"كاذبو الطبيعة وطبيعة الكاذبين": عن الغش والخداع في عالم الطبيعة وعالم البشر
يحدد كتاب "كاذبو الطبيعة وطبيعة الكاذبين" "قانونين" للخداع أو طريقتين رئيسيتين للخداع في مملكة الحيوان، وفي عالم البشر.
الطبيعة حافلة بمظاهر الخداع. تتظاهر حيوانات الأبوسوم بالموت لتخدع الحيوانات المفترسة. تطلق بعض الغربان نداء استغاثة كاذباً لتختطف الطعام من جيرانها، وتخدع بعض اليرقات النملَ ليعاملها مثل ملكات. وحتى الجينات والخلايا تخدع، فما الذي يمكن تعلمه من كل هذا الخداع؟ وهل هو مظهر سلبي كما نعتبره في عالمنا؟
يحاول كتاب ليشينغ سان "كاذبو الطبيعة وطبيعة الكاذبين: الغش والخداع في العالم الحي" الإجابة عن هذا السؤال والكثير غيره. صدر هذا الكتاب في نيسان/أبريل 2023 عن دار نشر جامعة برينستون، وهو يقع في 288 صفحة و8 فصول.
إنه يستكشف تطور الخداع في العالم الطبيعي، ويُظهر أن هذا الخداع أدى إلى ظهور تنوع طبيعيّ مثير للعجب. ليشينغ سان أستاذ في اختصاص سلوك الحيوان وعلم الأحياء في جامعة سنترال واشنطن، وهو مفتون بفكرة الخداع هذه.
إن الخداع يمكن أن يوجد، بحسب قوله، في كل مستويات "التسلسل الهرمي الأحيائي، من الكائنات الأكثر تعقيداً إلى الأقل تطوراً"، وهو، كما يرى سان، شيء إيجابي، وقوة محركة في تاريخ الحياة، و"وسيط فعال لخلق التنوع والتعقيد، وحتى الجمال".
يمزج الكتاب بين العلم القاطع والأمثلة الهادية المستقاة من الكائنات الدقيقة وصولاً إلى الطيور والثديات كثيرة الذكاء. يتفحص سان في هذا الكتاب "سلوك الغش وتطوره وتاريخه الطبيعي" في مملكة الحيوان، ويعرض لنا الطرق التي تستخدم بها الكائنات الحية، بما فيها الإنسان، الخداعَ لمصلحتها في المسعى التطوري.
يبدو النصف الأول من الكتاب مثل مكتب تحقيقاتٍ فيدرالي يحاول القبض على المطلوبين الأكثر خداعاً في العالم الأحيائي، فهو يحدثنا، على سبيل المثال، عن أحد أكثر الحيوانات مكراً أو الأكثر دراسة على الأقل بين فناني الطبيعة في الاحتيال: فراشة ألكون الزرقاء التي تعيش في أوروبا ووسط آسيا. تنزل يرقات هذا النوع بعد مرحلة معينة إلى الأرض وتنتظر النمل العابر. وبما أن النمل يعتمد على مواد كيماوية تدعى الهيدروكربونات الجلدية أو CHCs لتحديد مكان قريته، تفرز اليرقات مواد كيماوية مشابهة لها لتضليله. وهكذا، يُخدَع النمل ويحمل الطعام إلى اليرقات مهملاً حتى صغاره. كذلك، تصدر اليرقات صوتاً تربطه النملات عادة بملكتهم، فتعاملها النملات مثل ملكة.
وفقاً لسان، تتبع الكثير من الأنواع، سواء في عالم الحشرات أو عالم الطيور، تكتيكات مماثلة، وهي ممارسة تدعى "طفيلية الحضنة". على سبيل المثال، تضع بعض أنواع البط بيوضها في أعشاش طيور أخرى.
في كتاب "كاذبو الطبيعة وطبيعة الكاذبين"، يحدد ليشينغ سان "قانونين" للخداع أو طريقتين رئيسيتين للخداع في مملكة الحيوان، وفي عالم البشر ربما. الطريقة الأولى هي "الخداع"، وفيها يستغل الحيوان المخادع الضعفَ الإدراكي وثغرات الأجهزة الحسية عند الحيوان الآخر (المخدوع). "لكي تستغل الثغرات الإدراكية عند نوع آخر، لا تحتاج سوى إلى تمويه جيد بما يكفي لتخدع هدفك. غالباً، محاكاة بسيطة ستكون كافية"، يلاحظ سان.
أما طريقة الخداع الأخرى التي تغشّ بها الحيوانات، وفقاً لسان، فهي "الكذب" أو إعطاء معلومات زائفة. الكثير من الحيوانات (وحتى النباتات) يتواصل مع بعضه بعضاً؛ هذه غالباً واحدة من مهارات البقاء الأساسية، لكنّ إمكانية التواصل تفسح المجال لإمكانية سوء التواصل. وبالتالي، يستغل المخادعون رسائل إشارات التواصل ويستخدمونها لتحقيق غاياتهم.
على سبيل المثال، تصدر الغربان صرخات تحذيرية لتنبّه الغربان الأخرى من خطر محتمل، لكن الغربان المحتالة تطلق نداء استغاثة كاذباً لتخيف جيرانها وتبعدهم عن الطعام. مسائل التزواج هي أيضاً، كما يلاحظ سان، أرض خصبة للخداع.
