"الذهب الجديد".. وثورة الصين بفك الشفرة الجينية للبشر وقصة مختبرات Fire-Eye

إذا تمكّنت الصين من أن تصبح المورد الوحيد أو الرئيسي لدواء أو تكنولوجيا جديدة مهمة، فسوف تكتسب نفوذاً، استناداً لمسؤول كبير في المخابرات الأميركية.

  • الذهب الجديد.. وثورة الصين بفك الشفرة الجينية للبشر وقصة مختبرات Fire-Eye
     ثورة الصين بفك الشفرة الجينية 

ليس من قبيل المبالغة القول إنه في كل نقطة من البوصلة، تضع الصين أسس نظامها الدولي الجديد للوصول إلى القمة. يوماً بعد يوم يفاجئك هذا البلد بخبر أو معلومة ما عن اكتشاف أو إنجاز عملي وتكنولوجي مذهل وغير مسبوق، وآخرها ما حقّقه في الآونة الأخيرة بما يشبه الثورة، بعلم الوراثة.

 فالصين، أصبحت على أعتاب البدء في فهم وكشف ما تفعله الجينات وفكّ رموز والغاز هذا العالم المعقدّ، وبالتالي من يصل إلى هناك أولاً سوف يتحكّم في الكثير من الأشياء المذهلة حقّاً، وما قد يشكّله ذلك، من نقلة نوعية ستعود بالفائدة على سكان القارات الخمس أجمع، خصوصاً على المستوى الطبي وإيجاد الأدوية للأمراض الوراثية المستعصية. 

 كيف بدأت الصين رحلتها؟

في العام 2015، أعلنت بكين عن خطتها "صنع في الصين 2025"، والتي أدرجت التكنولوجيا الحيوية كهدف رئيسي للاستثمار الحكومي وركيزة للمستقبل الاقتصادي للبلاد. وبعد مرور عام، ولتنفيذ هذه الرؤية، أطلق الحزب الشيوعي الحاكم، برنامجاً بقيمة 9 مليارات دولار يهدف إلى جعل الصين رائدة عالمية في العلوم الوراثية، وأقدم على بذل جهود هائلة، لجمع وتحليل الحمض النووي البشري.

في ذلك الوقت، كان اكتشاف أدوات تحرير الجينات مثل "كريسبر" (هي عائلة من تسلسلات الحمض النووي الموجودة في جينومات الكائنات بدائية النواة مثل البكتيريا) سبباً في زيادة الآمال في التوصل إلى علاجات جديدة للسرطان، وأخرى محتملة للأمراض الوراثية التي كانت تعتبر غير قابلة للشفاء لفترة طويلة. لذا شرعت الصين بالاستثمارات الضخمة في هذا المجال، وأشارت الى أنها تعتزم الفوز في المنافسة الدولية لجلب الأدوية والعلاجات الجديدة القائمة على الجينات إلى السوق.

مهّدت الصين لخططها الطموحة تلك، بقيام مجموعة BGI ـــ شركة صينية كانت تسمى سابقاً "معهد بكين للجينوم" ــ في العام 2013، بشراء شركة Complete Genomics، وهي شركة سان خوسيه الرائدة في الولايات المتحدة في تكنولوجيا التسلسل الجيني، مقابل 118 مليون دولار. 

 أكثر من ذلك، أنشات شركة BGI بنك الجينات الوطني الصيني (CNGB) المموّل من الحكومة، وعمدت إلى تشغيله وإدارته باعتباره أول مرفق ضخم لتخزين المعلومات الجينية على المستوى الوطني في البلاد. أما مهمة هذا البنك فتتمثّل بتسهيل البحث والتطوير المتقدم في علم الجينوم ونقل التكنولوجيا إلى التطبيقات الصناعية، بما في ذلك الطب الدقيق والزراعة والعلوم البحرية والتطبيقات الميكروبية.

ولاحقاً تمّ دعم هذا المرفق الاستراتيجي من قبل بنك التنمية الصيني، عبر ضخّ مبالغ مالية بقيمة 1.5 مليار دولار، لدعم سعيه ليصبح منافساً عالمياً في السوق المزدهرة لمعدات التسلسل الجيني. وعليه، حصلت مجموعة BGI على براءات الاختراع الخاصة بآلات تسلسل الحمض النووي، وسرعان ما بدأت في تصنيع وبيع المعدات من خلال شركة فرعية تظل جزءاً من عائلة BGI.

