عن "سباعيّة" صاحب نوبل يون فوسه
نشِرت "سباعية" في ثلاثة مجلدات: الأول بعنوان "الاسم الآخر" والثاني "أنا هو آخر" والثالث "اسم جديد" وقد نُشر عام 2021 ووصل إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العالمية عام 2022 عن فئة الرواية المترجمة إلى الإنكليزية.
طرق اسم النرويجي يون فوسه أسماعنا بكثرة مؤخراً، ومتأخراً، بعد فوزه بجائزة نوبل للآداب عام 2023 بسبب "منحه صوتاً لما يتعذر قوله". ونقول متأخراً، لأن لفوسه مسيرة أدبية طويلة وحافلة لم يصل إلى قرّاء العربية إلا القليل منها.
منذ عام 1983، نشر فوسه 48 رواية والكثير من مجموعات المقالات، الشعر، والقصص القصيرة، وقصص الأطفال، بالإضافة إلى نتاجه المسرحي الذي يصل إلى أكثر من 30 مسرحية، والذي يُعدّ أكثر إنتاجاته أهمية. ففوسه، كما يُقال، هو الكاتب المسرحي الحي الأكثر إنتاجاً في أوروبا، وكثيراً ما وُصِف بأنه "بيكيت القرن الواحد والعشرين". فوسه كذلك هو أحد أبرز كتاب النرويج وقد ربح فيها كل جائزة تقريباً. وأعماله تُرجمت إلى أكثر من 50 لغة.
يُعرَف فوسه بدفعه الأدب إلى حدوده القصوى، ولا تتجلى فرادته تلك بوضوح مثلما تتجلى في أحدث أعماله: سلسلة "سباعية" التي تنضم سلفاً إلى مسيرة مذهلة، أو لعلها تُعدّ تتويجاً لتلك المسيرة.
"سباعية" هي عمل غريب للغاية، غريب على نحو جميل ومؤثر، وسلسلة استثنائية من 7 أجزاء أو 7 روايات. إنها "جملة طويلة للغاية عن الله، الفن، الهوية، حياة العائلة، وحياة الإنسان".
نشِرت "سباعية" في ثلاثة مجلدات تقترب من الألف صفحة في مجملها. يحمل المجلد الأول عنوان "الاسم الآخر" وهو يحتوي الأجزاء 1 و2، وقد ظهر في النرويج عام 2019 وتُرجم إلى الإنكليزية في السنة ذاتها. المجلد الثاني "أنا هو آخر" يحتوي الأجزاء من 3 إلى 5 وقد نُشر في ربيع 2020؛ أما الثالث "اسم جديد" فيحتوي الأجزاء 6 و7، وقد نُشر عام 2021، ووصل إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العالمية عام 2022 عن فئة الرواية المترجمة إلى الإنكليزية.
تعرض "سباعية" حياة شخصية رئيسية تحدق بلا نهاية في لوحة من أجل فهم معناها وتقوم أثناء ذلك بشطحاتِ تأمل في حياتها الماضية. وهذا _مجرد فكرة واحدة لألف صفحة_ قد يجعل الكتاب يبدو فظيعاً: مدّعياً، واثقاً بنفسه، ولا يُحتمل، لكن ذلك يجعل روعته لافتة أكثر. فالكتاب يتفادى هذا المأزق ليصبح شيئاً مختلفاً تماماً عمّا يبدو عليه؛ شيئاً مثل كل الروايات العظيمة يقلب أفكارنا المسبقة عن ماهية الرواية رأساً على عقب.
