الشهيد سليماني في السردية الأميركية

أولت مراكز بحثية أميركية اهتماماً لصورة سليماني لدى الشعب الإيراني بطريقةٍ توحي أنّ خطر قائد قوة القدس على المشروع الأميركي في المنطقة لا ينحصر في ساحات المواجهة خارج إيران.

  • بعد عام 2011، أصبح الشهيد سليماني حديث الإعلام الأميركي على وقع الأحداث المتسارعة في منطقة غرب آسيا.
    بعد عام 2011، أصبح الشهيد سليماني حديث الإعلام الأميركي على وقع الأحداث المتسارعة في منطقة غرب آسيا.

لم يكن الجنرال قاسم سليماني معروفاً في الغرب حتى غزو الأميركيين للعراق وانطلاق المقاومة ضد القوات الأميركية. ولم يبدأ إعلام الغرب ونخبه بالحديث عن الجنرال "الشبح" إلا اعتباراً من عام 2006، عندما اختار الشهيد سليماني أن يُعلِمهم بحضوره إلى جانب المقاومة، حسب ما جاء في وسائل إعلامٍ أميركية نقلاً عن مسؤولين عراقيين. 

ظهرت أولى الكتابات عن الجنرال سليماني في وسائل الإعلام ومراكز البحث الأميركية بواسطة معارضين إيرانيين من جماعة "خلق" الإرهابية. لاحقاً بعد عام 2011، أصبح الفريق الشهيد حديث الإعلام الأميركي على وقع الأحداث المتسارعة في منطقة غرب آسيا. ورغم اعتراف بعض النخب الأميركية بجزءٍ يسيرٍ من مناقبه وإنجازاته، تُستَنتَج حقيقةٌ أكيدة وهي أنّ جميع من كتبوا عنه كانوا متّفقين على أنه شكّل خطراً على المشروع الأميركي في المنطقة. 

 

مُهدِّدُ رؤساء أميركا

عندما كان الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما بصدد التدخّل عسكرياً في سوريا في بداية أيلول/ سبتمبر عام 2013، وجّه الشهيد سليماني رسالة تهديدٍ وتحذير لإدارة أوباما قال فيها حرفياً: "بلاد الشام هي معراجنا إلى السماء وستكون مقبرة الأميركيين، وأي جندي أميركي ينزل من طائرته أو يغادر بارجته إلى سوريا عليه أن يحمل تابوته معه". هذه العبارات التي قيلت في لقاءٍ مغلقٍ في طهران، وسرّبها الإعلام الإيراني لاحقاً، كانت محطّ اهتمام ومتابعة الصحافة والنخبة الأميركية.

عاد الحاج قاسم ووجّه تهديداً للرئيس الأميركي دونالد ترامب في أواخر تموز/ يوليو عام 2018، عندما غرّد الأخير على تويتر مهدّداً إيران، فردّ الشهيد سليماني خلال مراسم دفن عددٍ من شهداء الحرس الثوري في مدينة همدان "نحن ندكم، وقوة القدس هي نِدٌّ لكم، ليس هناك ليلة ننام فيها ولا نفكّر بكم". وأضاف: "إعلَم أنه في اللحظة التي أنت فيها عاجزٌ عن التفكير، نحن قريبون منك في مكانٍ لا تتصوّره أبداً، تعال نحن بانتظارك". 

تفاعلت وسائل الإعلام الأميركية مع ردّ الشهيد سليماني على تهديدات ترامب، وعملت على إبرازه في وجه الرئيس الأميركي. ثم عادت ونقلت تهديد الشهيد سليماني الثاني لترامب في تشرين الثاني/ نوفمبر من العام نفسه "أخبرك يا سيّد ترامب بما لا تعلم، إننا قريبون منك بكل الطرق، أينما كنت، لا تُهِن الإيرانيين ورئيسنا، عليك أن تعيَ ما تتفوّه به".

