"بحارنة المحمرة".. بحث ثقافي في وثائق سياسية
يؤسس الكتاب للأسباب المتراكمة التي أجبرت العائلة الحاكمة بقبول سن قانون الجنسية، بدفع من البريطانيين، بعد حراك طويل من البحارنة في المحمرة، لذلك أسماهم الكاتب بـ"الأباء المؤسسين للجنسية البحرينية".
يبرع الدكتور علي الديري في كتابه "بحارنة المحمرة" في حفر الذاكرة التاريخية عبر أرشيف الوثائق البريطانية، ليخلص إلى نتائج جد ثقافية وقانونية تتعلق بالهوية والجنسية وقتذاك.
الهوية التي ظلت مفهوماً مشككاً في الأطوار السياسية التي مرت بها البحرين طيلة عقود.
الكتاب الصادر عن مركز أوال للدراسات والذي يقع في 271 صفحة، يحرث في المراسلات والسجلات التاريخية التي دعت جزءاً وازناً من البحارنة إلى الهجرة واختيار المحمرة بسبب أنها أكثر الأماكن أمناً وقت ذاك في الدولة الفارسية.
ولأن أولئك البحارنة سعوا عبر مراسلاتهم وعرائضهم إلى نسج المقدمات الضرورية للجنسية البحرينية، فإن "قصة الجنسية البحرينية الصادر في العام 1937م محبوك بقصة المهاجرين البحارنة في المحمرة، وحراك في الثلث الأول من القرن العشرين". كما يقول صاحب الكتاب.
يتوزع الكتاب الذي شاركت فيه الكاتبة دعاء إبراهيم والمترجمة رؤى شمس الدين في ثلاثة فصول، يحكي الفصل الأول والمعنون بـ: "البحرينيون خارج البلاد"، قصص بعض العوائل التي هاجرت جميعها للمحمرة، ولم يبقَ منها أحد في البحرين، كقصة يوسف غزال الذي كان يقطن قرية بني جمرة، كما يتناول الفصل مسألة الحماية البريطانية وحيثيات عريضة التجنيد العثماني عام 1874م.
في الفصل الثاني يبحث الكاتب قصة الحاج حميد العصفور والمستندات التي أثبتت نزع جنسيته وقصة هجراته المريرة التي خلقت لحياته محنة، ورغم ذاك فإن الحاج حميد لم يتنازل عن الجنسية الأصل ودعا البحارنة في المحمرة إلى رفض الجنسية الفارسية لكي لا تكون بديلاً عن حقهم في جنسيتهم الأم.
وتعاطى الفصل الثالث بالبحث والتنقيب عن عرائض المهاجرين، ووثّق الكثير من تداعياتها بدءاً من عريضة عام 1925.
يختلف الديري في البحث التاريخي عن القراءة التقليدية في تفريغ الوئائق من أرشيفها ووضعها مقروءة في سياقها وتبيان دلالاتها. ومن المهم أن نقف قليلاً على تلك الطريقة في قراءة الخطاب، وهو الشغل الثقافي الذي ركز الدكتور الديري جهده عليه منذ أكثر من ثلاثة عقود. فالتاريخ هنا لا يعني سرداً يتيماً لا صلة له بالواقع، والتاريخ أيضاً لا يعني أنه ماضٍ مؤلف من أحداث مُركّبة، التاريخ عند الديري خطاب يستنهض مفرزات تكوّنه ويستدعي علاقاته الأكيدة بالحاضر المُعاش.
وهذا المعنى يتأكد أكثر في "موضوع الجنسية المنزوعة" بالفعل السياسي، هذا الفعل ذو الأنياب الأمنية الذي طال عدداً من البحرينيين الذين قالوا للدكتاتورية في عام 2011 كلمة (لا) كبيرة، ومؤلف الكتاب نفسه من ضمن أولئك الذين أصيبوا بأنياب هذا الفعل السياسي، وانتزعت جنسيته القانونية بسبب فعله الثقافي الذي عرّى طرائق الدكتاتور بالكتابة الرصينة.
فإذاً، الكتاب لا يحكي صوراً ذات لونين أبيض وأسود، بل يؤسس للأسباب المتراكمة التي أجبرت العائلة الحاكمة بقبول سن قانون الجنسية، بدفع من البريطانيين، بعد حراك طويل من البحارنة في المحمرة، لذلك أسماهم الكاتب بـ"الأباء المؤسسين للجنسية البحرينية".
ومن الجيد استدراك الكاتب في مقدمته أن الكتاب ستتفرع منه كتب عدة، لأن سمة هذا الكتاب هي الكثافة التي تحتاج إلى بسط في الشرح وتفصيل في الأحداث، كما أنها تنبئ عن أن وراء تلك الأحداث المذكورة عدداً كبيراً من الأحداث المتفرقة التي تشكل في مجموعها صورة أكمل لموضوع الهجرة ومحنة الجنسية.
لذلك، في إقرار علي الديري بأنه لم يجب عن السؤال في كتاب سابق له عنوانه "من هو البحريني؟" إجابة كاملة، إقرار مهم، لأن كتاب "بحارنة المحمرة" يجذّر حقيقة مفادها أن قصة الهجرات ومحنة الجنسية لا يمكن أن تُستنفد في كتاب أو كتابين أو ثلاثة، لأنها باختصار محنة شعب هُجّر من أرضه لإشباع نهم القبيلة، القبيلة التي قويت بالبريطانيين وبالنفط وبالمحيط الإقليمي، فزادت مخالبها شراسة، وزادت معها محنة الجنسية البحرينية، التي هي أوسع من موضوع نزعها بل وأوسع من موضوع الهجرة، فمحنة الجنسية تصيب بلظاها الكثير من القاطنين داخل البلاد ويحملون جوازات سفر بحرينية.
الفعل السياسي ونهم القبيلة، يقابله نضال مستميت في المنافي وفي الداخل، شكّل في مجموعه عدداً من القوانين التي توصل إليها البحريني بدمه ونضاله وهجرته وتعبه.
الديري بكتابه الأخير يثبت مجدداً أن العمل الثقافي يعمل عمله في الشأن السياسي ولربما بصورة أبلغ من بعض الحراكات السياسية، ذلك لأن العمل الثقافي يؤسس للمفاهيم ويقعّد للأحداث بطريقة لا تستنفد فائدتها ولا تنقضي أهميتها.