إن ما تجذبنا إليه الرواية العظيمة ليس متع الحبكة والشخصيات والموضوع، بل قصة أسلوبها، وهذا ينطبق تماماً هنا. في "سباعية"، وجد فوسه طريقة جديدة لكتابة الأدب، مختلفة عمّا كتب هو سابقاً، ومختلفة عمّا كُتِب قبلاً بالعموم؛ ومن الغريب والاستثنائي أن نتمكن من قول هذا مع دخول فن الرواية قرنه الخامس. إن "سباعية" تبدو جديدة للغاية، وهي تمثّل حقاً ما يقوله فوسه عن كتابته: "أنت لا تقرأ كتبي من أجل الحبكات". إن من الصعب للغاية_ الصعب على نحو جميل _ أن نفكر بعد قراءة "سباعية" بأن الروايات يُمكن أن تكتَب بأية طريقة أخرى.
إن "سباعية" متفردة أسلوبياً، فالسلسلة كلها تبدو كجملة واحدة طويلة ممتدة. وبدلاً من النقط، يعتمد فوسه بكثرة على عبارة "أنا أعتقد" لتقوم بوظيفة نقطة غير تقليدية، ولترجع القارئ باستمرار إلى فكرة الذات.
تُروى "سباعية" بصيغة المتكلم، والراوي هو رسام يدعى أسلي، يخبرنا القصة مستخدماً طريقة "تيار الوعي" بجمل طويلة لا وقفات بينها. ينتقل السرد بين تأمل أسلي لماضيه وعودته بشكل متكرر للنظر إلى لوحة رُسم عليها خطان متقاطعان.
إنها لوحة يشعر أسلي أنها منجزة، منجزة وكاملة، أكثر كمالاً من أن يبيعها؛ أو في الواقع منجزة إنما ليست كاملة؛ أو ربما مجرد لوحة فاشلة يجب أن يعيد رسمها من جديد.
إن أسلي يرسم، كما تخبرنا الرواية، كطريقة للبقاء، لحفظ الذات: "أرسم لكي أحاول أن أرسم الصور المودعة في داخلي، فما من شيء يمكن فعله سوى رسمها، لوحة بعد لوحة"، حتى إن لم يكن يعلم متى "ستختفي اللوحة وتتلاشى ويتوقف الاضطراب" في داخله.
بالتالي؛ معظم دارما الرواية تأتي من التكشّف البطيء لمصادر اضطراب أسلي. في البداية، نعرف القليل عنه. يعيش أسلي في منزل بارد قديم تلعب الريح بجنباته في قرية صغيرة على الشاطئ الجنوبي الغربي للنرويج. ورغم أنه ليس غنياً، فقد وجد طريقة ليتمكن من العيش من فنّه. في ذلك البيت نحصي 13 لوحة جاهزة لعرض قادم، والـ14 هي لوحة قيد الإنجاز موضوعة على حامل، وهي ذاتها التي يتقاطع فيها الخط البنيّ مع الخط الأرجواني؛ اللوحة التي ينظر إليها مرة بعد أخرى خلال الرواية كلها.
في واحد من المقاطع، نتابع سرد الراوي أسلي بصيغة المتكلم، لكن فجأة من دون إنذار، يخبرنا الراوي أنه ينظر إلى "أسلي الذي يجلس هناك على الأريكة". (يبدو إذاً أن ثمة أسلي آخر في الرواية). ثم يبدو كما لو أننا ننتقل إلى داخل رأس أسلي الجديد، ليصير السرد بضمير الغائب.
يستمر هذا التنقل جيئة وذهاباً لمئات الصفحات التالية، ونستمر معه بالتساؤل: هل هذه حكاية عن اثنين أسلي؟ هل أسلي الثاني هو من نسج خيال الأول؟ إن ثمة الكثير من التشابهات بين الاثنين؛ كلاهما رسام موهوب، وهما يبدوان متشابهين في الشكل ويلبسان على النحو ذاته. كلاهما عانى من الإدمان على الكحول خلال حياتهما، لكنّ واحداً منهما فقط _الأول الذي يروي الكتب السبعة_ هرب من إدمانه ويكسب عيشه كفنان.
