الثابت والمتحول في أساليب التفاوض الأميركي (1-3)
كل من حلل الأداء الأميركي في منطقة الشرق الأوسط، يكتشف - على مدى تعاقب الإدارات الأميركية بين الحزبين الجمهوري والديموقراطي - أن هذه السياسة يحكمها ما يمكن أن نطلق عليه الثابت والمتحول.
طوال عشرة شهور أو يزيد - منذ أن تفجرت معركة طوفان الأقصى - تابعت كغيري من المصريين والعرب المناقشات والسجالات والتحليلات المقدمة والمعروضة عبر شاشات التلفزة العربية وبعض الأجنبية بشأن كل ما يجري في غزة، وحرب الإبادة التي تمارسها القوات الجوية والمدفعية الإسرائيلية طوال أكثر من ثلاثمئة يوم ضد الشعب الفلسطيني في غزة (ضد المدنيين الأبرياء)، وسقوط عشرات الآلاف من النساء والأطفال والرجال والشيوخ والشبان بين شهيد وجريح، وسط صمت غربي فاضح وفاجر، وضعف وتواطؤ من بعض الدول والحكومات العربية.
وسط كل هذه المذابح اليومية، نشأت ستائر دخان في الساحتين السياسية والدبلوماسية، إقليمياً ودولياً، قادتها الولايات المتحدة الأميركية وبعض الأطراف الغربية المتواطئة والمشاركة في هذه المذابح، وفي مقدمتها بريطانيا وألمانيا وفرنسا، وكثير من دول التحالف الغربي الاستعماري.
والحقيقة أن هذه الستائر الدخانية استدعتها حقيقتان جوهريتان:
الأولى: حجم المذابح والضحايا الفلسطينيين في غزة، على نحو لم يسبق للمجتمعات البشرية الحديثة أن عاشت مثله على الإطلاق، وبسببها تحركت ملايين الشباب والمواطنين في كل دول العالم - وفي هذه الدول تحديداً - ضد هذه المذابح، والضغط على حكوماتها ونخبها السياسية والفكرية لإدانة هذه الجرائم.
الثانية: حجم البطولة والاستبسال لفصائل المقاومة الفلسطينية في غزة، وفي طليعتها كتائب القسام وسرايا القدس وسائر الفصائل والمجموعات المسلحة، على نحو أدى عملياً إلى فشل هذا "الجيش" الإسرائيلي، المدجَّج بكل أنواع الأسلحة وأحدثها، في تحقيق أهدافه السياسية المعلنة من حرب الإبادة تلك، وخصوصاً أهداف: تفكيك وجود فصائل المقاومة المسلحة وإنهائها - وعلى رأسها "حماس" - سياسياً وعسكرياً وإدارياً، وقتل كل قيادات هذه الفصائل المقاومة، وأخيراً استرداد الأسرى الإسرائيليين المحتجزين في غزة وفي أنفاقها.
وباستثناء الهدف غير المعلن – والمخطَّط مسبّقاً – بشأن تدمير غزة تماماً وإبادة شعبها، وتحويلها إلى منطقة غير صالحة للحياة تماماً، تمهيداً لعمليات تهجير قسري لسكانها، واحتلالها من جديد ونشر المستوطنات اليهودية الصهيونية فيها، فإن هذا "الجيش" أثبت عجزه وفشله، في مقابل صمود أسطوري لشبان المقاومة وشعبها، على نحو من المؤكد أنه سيُضرَب به المثل والقدوة في التاريخ الحديث للشعوب.
ووسط غبار المعارك الحربية وركامها نشأت معركة أو معارك سياسية ودبلوماسية لا تقل أبداً في تأثيرها ومناوراتها وألاعيبها وأكاذيبها عما يجري في ساحات الميدان العسكري والحروب.
