ليلة الصواريخ الإيرانية مرحلة جديدة من الصراع مع العدو
نحن اليوم، أقرب فأقرب إلى مسرح عمليات من الوزن الثقيل بات يلقي بظلاله على الإقليم بل على العالم كله، وبالتالي نحن اليوم في خضم قواعد اشتباك جديدة تطوي في ثناياها كل الملفات الساخنة عبر عقود، بما في ذلك الملف النووي.
بعيداً من تهافت الخطاب المعروف الذي ينهل من الهزيمة والوعي المهزوم تارة، ومن الأجندة المشبوهة للغرب الأطلسي المتصهين وأدواته الإقليمية والمحلية ومنابرها تارة أخرى، بوسعنا القول إن سماء الرابع عشر من الشهر الرابع من عام 2024 كانت سماء إيرانية، يمكن المراكمة عليها لما هو أبعد من المتداول:
- لم تقل طهران ولا حلفاؤها إن تلك الليلة كانت ليلة تحرير فلسطين والصلاة في المسجد الأقصى وقرع أجراس القيامة وتنظيف الشرق الأوسط من قذارات الإمبرياليين وجرائمهم وأعوانهم، بل قالت إنها نفّذت عملية بعينها ضد أهداف وقواعد عسكرية صهيونية، بينها القاعدة التي انطلق منها العدوان على القنصلية الإيرانية في دمشق، ومن الواضح أن الزخم الكبير للمسيّرات الإيرانية شكّل غطاء تكتيكياً حربياً للصواريخ التي استخدمت في العملية ودمرت أهدافها بالكامل.
- وثمة اجتهادات تذهب إلى أن الضربة، على أهميتها، في جانب منها أقرب إلى بروفات اختبار ميدانية وسياسية تحتاج إلى قراءات أكثر ذكاء مما هو متداول، وذلك قبل الذهاب إلى محطات نوعية فاصلة وحاسمة تتقاطع مع نضوج أكثر على مستوى الإقليم برمته، وبما يضع الكيان الصهيوني على طريق العدّ العكسي لسقوطه الاستراتيجي.
- بدلاً من قرع طبول الحرب الإعلامية والسياسية ضد إيران بل ومشاركة الأطلسي فيها، فإن ما حدث في تلك الليلة فرصة لبناء تكتل إقليمي قوي، إيراني – عربي يخاطب الغرب الأطلسي والإمبرياليين عموماً بلغة قوية، سواء من موقع حلفاء هذا الغرب أو خصومه، وتزداد أهمية ذلك مع شبه الإجماع عند المحللين من المعسكرين، على أن الضربة نقلت قواعد الاشتباك إلى مرحلة جديدة تتعدى مراكز الشرق الأوسط التقليدية وحساباته، إلى محيط أوسع متشابك بالضرورة مع الجغرافيا السياسية للصراع الدولي على عالم جديد.
إن التدخل المباشر لدولة بحجم إيران والاشتباك مع ثكنة إمبريالية بحجم الكيان الصهيوني، لا يمكن مقاربته ضمن الملفات المتداولة قبل السابع من أكتوبر كما قبل الرابع عشر من نيسان، فنحن اليوم، أقرب فأقرب إلى مسرح عمليات من الوزن الثقيل بات يلقي بظلاله على الإقليم بل على العالم كله، وبالتالي نحن اليوم في خضم قواعد اشتباك جديدة تطوي في ثناياها كل الملفات الساخنة عبر عقود، بما في ذلك الملف النووي الذي يتجاوز فكرة القنبلة النووية إلى ما هو استراتيجي، وكذلك تقرير الأوزان السياسية النسبية للدول والقوى وترجمتها تاريخياً وجغرافياً واقتصادياً بصورة مغايرة لما استقرت عليه مصالح واشنطن وربيبتها الصهيونية وأدواتها من قوى التبعية العربية.
- أياً كانت التأثيرات الميدانية للضربة، فما يجب الوقوف عنده أولاً وقبل كل شيء دلالات الضربة ورسائلها السياسية، أما البعد العسكري الميداني، وبالإضافة إلى إضاءة الصواريخ والمسيّرات الإيرانية لسماء الشرق الأوسط المعتمة سياسياً، فإن التصدي لهذه الصواريخ والمسيّرات عبر حاجز دفاعي خارج فلسطين المحتلة، ولا سيما من القواعد العسكرية الأميركية والبريطانية والفرنسية المنتشرة في أكثر من دولة، يؤشر على فرز استراتيجي واضح يدمج الشرق الأوسط أكثر فأكثر في الصراعات الكبرى حول مستقبل العالم.