تتناوب القصة إذاً بين "أسليين" (أسلي وأسلي)؛ أحدهما سكير، متزوج مرتين، مطلق، بعيد عن أطفاله، يعيش وحيداً مع كلبه. والآخر أرمل، بلا أولاد، منعزل أيضاً، وقد أقلع عن الشرب منذ سنوات واعتنق الكاثوليكية (في تماهٍ مع فوسه ذاته الذي اعتنق الكاثوليكية عام 2012).
تبدو هذه الطريقة في السرد مربكة في البداية، لكن بعد عشرات الصفحات يتأقلم القارئ؛ تماماً مثل متفرج أمام لوحة تجريدية غامضة تستوعبها العين بصبر وتأنّ؛ لوحة خطين _أسليين_ يتقاطعان. ومع استمرار السرد، يتجنب فوسه تقديم أي جواب نهائي، دافعاً القارئ للبحث عن أدلة لحلّ لغز هذه الشخصية المزدوجة، وهو ما يُكسب الرواية صبغة رواية من نوع أدب النْوار (وهو فرع من أدب الجريمة).
تتقاطع حياة أسلي الراوي وأسلي الآخر في بعض الأحيان، فمثلاً في مرحلة ما يقترب أسلي السكير من الموت في الثلج، وأسلي الراوي هو من ينقذه. كذلك، ثمة إشارة غير قاطعة إلى أنهما أحبا يوماً الفتاة ذاتها (غورو، أخت جار أسلي الراوي). بالتالي، تبدو حياة الاثنين أحياناً متداخلة لدرجة يبدو من الصعب التمييز بينهما. لكن الحيرة التي يخلقها هذا التداخل هي من تصميم فوسه، وهي تمثّل محاولته استكشاف ثيمات الذات، الفردية، الحب، الفن، والدين كلها من منظور التماثل.
تبدأ كل أجزاء "سباعية" وتنتهي بالأسلوب ذاته. في بداياتها ينظر أسلي إلى لوحة الخطين المتقاطعين ويتساءل عمّا يراه هناك وفي نهاياتها يصلّي: يصلّي باللاتينية، يصلّي ليسوع، لله، لتتكرر إيقاعات الصلاة وتتكدس من جزء إلى جزء. وبين اللوحة والصلاة، يقوم أسلي برحلات إلى مدينة بيرجن البعيدة، أحياناً من أجل زيارة أسلي الآخر الذي يشير إليه بـ"من اسمه اسمي". وتتبعثر شذرات من هذه الزيارات خلال أجزاء الكتاب: يفكر أسلي بما حدث، يعود إلى تلك اللحظات الماضية، يوسّعها، ثم يعود إلى حالة الصلاة.
وفي لحظات عودته الذهنية إلى ماضيه، يفكر أسلي بطفولته، رفضه لوالديه ودينهما، طريقه ليصبح رساماً، سكيراً، زوجاً، معتنقاً للكاثوليكية، مقلعاً عن الشراب، ثم شخصاً منعزلاً. بالعموم، يبدو هذا منسجماً مع عادة الروايات التي تدرّب قرّاءها على انتظار إفراغ محتويات حيوات شخصياتها الرئيسية بترتيب زمني، من أجل فهم معاناتها الحالية. وفوسه هنا يشتغل على هذا التوقع. لكن، ورغم أنه يعطينا هذه الأحداث، إلا أنه لا يجعلها أساسية، ولا تكمن أهميتها إلا في كونها توحي بحاجة تأسست داخل أسلي منذ عمر مبكر؛ حاجة لإيجاد فعل يمارسه من أجل إبقاء الذكريات بعيداً، وذلك الفعل هو الرسم.
بالنسبة إلى الشخصيات، نلاحظ قلة شخصيات سلسلة "سباعية" رغم طولها. لكن ما يميزها أن لكل الشخصيات على ما يبدو نظائر بطريقة ما. ثمة تثنية واضحة فيما يخص أسلي، لكن شخصيات أخرى مثل غورو محبوبة أسلي الغامضة وزوجته الراحلة ألسي وجاره أُسلايك (الصياد الثرثار الذي يمثّل وإياه ثنائية شبيهة بفلاديمير واستراغون في مسرحية "بانتظار غودو") جميعها شخصيات تبدو كأنها تشغل أجساداً متعددة ذات أسماء متطابقة. وهذا يبدو مربكاً في بعض الأحيان، لكنها لعبة سردية ذكية من فوسه يقصد من خلالها إظهار أن الحياة تكرر ذاتها.
