فلسطين الندبة وذاكرة الغائبين
شيء ثابت ظلّ في فلسطين بعد النكبة: وحدة المكان. ذاك الذي خرج منه الناس باتجاه تشعّباته. وحده الشباب الفلسطيني يعرف ماهيّة الأماكن الجديدة من دون أن تتاح له المقارنة.
الخروج:
كيف يصير البيت عتيقاً؟ وكيف تخرج منه الرائحة؟ كيف يظلّ الفلسطينيون يسمعون الصدى؟ كيف يبقى في البلاد عشب وزيتون وبحر؟ كيف يصير الصوت من فرط الذاكرة؟
الذاكرة:
المجد للذاكرة. يقول السّائرون على الإسفلت الطويل، حين خرجوا من ديارهم محمّلين بأثواب الخيبة، استقلّتهم الطرقات إلى العدم. بعدما امتلأت حقائب السفر الطويل، ولم يعد هناك مكان للبيوت وهوى الشوارع.. تبتعد البلاد، كلما اختفت أيدي الملوّحين في الأرض الحبيبة، خرجوا وفي أيديهم مفاتيح لم يجفّ عرقها بأكفهم حتى اليوم، خرجوا وابتعد بهم الزمن حتى يجلس مكتنزو ذاكرة الـ48، يقلبون بالصور القديمة، فترتعش الوجوه في الصور من فرط الدموع. كأنها تروي زمناً غابراً ليحيى من جديد.
وجوه من القدس ويافا ودير الهوى ودير ياسين وعين غزال وميرون، لم تعرف عن أيّ وجهة تبحث، أو أيّ ألم تردّه. تفكر كم أن البلاد صارت بعيدة، وأنها لا تزال تحترق، كجرح منسيّ متورّم لم يندمل.
المكان:
شيء ثابت ظلّ في فلسطين بعد النكبة: وحدة المكان. ذاك الذي خرج منه الناس باتجاه تشعّباته. وحده الشباب الفلسطيني يعرف ماهيّة الأماكن الجديدة من دون أن تتاح له المقارنة. لم يخرج مغترباً ولا سائحاً، إنما استطاع تكوين أوطان فلسطينية مؤقتة ببنية إنسانيّة كاملة خارج المكان الأول القديم، الذي ينتمي إليه بالأصل والفكرة. استطاع ابتداع أسماء لأماكنه الجديدة التي خرج إليها، إن كان بأسماء الشوارع والمخيمات وحتى بأسماء أولادهم. يظلّ الفلسطيني يحاول أين ما حلّ أن يسرّح خيالات الأجيال اللاحقة من النسيان. فيصنع من انتماءاته الجديدة احتمالات كثيرة لفلسطين، ولا يتوقف عن السعي نحو تجسير المسافة، في الزمان والمكان، بين حياته اليوم وبين أهله الذين حفّتهم النكبة. فيخلق قصصاً جديدة يكبر فيها الحب ويصير وشماً في القلب على شكل خارطة من البحر إلى النهر. المكان بالنسبة للفلسطيني هو حالة، يعيشها على نحو تجريبي، سعياً ليبقى طريق فلسطين معبّداً.
الزمان:
يمدد الحنين وقت الفلسطيني ويسترخي على جسده. يعيش في سباق غير متكافئ مع الزمن، فلا يقيس عيشه بالوقت، إنما بالمساحة المتاحة له للحياة خارج موطنه. بعدما يتحول الوقت خارج المكان الطبيعي إلى انتظار. الوقت بالنسبة للفلسطيني ليس مسألة أيام ولا سنوات، بل استثمار لحظوي في تخليد ذاكرة النكبة في الأجيال الجديدة، ليبقى من يقاتل للعودة، ولئلا تُنسى الأرض السليبة ولا البيوت التي عمّر المحتلّ بحجارته فوقها. بيوت فيها قصص لا تموت وإن تهدّمت هياكلها. هكذا يألف أبناء الأرض غربتهم، فيقلصون الزمن بالتمامهم وخلق مساحات ليحضر الوطن إلى حيث هم. فيمتد الوقت في العلاقات والصور الجديدة والجداريات وفي الكتابة والرسم والأناشيد، وليالي السهر الطويلة.
الشهداء:
يتكوّر محمد الدرّة خلف والده، يخبّئ وجهه، يتربّعان على الأرض ويحشران جسدهما خلف البرميل الأزرق. يقترب القاتل ويصير مشهدهما مشرّعاً لسلاحه. يهمد جسد محمد ويلتوي رأس الوالد على كتفه من شدّة العجز. قُتل محمد الدرّة في حضن والده، ولم يسمعه أحد. وكذا يموت الفلسطينيون حفاة على الأرصفة. لا شيء يردّ عنهم هول المجزرة. لا شيء. هؤلاء هم الشهداء، "همْ أصدقاء البحر/ هم أصدقاءُ النهرْ/ هم أعينُ الزيتونْ/ هم زهرةُ الحنّونْ/ هم خُضرةُ الأشجارْ/ وطفولةُ الأنهارْ/ هم قِبْلةُ/ الشعراءْ/ وذخيرةُ الفقراءْ/ هم شارعٌ في الفجرْ/ هم ضحكةٌ في الصخرْ/ ووضوحُ هذا السّرْ" (إبراهيم نصرالله – "دمهم").
الحب:
لم يرخ ثقل النكبة في يوميات الفلسطينيين مثل ما فعل الحب. يلملم الغرباء عن الشوارع، ويبني بينهم لُحمة الانصهار العميق. الحبّ أصل الحكاية، يلتقي أبناء شعب واحد في مساحات كثيرة، بينهم في الغربة وبينهم في الداخل وبينهم بين هذا وذاك. بعدما أتاحت وسائل التواصل الحديث والالتقاء وتشارك اللحظات والقصص والصور. يبحث الفلسطينيون عن بعضهم البعض في بلاد الشتات، "يحنّ الدمّ" كما يقولون، يبنون علاقات وصداقات وجيرة. يجسّرون المسافة بين الأسلاك الشائكة، ففي الوجد كل شيء يصل، مهما كان بعيداً.
كأن تفتح تلك البلاد ذراعيها إلى القصص البعيدة، وتوصل صوتها بناي لراعٍ عند قمة الجبل المطلّة على بحر عكّا. يؤلف نجماً يمسّد على أعين الساهرين. ويقول لفلسطين: "عيونك شوكة في القلب/ توجعني.. وأعبدها/ وأحميها من الريح/ وأغمدها وراء الليل والأوجاع.. أغمدها/ فيشعل جرحها ضوء المصابيح/ ويجعل حاضري غدها/ أعزّ عليّ من روحي/ وأنسى، بعد حين، في لقاء العين بالعين/ بأنّا مرة كنّا وراء، الباب، إثنين!".