إلى ذلك، وفي ما يخص التجاذبات المتداولة حول الضربة والمناخات المحيطة بإيران عموماً، يمكن التوقف عند الملاحظات الآتية:
- إذا كان من حق الناس وجمهور الأمة في كل مكان أن يتخيلوا ضربة تقصم ظهر العدو الصهيوني دفعة واحدة، وتشفي غليلهم من هذا العدو الهمجي الذي يعبّر عن كل مظاهر الانحطاط والسعار الإجرامي وأشكالهما، فإن معطيات الصراع وحيثياته وحساباته أعقد من ذلك، ولا يجوز أن تتحوّل في الإعلام المشبوه إلى مادة تنتقص من أهمية الضربة العسكرية التي نفّذها حرس الثورة الإيراني.
وهو شأن العدو وأكاذيبه التقليل من خسائره، فلطالما فعل وكرر ذلك في كل ساحات وميادين الاشتباك مع محور المقاومة، ولا يزال حتى اليوم يتستر على خسائره الفادحة، سواء في غزة أو شمال فلسطين المحتلة مع حزب الله، أو خسائره الناجمة عن استهدافه بالصواريخ والمسيّرات من جانب أنصار الله في اليمن والمقاومة العراقية.
ونتذكر جميعاً كيف استخف الاحتلال الأميركي بنتائج إحدى العمليات والهجمات على قاعدة عين الأسد في العراق، وانضمت إليه المنابر المشبوهة ومفرداتها الشائعة (القصف المسرحي والكرتوني.. إلخ) قبل أن يعترف البنتاغون في تقريره الشهري آنذاك بالخسائر الكبيرة التي أصابت القاعدة.
- من اللافت للانتباه أن حرس الثورة تحديداً هو الذي قام بالعملية وهو جزء من مجمل الجيوش الإيرانية، وفي ذلك دلالة مهمة على أن القضية الفلسطينية والمقاومة في صميم الخطاب العام للدولة الإيرانية، وهو ما يعني أننا في الشرق الأوسط إزاء نموذج آخر للبوليفارية في أميركا اللاتينية، وإزاء قواعد اشتباك جديدة ودبلوماسية ساخنة.
- تؤكد المعطيات والمؤشرات الملموسة ما درجت عليه التقارير السنوية لمعهد واشنطن ومعهد "هرتزليا" الصهيوني، باعتبار إيران وسوريا موضوع التناقض الاستراتيجي مع المصالح الأميركية والصهيونية في الشرق الأوسط، انطلاقاً من حيثيات ووقائع سياسية تتعلق بالسيادة والكرامة الوطنية والموقف من التسويات المشبوهة والاتفاقيات الإبراهيمية، كذلك انطلاقاً من البنية الاجتماعية-الاقتصادية للدولتين الأكثر استقلالاً عن منظومة الرأسمالية العالمية وأسواقها.
وهو ما يحيل إلى الضربة الأخيرة وكل أشكال الاشتباك والإسناد والوحدة السياسية والميدانية للساحات، ويتطلب من أصدقاء المحور قبل خصومه التمعن في كل ما يجري من هذه الأشكال ضمن رؤية استراتيجية بعيدة النظر.
- إن ربط الضربة الأخيرة بالعدوان على القنصلية الإيرانية في دمشق ربط تكتيكي بما في ذلك صدور البيانات من البعثة الإيرانية في الأمم المتحدة، ما يوفر غطاء دولياً مساعداً بصرف النظر عن حجم الرهان عليه.
ومن المفهوم أن هذا الربط لا يقلل أبداً من جدلية العلاقة بين هذه الضربة وبين المقاومة في غزة، ذلك أن المواقف الإيرانية وتداعياتها المحلية والإقليمية والدولية شديدة الصلة بالخيارات الاستراتيجية التي ربطت موضوعياً بين القضايا والملفات الخاصة بإيران بما فيها الحصار الاقتصادي وتحريك الجماعات الإرهابية والثورات الملونة، وبين إغلاقها سفارة العدو بعد إطاحة الشاه وتبني سياسات ومواقف راديكالية متقدمة على الوضع العربي الرسمي، فضلاً عن مواقفها السيادية وتطويرها سياسات اقتصادية مناهضة للبنك الدولي وإملاءاته.
وبالمجمل، وأياً كانت التباينات في قراءة وتقييم الضربة وحجمها ورسائلها وآثارها، فلم تستطع المنابر المضادة المعروفة، سواء كانت أطلسية أو صهيونية أو من محميات النفط والغاز المسال وشاشاتها ومواقعها الإعلامية والسياسية، مواصلة الإنكار والتهافت، فراحت تضع القوة الإيرانية مقابل التكتل الأطلسي – الصهيوني – الرجعي وتعترف بأن الضربة كرّست قواعد جديدة للردع والاشتباك الميداني والسياسي والدبلوماسي.