في عالم فوسه، ما من أحد مميز حقاً في كفاحه أو ظروفه، لكن روح كلّ شخصية هي ما تجعلها متفردة. "أعتقد أن أنا، ما هو أنا في داخلي، لا يمكن أن يموت قط لأنه لم يولد قط"، يقول أسلي مؤسِّساً بهذا تمييزاً صارماً بين جسده وروحه.
إن "سباعية" ليس عنواناً اعتباطياً، وليس عدد أجزاء السلسلة فحسب، بل إن له دلالاته الرمزية؛ ففيه، كما تظهر عدة تلميحات في الرواية، قد نسمع ساعات الصلاة الكنسية السبعة، أو نرى العلامات السبعة في إنجيل يوحنا، أو نرى الأختام السبعة في سفر الرؤيا. مع هذا، أسلي ليس المسيح، وإن تكن حياته نوعاً من الرحلة، يعود في نهايتها كل مرة ليصلي. إن كل جزء من هذا العمل هو، بكل وضوح، طريق إلى الصلاة.
لكن، أي أجزاء "سباعية" أقوى؟ يبقى هذا شيء صعب التحديد لأن السلسة كلها تعمل على نحو تراكمي؛ القصة والشخصيات تبني واحدها فوق الآخر من كتاب إلى كتاب. كذلك نمط الجملة الواحدة الذي يتبعه فوسه يجعل من الصعب الإمساك بالعمل والبدء بقراءته من أي مكان؛ للحصول على الأثر الكامل الذي يريده فوسه، يجب أن نبدأ القراءة من البداية.
"سباعية"، مع كلّ مواضيعها الأخرى، هي رواية عن تكوّن رسام، لكنها رواية غريبة في هذا الجانب، إذ إننا في الواقع لا نرى أسلي يرسم أبداً، كما أن مزاولة الرسم في الكتاب هي في خدمة شيء مختلف عن البراعة الجمالية. "أعتقد أني لم أقم بالرسم لأجل نفسي"، يفكر أسلي في مرحلة ما. "لم يكن الأمر لأني أردتُ أن أرسم، بل لأكون في خدمة شيء أكبر، نعم، ربما، أجرؤ أحياناً أن أفكر بأشياء مثل تلك، إنني أريد للوحاتي أن تقوم بشيء لا يقلّ عن خدمة مملكة الرب".
أسلي يريد "أن يفهم اللامفهوم" في حياته، في الحياة ذاتها، وفي مسألة الدين والله. إنه يمثّل نمطاً متكرراً في الأدب: عجوز يسترجع حياته، يوازن أسئلة حالية عن الفناء بذكريات قوية، غير مكتملة، ومتناقضة وجدانياً عن أحداث وبشر من الماضي، وبمتطلبات الحياة اليومية التي تقترب من نهايتها وهو لا يتوقف عن رسم الخطين البني والأرجواني إلا في "اسم جديد" الجزء الأخير من السلسلة، لأنه عندها يتقبل أن مساعيه، في الفن وفي علاقاته مع الآخرين ومع الله، لا تهم إلا بقدر ما تخلق مساحة لاقتحام الضوء. إنه في تأملاته حول الظلام في الفن وفي الحياة، يرى أن "اللوحة لا تكتمل ما لم يكن ثمة ضوء فيها". هكذا، تنتهي "سباعية" بصورة حياةِ فنان اكتملت بضوء أو بسبب ضوء دخل واندفع إلى جبهته وهو يصلّي لكن فوسه يترك الجملة الدنيوية الأخيرة مفتوحة لمن ولما سيأتي لاحقاً.