مساحة غزّة لتكون تحت سلطة رام الله برئاسة محمود عباس.

إنّ الفلسطينيين من غزّة سوف يتمّ "تشجيعهم" أي الضغط عليهم من خلال الحصار وحظر المساعدات، فضلاً عن حلقات متقطّعة من القصف الشامل المعروف باسم "جزّ العشب"، للفرار من هناك.

وفي المقابل، سوف يضطرّ عباس إلى التنازل عن الدولة الفلسطينية في فلسطين التاريخية، وتقويض حقّ العودة للاجئين الفلسطينيين المنصوص عليه في القانون الدولي، ونقل عبء المسؤولية عن قمع الفلسطينيين إلى مصر والعالم العربي على نطاق أوسع.

وقد قدّمت "إسرائيل" خطّة سيناء بين عامي 2007 و2018 على أمل تخريب حملة عباس في الأمم المتّحدة سعياً للحصول على الاعتراف بالدولة الفلسطينية.

ومن الجدير بالذكر أنّ الهجمات العسكرية الإسرائيلية واسعة النطاق على غزّة في شتاء عام 2008، و2012، ومرّة ​​أخرى في عام 2014، تزامنت مع الجهود الإسرائيلية والأميركية المزعومة للضغط على الزعماء المصريين المتعاقبين للتنازل عن أجزاء من سيناء.

عقارات الواجهة البحرية

إنّ ترامب على دراية تامّة بخطّة غزّة الكبرى منذ رئاسته الأولى. وتشير التقارير الصادرة في عام 2018، إلى أنّه كان يأمل تضمينها في خطّته "صفقة القرن" لتحقيق التطبيع بين "إسرائيل" والعالم العربي. وفي ذلك العام، استضاف البيت الأبيض 19 دولة في مؤتمر لدراسة أفكار جديدة للتعامل مع الأزمة المتصاعدة في غزّة، والتي هي من صنع "إسرائيل" بالكامل، حيث شارك في الاجتماع ممثّلون من مصر والأردن والمملكة العربية السعودية وقطر والبحرين وعمان والإمارات العربية المتحدة، بينما قاطع الفلسطينيون الاجتماع.

وبعد بضعة أشهر في صيف عام 2018، زار جاريد كوشنر، صهر ترامب ومهندس خطّتِه للشرق الأوسط، مصر. وبعد وقت قصير أرسلت "حماس" وفداً إلى القاهرة للاطّلاع على المقترحات. وكما أنّ خطّة ترامب إنشاء منطقة مخصّصة لسيناء، وتتضمّن شبكة للطاقة الشمسية، ومحطّة لتحلية المياه، وميناء بحرياً ومطاراً، فضلاً عن منطقة للتجارة الحرة و5 مناطق صناعية، بتمويل من دول الخليج الغنية بالنفط.

ومن المثير للدهشة أنّ الصحافي الإسرائيلي المعروف رون بن يشاي، ذكر حينئذ أنّ "إسرائيل" تهدّد بغزو غزّة وتقسيمها إلى قطاعين شمالي وجنوبي منفصلين لإجبار "حماس" على الامتثال. وهذه هي بالضبط الاستراتيجية التي وضعتها على رأس أولوياتها خلال غزوها العام الماضي، ثمّ شرعت بعد ذلك في تفريغ شمال غزّة من سكّانه.

كما سعى ترامب إلى تعميق الأزمة في غزّة من خلال حجب المدفوعات لوكالة الأمم المتّحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا". وقد اتّبعت "إسرائيل" وإدارة بايدن السياسة نفسها بنشاط خلال الإبادة الجماعية المستمرّة. ومنذ تولّي ترامب منصبه، حظرت "إسرائيل" أنشطة "الأونروا" في أيّ مكان في الأراضي الفلسطينية المحتلّة.

لقد جدّدت إدارة ترامب اهتمامها بخطّة التطهير العرقي في اللحظة التي شنّت فيها "إسرائيل" عمليات الإبادة الجماعية وقبل وقت طويل من معرفة ترامب ما إذا كان سيفوز في انتخابات الرئاسية الأخيرة.

