أضخم مشروع توثيقي.. 3658 ديواناً في "موسوعة الشعر الفلسطيني"
"موسوعة الشعر الفلسطيني" هي أضخم مشروع توثيقي للشعر الفلسطيني الحديث، وهي إضافة مهمّة جداً إلى المكتبة العربية التي تحتاج إلى تبيان مكانة هذا الفن الإبداعي الخلّاق الذي ميّز الحركة الأدبية في فلسطين.
بمنهج علمي متقن دقيق في بحثه وتقصيه، مضبوط بمصادره ومراجعه ودراسة موضوعاته، يبني الأديب والناقد يوسف حطيني فصول وأبواب كتابه الشامل "موسوعة الشعر الفلسطيني" والذي بدأه قبل سنوات كخطوة أولى تحت عنوان "ديوان الشعر الفلسطيني"، في جهد حثيث دؤوب للتأريخ لواحد من فنون الإبداع والكتابة التي ميّزت المشهد الثقافي الفلسطيني، أي الشعر، الذي كان من بين أهم فنون التعبير عن الشخصية الفلسطينية وإثبات هويتها وكينونتها وانتمائها إلى هذه البقعة المقدسة، ولا سيما بعد العام 1948 وأحداث النكبة التي كان في طليعة أهدافها محو تلك الشخصية وابتلاع المكان الذي تنتمي إليه جغرافياً وحضارياً، بل واقتلاع الشعب العربي الفلسطيني وإلغاء وجوده.
وعلى هذا فإن "موسوعة الشعر الفلسطيني" تعدّ كتاباً ومشروعاً رائداً في تثبيت هذه الهوية والدفاع عن الشخصية الفلسطينية والوطن الذي تنتمي إليه، وفي الوقت نفسه تبيان أهمية الشعر كواحدٍ من الحوامل الجمالية والمعرفية التي أنتجها هذا الشعب لتكريس وجوده وقيمه التي آمن بها، وبذل الأرواح والدماء لصون هذا الوجود، كما يعدّ استكمالاً لما بدأه كلّ من الروائي أحمد عمر شاهين في "موسوعة كتّاب فلسطين في القرن العشرين"، والأديب والشاعر طلعت سقيرق في "دليل كتّاب فلسطين"، و"الشعر الفلسطيني المقاوم في جيله الثاني"، والكاتبة والناقدة سلمى الخضراء الجيوسي في "موسوعة الأدب الفلسطيني المعاصر"، والشاعر محمد حلمي الريشة في "معجم شعراء فلسطين" و"شعراء فلسطين في نصف قرن (1950-2000)"، والباحث محمد عمر حمادة في "موسوعة أعلام فلسطين".
يرى حطيني أن تعامل الشعراء الفلسطينيين كان مختلفاً مع اللغة الشعرية، إذ استخدم بعض الشعراء لغة مشبعة بالأصالة ومحاكاة الأساليب القديمة، فيما اجتهد بعضهم لتقديم لغة ذات نكهة جديدة.
ولئن كانت الأعمال آنفة الذكر جديرة بالتقدير والانتباه، لما بذلته من جهد في تقصي الحركة الأدبية الفلسطينية عموماً والشعر خصوصاً، فإن ما ذهب إليه حطيني كان أكثر عمقاً وأوسع وأشمل. ذلك أنه أحصى وجمع أكثر من 3658 مجموعة شعرية، تمّ إصدارها في فلسطين والشتات حتى الشهر الأول من عام 2021.
درس الأغلب الأعم منها بما يلبي الموضوعات والأطروحات التي تناولها في 21 فصلاً تأريخاً ونقداً ومقاربةً ومراجعةً، وربطاً بالتجارب الشعرية الفلسطينية في الشتات وداخل الأراضي المحتلة، بل تناول الظواهر الموضوعية والفنية العامة في الشعر الفلسطيني، والاستشهاد لتلك الظواهر، بمختلف النصوص التي أنتجها الشعراء الفلسطينيون، مشهورين ومغمورين، مخضرمين وشباباً، محدثين وتقليديين، وذلك من أجل إعطاء أوسع صورة عن الشعر الفلسطيني، فضلاً عن الهوامش التي تتضمّن معلومات عامة عن الشعراء الذين يتمّ الاستشهاد بهم في تضاعيف القسم البحثي من الموسوعة.
تعد "موسوعة الشعر الفلسطيني" كتاباً ومشروعاً رائداً في تثبيت الهوية الفلسطينية والدفاع عن الشخصية الفلسطينية والوطن الذي تنتمي إليه، وفي الوقت نفسه تبيان أهمية الشعر كواحدٍ من الحوامل الجمالية والمعرفية التي أنتجها هذا الشعب لتكريس وجوده وقيمه التي آمن بها.
وهنا لا بد من الوقوف عند بعض الفصول، والاستنتاجات والأحكام التي انتهى إليها حطيني، على سبيل المثال لا الحصر.
ففي فصل "الشعر الفلسطيني والتوثيق التاريخي" يؤكد أن الشعر الفلسطيني، وانطلاقاً من دوره ووظيفته في كشف الوقائع التاريخية والاجتماعية وتوثيقها، نجح في مرافقة مفاصل القضية الفلسطينية، ويحاول حطيني في هذا الفصل التركيز أكثر على النماذج الحديثة، وربما غير المعروفة، لأن الكتب الأدبية التي تناولت الأدب الفلسطيني أشبعت النماذج القديمة دراسة، وكرّرت كثيراً من النماذج التي كتبها الشعراء الذين كان لهم حضور لافت في ساحة الشعر.
