لا نيّة لإنقاذ لبنان والبلاد أمام موجة من الاضطرابات الخطيرة

خبير أممي اقتصادي مقيم في سويسرا مطلّع عن كثب على تفاصيل الأوضاع الاقتصادية اللبنانية يقول للميادين إن الأمور وصلت حالياً إلى طريق مسدود، ولا حل لمنح اللبنانين فرصة لالتقاط الأنفاس، سوى بتدخّلٍ استثنائي وفوري للمجتمع الدولي، وتحديداً الجهات الدائنة.

  • لا نيّة لإنقاذ لبنان والبلاد أمام موجة من الاضطرابات الخطيرة
    الأمور وصلت حالياً إلى طريق مسدود، ولا حل لمنح اللبنانين فرصة لالتقاط الأنفاس

"لبنان يمر في أسوأ أزمة اقتصادية – اجتماعية، ولا أفق جدياً للحل، والبلاد أمام مرحلة من الاضطرابات وأعمال العنف بسبب حالة الفقر والعوز التي سيمر بها أغلبية اللبنانيين".

هذا الاستنتاج المؤلم كرره خبير أممي اقتصادي مطّلع عن كثب على تفاصيل الأوضاع الاقتصادية اللبنانية، وعلى تقييم الخبراء في الأمم المتحدة للأوضاع في لبنان، طيلة اللقاء الذي دام أكثر من ساعة ونصف الساعة مع الميادين.

هذا الخبير رفض الإفصاح عن اسمه، "لأن بعض تفاصيل ما سيذكره من حقائق ومواقف لا يمكن للأمم المتحدة، كمنظمة حيادية، أن تتبناه في خطابها العلني".

المرحلة الحالية والتوقعات

 يقول الخبير إن الأمور وصلت حالياً الى طريق مسدود، ولا حل لمنح اللبنانين فرصة لالتقاط الأنفاس، سوى بتدخل استثنائي وفوري للمجتمع الدولي، وتحديداً الجهات الدائنة، وذلك على خطين، الأول، ضخ كمية كبيرة من السيولة بالدولار الأميركي لا تقل عن 20 مليار دولار، على أن تستخدم هذه المبالغ في اتجاهات مختلفة، أولها إعادة وضع لبنان على سكة النظام المالي الدولي الصحيحة وإعادة الثقة به وبنظامه المالي، بعد تخلّفه عن سداد التزاماته الدولية في 10 آذار/ مارس الماضي، عندما رفض دفع فاتورة أولية بقيمة 1,2 مليار دولار كخدمة دين عام، وثانياً في الانطلاق بورشة بناء حقيقية لاقتصاد منتج يؤمن استدامة وظائفية للبنانيين، ويخفض فاتورة الاعتماد على الاستيراد للمواد الأولية، وصولاً إلى خفض العجز الكبير بين الاستيراد والتصدير.

هذه المرحلة ستترافق مع إجراءات تقشّف قاسية جداً، إذ لن يتمكن النظام المصرفي اللبناني من إعادة ودائع اللبنانيين إلى أصحابها، وكل الخوف من أن هذه الودائع قد تبخر الجزء الأكبر منها، ولا سيما الودائع الصغيرة والمتوسطة.

أما الخط الثاني، فيتمثل بالسعي لإجراء مفاوضات فورية مع الجهات الدائنة، ومحاولة خفض الفاتورة العامة لهذه الديون، عبر إلغاء أجزاء كبيرة منها، أو على الأقل إعادة هيكلتها لخفض فاتورة خدمة الدين التي تثقل الخزينة اللبنانية منذ سنوات طويلة. هذان الخطان متلازمان، ولا يمكن فصلهما، لأن ضخ مبالغ ضخمة (20 مليار دولار) من دون خفض فاتورة خدمة الدين العام، سيؤدي إلى تبخّر هذه المبالغ في خدمة الدين، كما حصل منذ سنوات طويلة. وفي المقابل، إن خفض خدمة الدين العام من دون ضخ السيولة لن يؤدي إلى أي حل.