 على المقلب الآخر، أشار المسؤولون الأميركيون إلى أن بنك الجينات الوطني الصيني، يتضمّن الآن بيانات وراثية مستمدة من ملايين الأشخاص حول العالم. وانطلاقاً من هذه النقطة، أدرج البنتاغون العام الماضي مجموعة BGI رسمياً، كواحدة من "الشركات العسكرية الصينية" العديدة العاملة في الولايات المتحدة على القائمة السوداء، فيما ربط تقييم استخباراتي أميركي لعام 2021 الشركة بالجهود العالمية الموجّهة من بكين للحصول على المزيد من الحمض النووي البشري، بما في ذلك من الولايات المتحدة.

هل تتحكّم بكين بسوق علم الجينيات؟ 

 في الواقع، بحلول عام 2019، ومن خلال الشراكات التجارية وشراء الأسهم، حصلت ما يقرب من 20 شركة صينية على حقوق البيانات الجينية وغيرها من السجلات الخاصة للمرضى الأميركيين، وفقاً لتقرير عام 2019 الذي أعدته لجنة المراجعة الاقتصادية والأمنية الأميركية الصينية التابعة للحكومة الأميركية.

 المثير في الأمر، أنه في الفترة نفسها، كان مسؤولو إنفاذ القانون في الولايات المتحدة يتتبعون الشركات التي تمتلك كميات كبيرة من البيانات الجينية. وبناء على ذلك وجّهت وزارة العدل الأميركية في عام 2019، لائحة اتهام لعملاء صينيين بالوصول بشكل غير قانوني، إلى قواعد بيانات المرضى في أربع شركات أميركية.

وزعمت الوزارة أن المتسللين قاموا بسرقة بيانات الرعاية الصحية الخاصة، بما في ذلك معلومات الحمض النووي، لأكثر من 80 مليون أميركي، وفقاً للمدعين العامين.

 من هنا، أثارت المخاوف بشأن إساءة استخدام الصين لبيانات الحمض النووي ردود فعل عكسية في أميركا الشمالية وأوروبا في السنوات الأخيرة. وقد خضعت شركة BGI، التي تشتمل منتجاتها على مجموعة أدوات فحص وراثية شائعة لحديثي الولادة تسمى NIFTY، والتي تباع في أكثر من 50 دولة، للتدقيق وسط مخاوف من أن الصين قد تستغل المعلومات الصحية الخاصة لملايين النساء الحوامل. 

 بدورها أكدت مجموعة BGI، أنه لم يتم الاحتفاظ بأي بيانات شخصية من اختبارات NIFTY من قبل الشركة أو نقلها إلى الصين.

ما قصة المختبرات الصينية الفائقة التطور ؟

 في الحقيقة، قدّم وباء كورونا لشركات التكنولوجيا الحيوية في الصين، فرصة غير متوقعة. ففي كانون الثاني/يناير 2020، وبعد أقل من شهر من إبلاغ المسؤولين الصينيين عن أول حالات الإصابة بفيروس كورونا في مدينة ووهان، ووسط الانتشار السريع للفيروس في جميع أنحاء الكوكب، كشفت مجموعة BGI عن منشأة جديدة محمولة لاختبار فيروس كورونا، تسمى Huo-Yan باللغة الماندرين - و"Fire-Eye" باللغة الإنكليزية (الاسم مشتق من الملك القرد، هو شخصية صينية خارقة للطبيعة اشتهرت من خلال رواية رحلة إلى الغرب) وهو مختبر متطور يمكنه اكتشاف عدوى كورونا من الأجزاء الجينية الصغيرة التي يتركها العامل الممرض وراءه.

وفي أعقاب الأشهر التالية، شرعت مجموعة BGI بتصنيع نحو 100 مختبر"Fire-Eye" بتكوينات مختلفة. لكن أكثر لفت انتباه المراقبين، هي "مختبرات الهواء"، الموجودة داخل غلاف من البلاستيك الناعم الذي يمكن نفخه بسرعة - مثل مجسمات القمر في حفلة للأطفال.

 إضافة الى ذلك، تم تجهيز التصميمات الداخلية للمختبرات بآلات متطورة مصممة لما تسميه الشركة "الكشف عن الحمض النووي عالي الإنتاجية". ولهذا يصف تقرير أحد المساهمين في الشركة المختبر بأنه نظام "شامل" يقوم أيضاً "ببناء منصة حوسبة سحابية جينية عبر الاستخدام الشامل للبيانات الضخمة".

 الهدف الرئيسي من صنع هذه المختبرات 

عملياً، لم تتفوّق شركة Fire-Eye في فكّ الشفرة الجينية للفيروسات فحسب، بل أيضاً للبشر، باستخدام آلات يمكنها فك التعليمات الجينية الموجودة داخل خلايا كل شخص على وجه الأرض، وفقاً لمخترعيها الصينيين.