وفي فصل "الشهداء.. سفر الخلود في مسيرة الشعر" ينوّه حطيني بأن الشعر الفلسطيني رافق مسيرة الشهداء الفلسطينيين وصوّر بطولاتهم وتضحياتهم، وأكد المكانة المرموقة التي يستحقونها بجدارة. وبدا الشهيد محملاً بدلالات العزة والفخار، فهو ذلك الإنسان الذي تستمدّ منه الأرض لونها وحنانها، في حين قام بعض الشعراء الفلسطينيين بالدخول إلى أعماق المحيطين بالشهيد، أماً وأباً وأخاً وأختاً وزوجةً وابناً وابنة.
وفي فصل "صورة الوطن.. صورة المنفى" يؤكد حطيني أن فلسطين بدت صورة مثالية لكثير من الشعراء، فيها عاش الفلسطينيون أيامهم الجميلة، وعلى أرضها تعانق الدين والتاريخ المجيد، لذلك كثيراً ما نقرأ عن تلك الأرض وترابها الطاهر المقدّس، وثمة للوطن الحبيب صورة أخرى تبدو بارزة للعيان. إنها صورة الوطن في قبضة الاحتلال، ذلك الاحتلال الذي دنّس جرح الوطن.
كما ينهض الإحساس بالضياع والتشتّت بين الـــ (هنا) والــــ (هناك) واحداً من أبرز عذابات المنفى في الشعر الفلسطيني، إضافة إلى عذابات أخرى تبدأ عند تذكّر صورة الوطن، أو بنائها، ولا تنتهي بضياع المنفيّ في منفاه، باحثاً عن انتماء يفزع إليه، أو قبرٍ يضمّ رفاته بحنان. فالوطن البعيد يبقى أبداً حلم المنفيّ الذي يقضي عمره منتظراً العودة إليه.
ذلك المبدأ الذي تمسّك به الفلسطينيون كحق ثابت بالعودة إلى ديار الآباء والأجداد التي هجّروا منها، وكان عنوان فصل "سنرجعُ.. في قبضات القدر" الذي يؤكد فيه حطيني أن الشعراء الفلسطينيين عبّروا عن هذا الحق في قصائدهم من خلال رموز كثيرة، ومنها المفتاح الذي صار رديفاً للبيت والوطن. كما يستطيع القارئ أن يلحظ في شعر العودة، تكراراً لصيغ التوكيد المختلفة، كقول الكثير منهم (إننا عائدون) أو (إنا عائدون). ليصل إلى القول: هكذا بدت فكرة العودة في الشعر الفلسطيني: حلمٌ لا ينتهي، وإصرارٌ لا يحدّ، وعزمٌ لا يلين، للانطلاق الظافر نحو الأرض، تلك الأرض التي تنتظر أهلها، مثلما تنتظر الحقول القاحلة انهمار المطر.
وفي فصل "الشعر الانتقادي" يؤكد حطيني أن معظم الشعراء الفلسطينيين رأوا أن النظام الرسمي العربي لم يكن في مستوى مواجهة تحديات الهوية القومية والإسلامية، وخاصة في النصف الثاني من القرن العشرين، إذ كان عاجزاً عن تحديها، أو متواطئاً، في بعض الأحيان، مع أولئك الذين يعملون على النيل منها. من هنا - برأي حطيني - اتخذ الشعر الفلسطيني موقفاً انتقادياً من معظم القيادات الرسمية التي جسّدت هذا العجز والتواطؤ، ولم يسلم النظام الفلسطيني الرسمي من ألسنة الشعراء التي راحت تفضح الأدوار المشبوهة، وتكشف الزيف وتهاجم القادة السياسيين وتسخر منهم سخرية مريرة.
أما في فصل "الصورة الشعرية" فيدرس حطيني الصورة بين التقليد والتجديد، وتطوّر هذه الصورة، والصورة والسياق، ليجد أن الشعراء الفلسطينيين لم ينجحوا دائماً في الخروج من أسر الصورة التقليدية، فبناها بعضهم بدقة وإحكام، فيما قصّر بعضهم الآخر عن إحكام صنعتها، غير أن هذا لا ينفي نجاحات متعدّدة حققها الشعراء في مجال تكثيف الصورة وتطويرها، والإفادة من سياقها في الإسهام بتحقيق الدلالة العامة للنص الشعري.
وفي فصل "اللغة الشعرية" يرى حطيني أن تعامل الشعراء الفلسطينيين كان مختلفاً مع اللغة الشعرية، إذ استخدم بعض الشعراء، وخاصة التقليديين منهم، لغة مشبعة بالأصالة ومحاكاة الأساليب القديمة، فيما اجتهد بعضهم لتقديم لغة ذات نكهة جديدة، فاقترحوا تجاورات جديدة للمفردات، واستخدموا لغة شفافة رقيقة، وأفادوا من العادي والمألوف، واستخدموا الشعبيّ في أنساقهم الشعرية، بينما ظلّ بعض الشعراء يرزحون تحت وطأة الارتباك والتكرار والمباشرة وضعف الصياغة والبنية اللغوية.
وأخيراً.. يمكن القول بكثير من الاطمئنان إن "موسوعة الشعر الفلسطيني"، التي تقع في نحو 600 صفحة من القطع الكبير، تعدّ حتى اللحظة أضخم مشروع توثيقي للشعر الفلسطيني الحديث، وهي إضافة مهمّة جداً للمكتبة العربية التي تحتاج حقاً تبيانَ مكانة هذا الفن الإبداعي الخلّاق الذي ميّز الحركة الأدبية في فلسطين.
يُذكر أن يوسف حطّيني أديب وأكاديمي وباحث وناقد فلسطيني، من مواليد مخيم اليرموك بدمشق عام 1963. صدرت له أعمال أدبية عدة في حقول الشعر والقصة والرواية والمسرح والنقد.