هل هذا السيناريو ممكن التحقيق؟

صعب جداً، ان لم يكن مستحيلاً، فقد جرت العادة منذ تسعينيات القرن الماضي أن تتدخل الجهات الدولية الدائنة لإنقاذ لبنان من السقوط في أزماته الاقتصادية، لأسباب معروفة لها علاقة بموقع لبنان الجيوسياسي.

كان لبنان طيلة العقود الماضية مهماً بالنسبة إلى الدول المؤثرة في أوروبا والولايات المتحدة والدول النفطية، فكانت هذه الجهات تسهّل اقراض لبنان المزيد من الأموال، لكن هذه الميزة انتفت في السنوات القليلة الماضية، ولم يعد لبنان مهماً من الزاوية السياسية، لا للجهات الغربية ولا بالنسبة إلى الدول العربية النفطية.

ويضيف الخبير: "بحسب ما أملك من معلومات، في الوقت الحالي لا توجد أي اشارة توحي بأن الجهات الدائنة، لا من قبل الحكومات ولا من قبل المؤسسات المالية الدولية مستعدة للقيام بأي خطوة لإنقاذ لبنان، مهما كان حجمها، ولا توجد حتى أي ارادة لمساعدة لبنان على اجتياز هذه المحنة، ولن تؤخذ على ما يبدو اعتبارات مواجهة وباء كورونا بعين الاعتبار، فهو لم يكن جزءاً من مجموعة الدول (73 دولة) التي سيشملها قرار مجموعة الـ 20 تعليق خدمة الدين الخارجي حتى نهاية العام الجاري"، وتعتبر هذه الجهات، أنه خلافاً للدول المشمولة بهذا القرار، فإن الوضع الاقتصادي السيئ الذي وصل اليه لبنان ناتج من سوء ادارة الحكومات اللبنانية المتعاقبة، وليس عن ظروف خارجة عن إرادة هذه الحكومات، كالكوارث الطبيعية أو الحروب أو حتى انتشار الأوبئة والأمراض، كحالة بعض الدول في أفريقيا.

سوء إدارة منذ نهاية الحرب الأهلية

يعيد الخبير الاقتصادي الأممي أصل الأزمة التي يعيشها لبنان اليوم إلى نهاية الحرب الأهلية في تسعينيات القرن الماضي، عندما وصل "الحريري الأب" (الرئيس الراحل رفيق الحريري) إلى الحكومة، وأراد في ذلك الوقت نقل البلاد من حالة الحرب إلى حالة الاستقرار. ولإقناع الأطراف والقوى التي شاركت في هذه الحرب بالانخراط في العملية السياسية، أغراها بالمال، وساعده بذلك وفرة القروض القادمة من الدول النفطية بداية، ثم من قبل مؤسسات القروض الدولية.

انتهج الحريري سياسة اقتصادية قامت على "الزبائنية السياسية" بدل استثمار القروض القادمة من الخارج في بناء اقتصاد إنتاجي مستدام، على أساس أن التعاون بين القوى التي شاركت في الحرب هو أساس ديمومة الاستقرار السياسي الذي سيحضر الأرضية لانطلاق الاقتصاد، وهي بالمناسبة استراتيجية مفهومة، واستخدمت إلى حد بعيد في دول مرت بظروف مماثلة لظروف لبنان، أي مهددة في أي لحظة بالعودة إلى منطق الحرب.