في آذار/مارس في العام الماضي، استخدم كوشنر اللغة نفسها التي يستخدمها ترامب الآن. فقد أشار إلى أنّ "غزّة لم يتبقَ منها الكثير"، وأنّ الأولوية هي "تنظيفها"، وأنّها "ممتلكات ساحلية ثمينة". وأصر ّعلى أنّ سكّان غزّة لا بدّ أن "يخرجوا منها".

أرنب في فخّ المصابيح الأمامية

إذا رفض ترامب التراجع، فإنّ الاتّجاه الذي ستتّخذه الأمور في المستقبل بالنسبة لفلسطيني غزّة يعتمد بشكل رئيسي على مصر والأردن، اللّتين يتعيّن عليهما إمّا قبول خطّة التطهير العرقي، أو أن تستأنف "إسرائيل" إبادة سكّان القطاع. وإذا امتنعوا، فقد هدّد ترامب بقطع المساعدات الأميركية عن البلدين، وهي مساعدات بمثابة رشى منذ عقود من أجل عدم مساعدة الفلسطينيين، بينما تعاملهم "إسرائيل" بوحشية.

ظهر ملك الأردن عبد الله الثاني، في أثناء زيارته للبيت الأبيض هذا الأسبوع، مثل أرنب وقع في فخّ المصابيح الأمامية للسيارة. ولم يجرؤ على إثارة غضب ترامب برفض الخطّة وجهاً لوجه. بل اقترح عوضاً عن ذلك الانتظار لمعرفة كيف ستردّ مصر الدولة العربية الأكبر حجماً والأكثر قوة. ولكن في السرّ، بحسب ما ذكرت صحيفة "ميدل إيست آي"، فإنّ الملك عبد الله يخشى بشدة من الآثار المزعزعة للاستقرار التي قد تترتّب على تواطؤ الأردن في التطهير العرقي في غزّة، والذي يعتبره "قضية وجودية" لنظامه لدرجة أنّه يهدّد بشنّ حرب على "إسرائيل" لوقف ذلك.

وعلى نحو مماثل، أبدت مصر استياءها. وفي أعقاب زيارة الملك عبد الله المهينة، ورد أنّ السيسي أرجأ اجتماعه مع ترامب إلى الأسبوع المقبل، وهو تأجيل إلى حين إلغاء خطّة التطهير العرقي.

القاهرة تستعدّ لتقديم مقترحها الخاصّ بشأن كيفية إعادة إعمار غزّة. وحتّى المملكة العربية السعودية، حليفة واشنطن الغنية بالنفط، ميّالة نحو التمرّد على مقترحات ترامب. مع أنّه من النادر أن نرى الدول العربية تُظهر هذا القدر من الشجاعة بوجه رئيس أميركي، ناهيك عن رئيس مغرور وغير متوازن وغير استراتيجي مثل ترامب. وعلّ هذا يفسّر لماذا يبدو أنّ عزم الرئيس الأميركي بدأ يضعف، حيث أشارت السكرتيرة الصحفية للبيت الأبيض كارولين ليفيت إلى أنّ ترامب يحثّ "شركاءنا العرب في المنطقة" إلى تقديم اقتراح مضادّ، أو "خطّة سلام بديلة".

وفي إشارة أخرى إلى أنّ ترامب ربّما يتردّد، تراجع نتنياهو عن تهديده باستئناف الإبادة الجماعية ما لم يطلق سراح الأسرى جميعهم.  وتقول التقارير الواردة من غزّة إلى أنّ "إسرائيل" عزّزت بشكل واضح السماح لإمدادات المساعدات بالدخول إلى القطاع.

كلّ هذه أخبار سارّة، وربما تمنح سكّان غزة المزيد من الوقت. ولكن، لا ينبغي لنا أن نغفل عن الصورة الأكبر. فما زالت "إسرائيل" والولايات المتّحدة ملتزمتين بتطهير غزّة، بطريقة ما، كما كانتا خلال السنوات الـ18 الماضية. وهما تبحثان ببساطة عن لحظة أكثر ملاءمة لاستئناف هذه العملية.

قد يحدث ذلك في نهاية هذا الأسبوع، أو قد يحدث بعد شهر أو شهرين. ولكن على الأقلّ نجح بايدن وترامب في تحقيق أمر واحد، فقد تأكّد من أنّ أحداً لن يخطئ مرّة أخرى في الخلط بين سحق غزّة وخطّة السلام.

نقله إلى العربية: حسين قطايا.

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.