يوميات نازح.. كشك بقورما وأول زخة مطر في الحرب
ها هو المطر، الذي يُفترض أن يكون بشارة خير، ها هو يكمل ما بدأه العدوان منذ أكثر من عام، ويستبد في ممارسته منذ أكثر من شهر: جعل الناس في مهب الموت.. في مهب العاصفة!
- هل ما زال لديك وقتٌ للحب؟
- لا أعرف! هل يجتمع الحب والحرب!
سابقاً كنت أسأل، لمّا كان جزءٌ لا بأس فيه من يومي يذوب في الطبخ، كما القورما تذوب في مقلاة بيض: هل يجتمع الحب والطبخ!
اليومَ، منذ عام تقريباً، ولأكُنْ دقيقاً، منذ أكثر من شهر، وقتي كله أستنزفه في مشاهدة الخراب الذي تخلّفه "الوحوش الضاريات" الطائرةُ، في بعلبك، وصور، والنبطية، والضاحية، والهرمل، بعد أن تُلقي تلك "الوحوش الضاريات" حممَها وحمولتَها من القتل والحقد، من السماء.
وقتي كله يَمعسه معساً لئيماً صوتُ "الأم كا" يوزّ وزّاً مُوجعاً من "فُوق فُوق فُوق".. من خاصرة السماء!
وقتي كله أُهرقه وأنا أنُطّ من محطة فضائية تحكي عن عدد الشهداء، إلى محطة ثانية تُحصي عدد الجرحى، إلى محطة ثالثة تتحرى عن عدد الغارات!
- لكنك وجدتَ وقتاً اليوم لتطبخ الكشك بقورما. وجدتَ وقتاً لتقطيع البصل. وجدتَ وقتاً لفرم الثوم. وجدتَ وقتاً لسقسقة القورما والاستمتاع برائحتها رغماً عن رائحة البارود. وجدتَ وقتاً لتحريك الكشك جيداً حتى لا يكعزل!
- نعم، وجدت وقتاً لممارسة العشق مع القورما بعد أن صرت أخجل من ممارسة الحب، أو حتى من ممارسة التفكير في الحب، بسبب الحرب؛ بسبب الوضع؛ بسبب ارتجاف السماء من طنين "الأم كا"؛ بسبب هزات البدن للأرض من جلافة الصواريخ؛ بسبب النزوح؛ بسبب بكاء الأطفال والنساء، وحتى الرجال، في الشارع، قرب الخِيَم المنتشرة تحت الشمس، وتحت المطر، عند كورنيش البحر!
لذا، قررت اليوم أن أهرب إلى ممارسة عشق آخر: عشق الكشك بقورما!
- لكنها تمطر الآن. أنتَ، الرجل شتوي المزاج، والذي يحبّ المطر، وينتظره، ألا ينتابك شغف في الاستغراق طويلاً في حبّاته تتساقط على جدار النافذة، وتنسكب على الزجاج حيناً بغزارة، وحيناً برِفق. كيف صارت مشاعرك ثلجيةً قبل أن يأتي الثلج، وقبل أن يأتي الشتاء!
- أحب المطر. نعم. أحبه كثيراً، كثيراً جداً، لكني أحبّه لما يكون رحوماً. هو الآن مُستبدّ. يُكمل مهمة العدوان. يُؤذي الأطفال، الذين هُجّروا من بيوتهم وباتوا في العراء. تستطيعين، في بيروت، أن تَرَيْ بعضاً منهم فوق الكورنيش الممتدّ من عين المريسة حتى الروشة. هل تَرَين ماذا يفعل المطر المُستبدّ بهم. لذا، بيني وبين المطر الآن شيءٌ يشبه الزعل. شيء يشبه العتب. شيء يشبه الخيبة. المطر، الذي ينهمر بغزارة على الأرض الآن، ينغرز كسكين في قلبي!
لا تسأليني: لماذا؟
كيف يخطر في بال أحد، أصلاً، أن يسألني: لماذا؟
ألم يخفق قلبك غضباً، وسخطاً، ووجعاً، ورأفةً بالآلاف الآلاف من الأطفال، من النساء، من الصبايا، من الختايرة والعجزة، كثير منهم في خيام، كثير منهم عند كورنيش البحر، وكثير منهم فوق بلاط المدارس، وكثير منهم في مراكز إيواء.
وها هو المطر، الذي يُفترض أن يكون بشارة خير، ها هو يكمل ما بدأه العدوان منذ أكثر من عام، ويستبد في ممارسته منذ أكثر من شهر: جعل الناس في مهب الموت.. في مهب العاصفة!