لكن الخطأ الذي وقع به الحريري هو أن هذه الاستراتيجية التي كان يجب أن تقتصر على فترة زمنية محدودة، استمرت لفترات طويلة، وتحولت إلى أساس النشاط الاقتصادي، ولم تتمكن أي من الحكومات المتعاقبة من الخروج من هذه الدوامة، والنتيجة أنه في كل مرة كان يواجه لبنان نقصاً في السيولة لسداد خدمة الدين وفاتورة استيراد المواد الأولية من الخارج، كان يلجأ من جديد إلى الاستدانة الخارجية، واستمر الوضع على هذه الحالة حتى الأزمة المالية للعام 2008. عندها، تراجعت إمكانية الاستدانة من الخارج، وتبدلت الظروف السياسية للبنان، بحيث لم يعد هذا البلد مهماً على المستوى الجيوسياسي بالنسبة إلى الدول المؤثرة، فاختل التوازن بين حجم الأموال بالعملة الصعبة الخارجة من لبنان، وحجم الأموال الداخلة. عندها اضطرت الحكومة إلى التوجه إلى الاستدانة الداخلية من المصارف التجارية اللبنانية.

في هذه المرحلة، اتبع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة سياسة نقدية غريبة وخطيرة في آن واحد، اذ بدأ يستدين من المصارف اللبنانية بفوائد عالية جداً تصل الى ما بين 10 الى 20%، وهذه المصارف استخدمت ودائع اللبنانيين في تغطية قروض مصرف لبنان، ومنحت المودعين بدورها فوائد عالية، تصل إلى حدود 10%، في وقت كانت الفوائد على المستوى الدولي في المرحلة التي تلت الأزمة المالية لا تتعدى 0%، وأحياناً سلبية.

ومنذ ذلك الوقت، دخل لبنان دوامة رهيبة عبر الاستدانة ثم الاستدانة ثم الاستدانة، بهدف سداد فاتورة خدمة الدين الخارجي والداخلي وفاتورة الاستيراد، إلى أن فرغت خزائن المصارف اللبنانية، ولم يعد بمقدورها منح قروض جديدة للمصرف المركزي، وتبخرت ودائع اللبنانيين، وكان الرابح الأكبر من هذه العمليات هم المصارف والمساهمين الأساسييين فيها. هؤلاء حققوا أرباحاً خيالية، وهذه الأرباح خارج دائرة الخطر خلافاً للودائع، فهي منفصلة تماماً عن ودائع اللبنانيين في المصارف ذاتها، فهي أموال خاصة، لا يحق لأي جهة قانونية وضع اليد عليها.

من هنا يفهم قرار المصارف التجارية وضع سقوف محددة بمبالغ زهيدة لسحوبات المودعين لديها، وخصوصاً بالعملات الأجنبية، والخطر اليوم يكمن في التضخّم الذي يتعاظم يوماً بعد يوم، والناتج من إقدام المصرف المركزي على طبع المزيد من العملة الوطنية، في ظل غياب تام لتغطية العملة الوطنية بما يقابلها بالعملات الأجنبية، ونتيجة هذه السياسة معروفة وشاهدناها في دول عديدة، وتتمثّل بفقدان قيمة العملة الوطنية. ومع استمرار الأزمة وفقدان أي أمل بحلول قريبة عبر ضخ السيولة، لن يكون هناك أي سقف يقف عنده انهيار العملة الوطنية، ولا يمكن لأي جهة توقع حجم هذا الانهيار.

هل فقد اللبنانيون ودائعهم نهائياً؟

مصير هذه الودائع بات رهين قرار سياسي يتفق عليه المصرف المركزي والحكومة والدائنون، ويتابع الخبير : "لكن من وجهة نظري، فإن الخطر على هذه الودائع مرتفع جداً، والأمل شبه معدوم بإمكانية التعويض على المودعين. وحدها الودائع الخارجية يمكن استردادها، لأن تخلف مصرف لبنان أو المصارف عن اعادة هذه الودائع لأصحابها سيخلق مشكلة كبيرة، نظراً إلى إمكانية الملاحقة القانونية على المستوى الدولي، والمصارف اللبنانية لا يمكن أن تدخل في صراع قضائي على المستوى الدولي، خوفاً من فقدان الثقة بها خارج لبنان، أما الودائع الداخلية فمصيرها صعب للغاية".