الغريب والمدهش هنا هو الشكل والنوع للتناول الإعلامي العربي – وغير العربي – لهذه المعركة الدبلوماسية الكبرى، التي أدارتها الولايات المتحدة وبعض حلفائها الغربيين، والاستغراق اليومي في تحليل كل تصريح وكل بيان أو خطاب سياسي يلقيه هذا المسؤول الأميركي أو ذاك، بدءاً بالرئيس الأميركي، صهيوني العقيدة والمزاج، جو بايدن، مروراً بوزير خارجيته الفخور بيهوديته وصهيونيته، انتهاءً بمستشار الأمن القومي الأميركي جاك سوليفان، يهودي الديانة والمتحالف مع "إسرائيل"، وقس على ذلك سائر الطاقم المعاون لهم (جون كيربي – ماجوريك – أرثر مايلر... إلخ). وكلهم، من دون استثناء واحد، مؤيدون بتعصب لـ"إسرائيل" ومشروعها العدواني في المنطقة العربية.
هنا سقطت من الوعي التحليلي العربي - سواء من المحللين عبر الشاشات العربية، أو العاملين في الحقلين الدبلوماسي والسياسي العربيين - التجربة التاريخية العربية الطويلة مع السياسات الأميركية في المنطقة، منذ نشأة هذا الكيان الإسرائيلي عام 1948 حتى اليوم، والدروس المستفادة منها من تجاربنا مع الدبلوماسية الأميركية، بدءاً بالرئيس الأميركي ترومان، مروراً بالرئيس دوايت آيزنهاور، في مطلع الخمسينيات، ووزير خارجيته جون فوستر دالاس، انتقالاً إلى الرئيس جون كينيدي ووزير خارجيته دين راسك، في مطلع الستينيات، وصولاً إلى وزيرَي الخارجية الأشهرين في عهدَي الرئيسين نيكسون وفورد، وهما وليم روجرز وهنري كسينجر، وانتهاءً بالرئيس اليميني العنصري المتعصب، دونالد ترامب، ووزير خارجيته بومبيو. وها نحن الآن مع الرئيس الصهيوني جو بايدن ووزير خارجيته بلينكن.
ولم يخرج كثيراً عن هذا الخط المتشدد في انحيازه إلى "إسرائيل" سوى قلة قليلة من الرؤساء ووزراء خارجيتهم، من أمثال جورج بوش الأب ووزير خارجيته جيمس بيكر، والرئيس بيل كلينتون ووزير خارجيته وليم كريستوفر.
وكما قال علماء الإنثروبولوجيا – أو علم سلالات الإنسان – فإن ما يميز الإنسان من غيره من الكائنات هو "الذاكرة" والاستفادة من التجارب السابقة.
وكل من حلل الأداء الأميركي، سياسياً ودبلوماسياً، في منطقة الشرق العربي أو الشرق الأوسط، يكتشف، في منتهي السهولة واليسر - على مدى تعاقب الإدارات الأميركية بين الحزبين الجمهوري والديموقراطي - أن هذه السياسة يحكمها ما يمكن أن نطلق عليه الثابت والمتحول.
الأسلوب التفاوضي الأميركي في أزمات الشرق العربي
الثابت في السلوك التفاوضي الأميركي، سياسياً ودبلوماسياً، وقت الأزمات في المنطقة، التي تكون "إسرائيل" طرفاً رئيساً فيها (أعوام 1956 – 1967 – 1973 – 1982 - 2006 - 2024) والمتابعة الدقيقة لهذا السلوك وكذلك من واقع ما جاء في المؤلفات والمذكرات لبعض هؤلاء المسؤولين الأميركيين، وأبرزهم الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون ووزير خارجيته الأشهر هنري كسينجر، ووزير الخارجية جيمس بيكر، وأحيانا مذكرات بعض الرؤساء والقادة العرب، بكل ما يختلط فيها غالباً، عبر خلط الحقائق بالأكاذيب، وكذا بعض كبار الكتاب والصحافيين، من أمثال الأميركي بوب ودوورد، وجوزيف ترنتو، والكاتب المصري المرموق محمد حسنين هيكل وأحمد بهاء الدين وآخرين. فالثابت هو التالي:
أولاً: العمل في أقصى سرعة على التفتيت والتقسيم لمواقف الأطراف العربية المناوئة لـ"إسرائيل"، أو المقابلة لها في الأزمة، سواء عبر استخدام وسائل الدس والوقيعة، أو استغلال الخلافات والتناقضات والتنافسات بين القادة العرب.