 

الاهتمام بشعبية "قائد القلوب"

اهتمّت الصحافة الأميركية بفحص منسوب شعبية الشهيد سليماني داخل إيران، وتعدّدت الكتابات التي أضاءت على نظرة المواطنين الإيرانيين لشخصية قائدهم العسكري البطولية. وذهب الصحافي الأميركي المتخصص بشؤون الشرق الأوسط سكوت بيترسون في وصف هذه النظرة إلى حدّ ربطها بالتاريخ الإيراني والثقافة الإيرانية، معتبراً أنّ "الشعب الذي لديه "الشاهنامه" وقصص الأبطال الأسطوريين، حوّل سليماني إلى أحد أولئك الأبطال، ذي الشعر الرمادي الذي أفنى عمره في خدمة بلده في الحرس الثوري الإسلامي، وهو يقهر الصعاب ويحقّق الانتصارات لبلده وهو لا يزال على قيد الحياة".

في مجالٍ آخر، أولت مراكز بحثية أميركية اهتماماً لصورة الفريق سليماني لدى الشعب الإيراني بطريقةٍ توحي أنّ خطر قائد قوة القدس على المشروع الأميركي في المنطقة لا ينحصر في ساحات المواجهة خارج إيران، بل يصل إلى الداخل حيث ينظر إليه الإيرانيون كشخصيةٍ توحيديةٍ داخلية يتّفقون على محبّتها واحترامها. 

ومن التقارير التي سلّطت الضوء على هذه الفكرة، ما نشره "المجلس الأطلسي". ركّز كاتب التقرير على ما كان محبّو الجنرال سليماني يقولونه عنه: "من المثير للاهتمام أن نلاحظ أن أنصار سليماني يطلقون عليه اسم "حاج قاسم" أو حتى "سردار دلها" أي "قائد القلوب"، الذي خلق صورةً لنفسه كجندي نكران الذات الذي يسعى للاستشهاد في الجبال والوديان". 

ودأبت وسائل الإعلام والمراكز البحثية الأميركية على نشر نتائج استطلاعات رأي الشارع الإيراني حول الشخصية الأكثر شعبيةً في إيران. وفي أحدث استطلاع رأيٍ نشرته جامعة ماريلاند الأميركية قبل شهرين من اغتيال سليماني، أظهرت النتائج أعلى نسبة تأييدٍ له (82%)، وهو ما اعتبرته نخبٌ أميركية مؤشراً على احتمال تغيير سليماني رأيه حول لعب دورٍ سياسيٍ مستقبلاً.

وخلال كل المحطات التي كان الشهيد قاسم سليماني يظهر فيها إعلامياً في العراق أو سوريا، كان الإعلام الأميركي يشير إلى أنّ العقوبات التي فُرِضَت عليه لا تنفع وهو يتنقّل بحرّية. 

لكنّ التحريض الأبرز حول مسألة تحدّي سليماني للعقوبات الأميركية، كان عندما أعلنت وسائل إعلامٍ أميركية أنّه تحدّى حظر الطيران المفروض عليه بموجب العقوبات وزار موسكو في 24 تموز/ يوليو عام 2015، والتقى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ووزير دفاعه سيرغي شويغو، علماً بأنّ وزير الخارجية الأميركي آنذاك، جون كيري، كان قد أكّد لأعضاء الكونغرس في جلسة استماع، أنّ رفع العقوبات عن إيران بموجب الاتفاق النووي لن يشمل اللواء قاسم سليماني.

 

سليماني في الذهنية العسكرية والمخابراتية

في كانون الثاني/ يناير عام 2019، نشرت مجلة "فورين بوليسي" الأميركية مقالة للجنرال الأميركي المتقاعد ستانلي ماكريستال، القائد السابق لإدارة العمليات الخاصة المشتركة بالجيش الأميركي، تحدّث فيها عن تجربته مع الشهيد سليماني في العراق ونظرته له. 

وأسهب الجنرال الأميركي في وصف شخصية الشهيد سليماني فقال: "جذب ذكاؤُه وفاعليتُه والتزامُه تجاه بلاده احترامَ الحلفاء وإدانة النُقَّاد بنفس الدرجة". لكن الجميع يتّفقون، بحسب ماكريستال، على أن "اليد الراسخة لهذا القائد المتواضع أسهمت في توجيه السياسة الخارجية الإيرانية لعقود، ولا جدال في نجاحاته داخل ساحات المعارك". واعتبر ماكريستال أنّه "يُمكن القول إنَّ سليماني هو الشخصية الأقوى والأكثر حريةً في تحرّكاتها في الشرق الأوسط اليوم (آنذاك)".