الخصخصة وبيع القطاع العام

لا يتردد الخبير الاقتصادي الأممي بالقول ان الاقتراح هو من أسوأ الخيارات التي يمكن أن يلجأ إليها لبنان، "يمكن للبنانيين أن يبيعوا كل شيء، وهذا قد يؤمن لهم بعض السيولة أو خفضا معيناً للديون وخدمة الديون، لكن هذا سيكون لمرة واحدة فقط، بعد ذلك ستتوقف الإيرادات العامة نهائياً، وستخسر البلاد مصادر تمويل الخزينة العامة على المديين المتوسط والبعيد، وستتعمق الأزمة بشكلٍ أكبر بكثير من السابق".

ويتحدث عن تجارب حصلت في بعض دول أميركا اللاتينية التي لجأت إلى الخصخصة التامة، فوجدت هذه الدول نفسها بعد فترة وجيزة أمام وضع كارثي، فمن جهة خسرت الإيرادات التي تؤمنها المؤسسات العامة المنتجة، ومن جهة ثانية اضطرت الحكومات إلى إعادة تأميم بعض هذه المؤسسات من جديد، بسبب فشل القطاع الخاص في إدارتها، وكانت تكاليف إعادة تشغيل هذه المؤسسات باهظة، ومرة جديدة على حساب دافعي الضرائب.

التقشّف القاسي يولد الانفجار

التقشّف حاصل في كل الحالات، يؤكد الخبير الأممي الاقتصادي، حتى لو قررت الجهات الخارجية إنقاذ لبنان اليوم، فإن سياسة الجهات الدائنة تفرض على الدول إجراءات تقشف قاسية، سيذهب ضحيتها في المرحلة الأولى أصحاب الدخل المحدود وأصحاب الودائع الصغيرة، الذين سيجدون صعوبة في الحصول على أموالهم. وفي المرحلة الثانية، ستنضم الطبقة الوسطى إلى شريحة الفقراء، هؤلاء ستتبخر مداخيلهم بسب التضخم وفقدان قيمة رواتبهم بالعملة الوطنية، وفي الوقت نفسه لن يتمكنوا من اللجوء إلى مدخراتهم المحجوزة في المصارف.

وفي النهاية، سيكون اللبنانيون أمام وضع مأساوي، فهل المطلوب أن يأكل اللبنانيون أقل؟ هل يتحمّل الإنسان الجوع في عصرنا هذا؟ أعتقد أن للبنانيين قدرة محدودة على تحمل إجراءات تقشف قاسية، و"أنا أتخوّف فعلاً من مرحلة اضطرابات وأعمال عنف، وربما انفجار اجتماعي ضخم، فالوضع ميؤوس منه".

"استعادة الأموال المنهوبة"

ورداً على سؤال حول مساعي الحكومة الحالية في إطار محاسبة الفساد و"استعادة الأموال المنهوبة"، يقول الخبير الأممي إنه لا يحق له الحديث بهذا الشأن كموظف أممي. وفي كل الحالات، إنه مسعى مهم جداً بالنسبة إلى لبنان، وهناك ضرورة لإيضاح هذه المسألة، لكن في الوقت ذاته، "علينا أن نعلم أنه مسار طويلٌ وشاق ومعقد، ونتائجه لن تظهر في المدى القريب او المتوسط، ولن يكون له أي تأثير في حل الأزمة المالية – الاقتصادية في المرحلة الحالية، إذ يحتاج لبنان إلى حلول سريعة وفورية".​

 

من ساحتيّ الشهداء ورياض الصلح في وسط بيروت، اللتين شهدتا الحراك المدني ضد الطبقة السياسية في لبنان عام 2015، انطلقت مظاهرات الخميس 17 تشرين الأول/ نوفمبر 2019، احتجاجاً على الوضع الاقتصادي الصعب وعلى قرار الحكومة اللبنانية فرض ضرائب جديدة.

اخترنا لك