تبدو سمة الخداع للوهلة الأولى سمةً سلبية، لكن سان في هذا الكتاب يُكسبها صبغة إيجابية، ويرى فيها قوة تطورية فعالة. يقع المخدوعون تحت ضغط انتقائي كبير ليفوقوا المخادعين ذكاءً ويخدعوهم بدورهم، وهذا يضع المخادعين تحت ضغط كبير ليحسّنوا من تقنياتهم.
الخيار إذاً هو: ابتكر أو مت. إن "مخططات الخداع ستنشّط الحركات المضادة التي ستفضي بدورها إلى مناوراتِ خداعٍ مضادة للمضادة، وهكذا إلى ما لا نهاية"، يكتب سان. و"في أثناء ذلك، سيُبتكر عدد لا محدود من التكتيكات". في النتيجة، يقوم الخداع بدور وسيطٍ فعال في سباق التسلح التطوري بين الخادع والمخدوع، وهذا يفضي إلى عالم بيولوجي مزدحم بالتعقيد والجمال.
في النصف الثاني من الكتاب، يحوّل سان انتباهه إلى الغش بين بني البشر (الإنسان العاقل)، ويرى أيضاً أن الغش في المجتمع البشري يحفز الابتكار والحيوية الثقافية. إن الخداع البشري، كما يقول، أكثر تعقيداً من الخداع عند الحيوانات، بسبب ذكاء البشر العالي وبنيتهم الاجتماعية المعقدة وقدرتهم على استخدام اللغة.
وكدراسة حالة، يستعين سان بسيرة حياة فرانك أباغنيل؛ المحتال المحترف الذي حملت سيرة حياته اسم "أمسك بي إن استطعت"، وشكّلت أساس فيلم ستيفن سبيلبرغ الذي حمل الاسم ذاته. يريد منا سان أن ننظر إلى أباغنيل مثل سمكة من نوع بليني فانغ المخطط بالأزرق، الذي يستخدم المحاكاة ويغيّر ألوانه ليهاجم أسماك الشعب المرجانية الأكبر حجماً منه ويتغذى عليها. "رغم مستوى التعقيد العالي فيها، تندرج تكتيكات أباغنيل ضمن طريقتي الخداع الرئيستين التي يستخدمها فنانو الاحتيال من الحيوانات"، يكتب سان.
إن اعتبار قوانين الغش عامة ومشتركة بين البشر والحيوان هو مفهوم رئيسي في كتاب "كاذبو الطبيعة وطبيعة الكاذبين". إنه في الحقيقة ما يجمع بين نصفي الكتاب ويبرّر التلاعب بالألفاظ الموجود في العنوان. كذلك، يفسّر هذا الربط كيف ينتهي الأمر بسان كمدافع ومبرر لطرق الغش عند البشر.
إن الكذب موجود في جينات الإنسان العاقل، وله القوة التوليدية ذاتها التي يتسم بها الخداع في البرية. إنه، بحسب رأي سان، مسؤول عن الثقافة البشرية. "من دون الخداع، ما كان الأدب ليوجد، ولا حتى الفن، والعلم، والتكنولوجيا، والأعمال التجارية، أو الدين، وتطول القائمة إلى أن تشمل كل جوانب حياتنا"، يكتب سان.
ما لا شك فيه أن ثمة بالفعل تتابعاً وتشابهاً بين الخداع عند الحيوانات والخداع عند البشر، وهذا ما يظهر في الكتاب. مع هذا، سيندهش قرّاء كتاب سان من الاختلافات بين الاثنين. لنأخذ مثلاً الوقواق البرونزي الهورشفيلدي. المدهش في حالة هذا الوقواق أن الإناث لا تحتاج تعليماً فيما يخص "طفيلية الحضنة"؛ هي لا تلتقي أمها أساساً لتتلقى منها التعليم. مع هذا، جيلاً بعد جيل، تضع الإناث بيوضها في أعشاش الطيور الأخرى. في الواقع، إنها لا تستطيع أن تربي صغارها، وهذا هو الثمن التطوري الذي تدفعه لقاء الخداع. ببساطة، "فنانو الاحتيال بين الحيوانات" لا يملكون خيار ألا يكونوا محتالين.
لكن بين البشر القصة مختلفة؛ فمسألة كيف ومتى نحتال هو أمر تحدده الثقافة والميل الفردي. لم يكن فرانك أباغنيل مضطراً إلى اللجوء إلى التزوير؛ لقد اختار أن يفعل ذلك، حتى إنه في كتاب سيرته اختار بإرادته أن يبالغ في قصته، والكثير ممّا رواه لم يحدث قط. مع هذا، يستشهد سان بكتاب "أمسك بي إن استطعت" كما لو كان سجلاً تاريخياً، ربما بسبب رغبته في إظهار قوة الخداع.
في النتيجة، إنَّ طرح حالة التشابه في مسألة الخداع بين عالمي البشر والحيوانات يجعل من الكتاب نزهة ملهمة وممتعة للغاية، ولا سيما أن سان يتعامل مع موضوعه بطريقة علمية جدية، إنما موشّاة بروح الفكاهة.
والأهم من ذلك أنّ الكتاب يُظهر أبعاداً للغش والخداع لم نكن نعرفها أو نفكر فيها. نعرف أن الانتشار المطرد للأكاذيب والتضليل هو أحد المشكلات الكبيرة في المجتمع البشري اليوم، ونعرف أن أهل السياسة كثيراً ما يكذبون ويخدعون لخدمة مصالحهم، لكن كتاب "كاذبو الطبيعة وطبيعة الكاذبين" يوضح أن المسألة ليست بهذه البساطة، فالخداع أكثر تعقيداً بكثير مما نعتقد. إنه جزء من الصراع لأجل البقاء.