ثانياً: توفير مظلة حماية سياسية ودبلوماسية لـ"إسرائيل" في المحافل الدولية ومجلس الأمن الدولي.
ثالثاً: إلقاء اللوم مباشرة ومن دون تردد – حتى لو عبر اختلاق الأكاذيب – على الجانب المعادي لـ"إسرائيل"، سواء أكان دولاً وحكومات، أم حركات مقاومة وتحرر وطني (منظمة التحرير الفلسطينية – حماس – حزب الله... إلخ).
رابعاً: استخدام أساليب المراوغة والتلاعب من أجل إطالة عمر الأزمة، ما دام ذلك في مصلحة "إسرائيل" وقواتها العسكرية، أو الدعوة السريعة إلى عقد اجتماع عاجل في مجلس الأمن لوقف الحرب إذا كانت تسير في غير مصلحة الكيان الإسرائيلي (حرب تموز/يوليو 2006 ضد لبنان).
خامساً: إبعاد الأطراف الدولية الأخرى، وخصوصاً الاتحاد السوفياتي - أو روسيا حالياً – عن مسرح التأثير والفعّالية في الأحداث الجارية والانفراد الأميركي بها.
سادساً: العمل على استقطاب بعض الحكومات العربية إلى الموقف الأميركي، إمّا عبر الحياد في الأزمة، وإمّا عبر تبني الموقف الأميركي المتحالف مع "إسرائيل"، وهو ما تكرر في كل الأزمات المشار إليها.
سابعاً: التفرع أو الهروب من القضايا الكلية للصراع والأزمة إلى القضايا الفرعية والجزئية، مثل إمداد الجيش الثالث المصري المحاصَر في سيناء – وقتئذ – ومسائل فض اشتباك القوات، تماماً كما يجري حالياً في موضوع محور صلاح الدين أو فيلادلفيا، عبر ما يسمى سياسة الخطوة خطوة أو المراحل وإجراءات بناء الثقة Confidential Measures.
يسهل فهم الآليات والأساليب للعمل الأميركي، سياسياً ودبلوماسياً، في منطقتنا، بشأن عدم الوقوع في شَرَك التدافع التحليلي وراء المواقف والتصريحات الأميركية في أثناء الأزمة، فنتوقف عن ترداد تلك الجمل والعبارات غير ذات المعنى في وصف السلوك الأميركي تجاه "إسرائيل" من قبيل "التردد الأميركي – ضعف الإدارة الأميركية – عدم القدرة على الضغط – سيطرة اللوبي اليهودي على القرار الأميركي، وغيرها كثير"، والذي يكشف قصور الفهم التحليلي الدقيق لبنية النظام السياسي الأميركي من ناحية، وطبيعة العلاقة البنيوية بين هذا الكيان العنصري الاستيطاني ودول الغرب الاستعماري وحكوماته (وفي طليعته الولايات المتحدة)، من ناحية أخرى.
إذا راجعنا الأسلوب التفاوضي الأميركي، في أبرز محطات الصراع العربي – الصهيوني وأهمها، فسوف نكتشف حقائق الثابت والمتحول في هذا السلوك الأميركي.
دعونا نتأمل معاً السلوك التفاوضي الأميركي في أثناء حرب السادس من تشرين الأول/أكتوبر 1973، وبعدها الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982، وفي أثناء العدوان الإسرائيلي على لبنان في تموز/يوليو 2006، ونقارنه بالسلوك السياسي الأميركي الراهن في حرب الإبادة، التي تقوم بها "إسرائيل"، مدعومةً بالتحالف الغربي الاستعماري – باستثناء دول وحكومات قليلة، مثل إسبانيا وآيرلندا والنرويج وسلوفينيا – في قطاع غزة والضفة الغربية.