 وتبعاً لذلك، أعلنت الصين عن خطط لتصبح رائدة على مستوى العالم في مجال التكنولوجيا الحيوية بحلول عام 2035، وهي تنظر إلى المعلومات الجينية التي يطلق عليها أحياناً "الذهب الجديد" ــ باعتبارها عنصراً حاسماً في ثورة علمية يمكن أن تنتج الآلاف من الأدوية والعلاجات الجديدة.

وتعقيباً على ذلك قالت آنا بوجليسي، الرئيسة السابقة لقسم مكافحة التجسس الوطني في مجتمع الاستخبارات الأميركي في شرق آسيا، إن الصين إذا فازت في السباق التكنولوجي، فإنها ستكتسب نفوذاً اقتصادياً واستراتيجياً كبيراً ضد منافستها الرئيسية، الولايات المتحدة.

 باختصار، إذا تمكّنت الصين من أن تصبح المورد الوحيد أو الرئيسي لدواء أو تكنولوجيا جديدة مهمة، فسوف تكتسب نفوذاً، استناداً لمسؤول كبير في المخابرات الأميركية ـــ يتتبع عن كثب قطاع التكنولوجيا الحيوية في الصين ــــ والذي تحدث أيضاً عن التقييمات الحساسة للمسار الاستراتيجي للصين، مشيراً إلى أنه "إذا حصلت الصين على كتلة حرجة من البيانات - وإذا كانت قادرة على تحليل البيانات واستغلالها - فيمكنها اختيار المستقبل".

 ما هي أسباب القلق الغربي من مختبرات " Fire-Eye"؟

 مع تفاقم جائحة كورونا، والتي دفعت بأوروبا إلى تطبيق الإغلاق التام، وصلت طائرة إلى العاصمة الصربية تحمل هدية في الوقت المناسب من الصين، وهي عبارة عن متخبر Fire-Eye، وقد أشادت رئيسة وزراء البلاد آنا برنابيتش آنذاك ببكين لأنها منحت دولة البلقان "المعهد الأكثر تقدّماً في الطب الدقيق وعلم الوراثة في المنطقة".

 أثارت هذه الخطوة الصينية الهواجس في أوروبا، خصوصاً وأنّ مختبرات فاير آي تمّ التبرّع بعشرات منها أو بيعها لدول أجنبية أثناء الوباء، الأمر الذي أدى إلى اجتذاب اهتمام وكالات الاستخبارات الغربية وسط قلق متزايد بشأن نوايا الصين. إذ ينظر بعض المحللين إلى سخاء الصين باعتباره جزءاً من محاولة عالمية للاستفادة من مصادر جديدة لبيانات الحمض النووي البشري ذات القيمة العالية في جميع أنحاء العالم.

ولهذه الغاية يرى مسؤولون في المخابرات الأميركية والغربية أن جهود التجميع هذه، الجارية منذ أكثر من عقد من الزمان، شملت الاستحواذ على شركات علم الوراثة الأميركية إضافة إلى "عمليات قرصنة متطورة".

وما زاد الطين بلّة بالنسبة لواشنطن، أن فيروس كورونا خلق فرصاً للشركات والمعاهد الصينية لتوزيع آلات التسلسل الجيني، وبناء شراكات للبحث الجيني في الأماكن التي لم يكن لدى بكين سوى وصول ضئيل أو معدوم إليها، كما قال المسؤولون.

 وبناء على ذلك، وفي عزّ الوباء، تكاثرت مختبرات "فاير آي" بسرعة، وانتشرت في 4 قارات وأكثر من 20 دولة، من كندا ولاتفيا إلى المملكة العربية السعودية، ومن إثيوبيا وجنوب أفريقيا إلى أستراليا. والعديد منها، مثّل المركز الموجود في بلغراد، ويعمل الآن كمراكز دائمة للاختبارات الجينية.

 بالمقابل، قالت الشركة: " إن جميع خدمات وأبحاث مجموعة BGI يتم توفيرها لأغراض مدنية وعلمية".

 في المحصّلة، إن الهلع الأميركي من تقدّم الصين في سوق علم الوراثة، والحديث عن أسلحة بيولوجية قد تستهدف في يوم من الأيام السكان على أساس جيناتها، لا أساس له، وينفيه الخبراء ويعتبرونه احتمالاً بعيد المنال في أفضل تقدير. فضلاً عن أن مسؤولي الاستخبارات الأميركية، يقرون أنه، لا يوجد أي دليل عام على أن الشركات الصينية استخدمت الحمض النووي الأجنبي لأسباب أخرى غير البحث العلمي.