وعزا الجنرال الأميركي نجاح سليماني في إنجازاته إلى عاملٍ آخر مهمٍ برأيه، وهو الفترة الممتدة لقائد قوة القدس في منصبه، حيث تولّى قيادة القوة عام 1998. وقد اعتبر ماكريستال أنّ تمتّع سليماني بحرية العمل على مدى أفقٍ زمنيٍ ممتد "يحسده عليه العديد من المتخصّصين في الجيش والاستخبارات الأميركية". وحول هذه النقطة، قال ماكريستال معلِّلاً: "لأنّ قوة القائد تكمن في نهاية المطاف في عيون الآخرين، وتزداد بسبب الاحتمالية المتصوَّرة للسلطة المستقبلية، فقد تمكّن سليماني من التصرّف بمصداقيةٍ أكبر مما لو كان يُنظر إليه على أنه لاعبٌ مؤقت".

في مقابلةٍ مع صحيفة واشنطن بوست نُشِرَت في 20 آذار/ مارس عام 2015، تحدّث الجنرال المتقاعد ديفيد بترايوس، قائد القوات الأميركية في العراق بين 2007 و2008 (ولاحقاً القيادة المركزية في الجيش الأميركي) عن تجربته مع الجنرال قاسم سليماني. سألته المراسلة في المقابلة عن الأفكار التي تخطر في باله عندما يرى صور الجنرال سليماني في الخطوط الأمامية للجبهات في العراق، فعبّر عمّا يمكن اعتباره مشكلة شخصية قائلاً: "الحجي قاسم، صديقنا في العراق، تتبادر إلى ذهني عندما أرى صوره هناك أمورٌ عديدة، لكني لا أستطيع أن أعبّر عنها لكِ لأنه لن يكون من اللائق بصحيفتكم أن تنشرها". لكن بترايوس في المقابلة اعترف بقدرات وإنجازات الشهيد سليماني عندما وصفه بأنّه "شخصٌ قادرٌ للغاية وواسع الحيلة، وخصمٌ كفؤٌ لنا. لقد أجاد اللعب جيداً، مع أنّها لعبةٌ طويلة".

ولعلّ أهمّ تقريرٍ مطوّلٍ نُشر عن الشهيد سليماني قبل اغتياله، كان ما كتبه ضابط مكتب التحقيقات الفيدرالي السابق علي صوفان في مجلة "مركز مكافحة الإرهاب" التابع للأكاديمية العسكرية الأميركية في ويست بوينت. ذكر صوفان في التقرير أن الشهيد سليماني "حقّق إنجازاته بمزيجٍ من السياسات، من بينها المناورات الدبلوماسية الذكية". فقد نسب للشهيد "بناء تحالفٍ تكتيكيٍ مع روسيا فلاديمير بوتين، وتقديم الأسلحة والمشورة والمال لـ"الميليشيات" الشيعية عبر مجموعةٍ متنوّعة من البلدان، حتى غدت إيران رائدةً في استراتيجيةٍ تبدو فريدةً من نوعها، تجمع بين القوى اللادولتية وسلطة الدولة في مزيجٍ قوي، وهي استراتيجيةٌ تجلّت في لبنان وسوريا والعراق واليمن" حسب وصفه.

وجاءت أبرز العبارات الصائبة التي أوردها علي صوفان في بحثه "لكي يفهم المرء إيران، عليه أن يفهم قاسم سليماني".

وهنا يمكن الاستنتاج أنّ الأميركيين، وخاصةً متّخذي قرار اغتيال الشهيد سليماني، لن يفهموا إيران لأنّهم فشلوا بفهم الجنرال سليماني، وما عبّر عنه في سلوكه وتحركاته وإنجازاته الميدانية والاستراتيجية. 

ولعل خطأ المسؤولين الأميركيين المتكرّر دائماً، هو النظر إلى أعدائهم وخصومهم من المنظار نفسه، وقد يحصل أن ينجحوا مع خصومٍ وأعداء آخرين كالسوفيات سابقاً، لكن من المؤكَّد أنّ هذا المنظار  ليس ملائماً مع عدوّ كإيران.

عامٌ مرّ على إغتيال الشهيدين قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس، تغييرات كبيرة حصلت، ومعطيات تبدلت.. في الميادين نتذكر حادثة الاغتيال على أنها "جدارة الحياة وشهادة العلا".