فإذا توقفنا عند سلوك وزير الخارجية الأميركي الأشهر، هنري كسينجر، يهودي الديانة، وصهيوني العقيدة السياسية، فإننا نجده، منذ اللحظة الأولى لأزمة حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973، بنى خطته التفاوضية مع الأطراف العربية على مجموعة من الركائز والأساليب، أهمها:
1- التفتيت والتقسيم للموقف المصري السوري الموحد في أثناء الحرب، وزرع بذور الشقاق والشكوك بين الطرفين.
2- ساعده على ذلك، منذ اللحظة الأولى، السلوك والاتجاهات للرئيس المصري، أنور السادات، الذي بدا متلهفاً ومندفعاً – من دون روية أو صبر- إلى الالتحاق بالمركب الأميركي، والتخلص من الإرث الاشتراكي والناصري والتحالف مع الاتحاد السوفياتي. وهنا نجد عشرات المصادر، التي كشفت سلوك السادات واتجاهاته، وإعلانه المبكّر أن 99% من أوراق اللعبة في الشرق الأوسط في يد الولايات المتحدة، بما في ذلك مذكراته "البحث عن الذات"، والصادرة عام 1978، ناهيك بمذكرات الوزير هنري كسينجر، الحافلة بالوقائع والتفاصيل الخطيرة، مثل "سنوات التجديد" و"درب السلام الصعب" و"مذكرات هنري كسينجر"، في جزأين، ناهيك بمؤلفات الأستاذ محمد حسنين هيكل الحافلة بالوقائع والأسرار والوثائق، "المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل"، ثلاثة أجزاء، و"أكتوبر 73.. السلاح والسياسة" وكتابه "خريف الغضب"، وغيرها كثير.
3-حرص وزير الخارجية الأميركي على استخدام أساليب المراوغة والتدليس على المفاوضين العرب، وخصوصاً المصريين، من أجل تحقيق الأهداف الإسرائيلية بشأن الحرب، أو على الأقل عدم خسارتها لهذه الحرب، والخروج بمفاوضات "سلام"، سواء سرية أو علنية، بين مصر و"إسرائيل" من خلال خطوات جزئية تبدأ بفك اشتباك القوات، وتستمر سرية حتى زيارة السادات للقدس المحتلة، في تشرين الثاني/نوفمبر 1977، وتنتهي باتفاقيتي: كامب ديفيد في أيلول/سبتمبر 1978، واتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية في آذار/مارس 1979.
4- حرص هنري كسينجر على إبعاد القوة العظمي الثانية (الاتحاد السوفياتي) عن التأثير في المفاوضات الجارية مع مصر - على الأقل - وهو ما كان يجد ترحيباً من أطراف عربية خليجية محافظة، فسهل على الرجل تقسيم الموقف العربي، الذي بدا موحَّدا في أثناء الحرب، وتُوِّج باستخدام النفط في المعركة، للمرة الأولى وللمرة الأخيرة، في التاريخ العربي الحديث. والمثير للدهشة أن الرئيس المصري، أنور السادات، كان الأكثر حماسةً وتأييداً لفك الحصار النفطي، الذي اتخذته الدول العربية ضد الولايات المتحدة وهولندا والدول الغربية المؤيدة لـ"إسرائيل"، وذهب إلى حد الضغط بنفسه على الملك فيصل من أجل فك هذا الحصار النفطي.
5- عبر سياسة الخطوة خطوة Step By Step، وما أطلق عليه إجراءات بناء الثقة Confidential Measures وسياسة المراحل Stages، جرت أكبر عملية سياسية واستخبارية لاختراق المنطقة العربية وكشفها استراتيجياً بعد خروج الرئيس المصري أنور السادات من خط الصراع والمواجهة مع المشروع الاستعماري الصهيوني في فلسطين والمنطقة العربية، وبدأت مرحلة جديدة وخطيرة في العالم العربي، جسّدتها كلمتان رُفعتا في العواصم العربية، واحدة بعد الأخرى، وهي: مصر أولاً – الأردن أولاً – تونس أولاً – الكويت أولاً... إلخ؛ فأوصلت المنطقة العربية إلى ما نحن فيه من انهيار شامل، سياسياً واستراتيجياً.