العملة" رواية فلسطينية تدخل ساحة الأدب العالمي
تشير "العملة" إلى وصول صوت أدبي جديد هام إلى ساحة الأدب. وبنثر حسي آسر، تستكشف الطبيعة قبالة الحضارة، مسائل الجمال والعدالة، الطبقة والانتماء، وهي تفعل ذلك من دون اللجوء إلى الوعظ السهل.
-
"العملة" للكاتبة الفلسطينية ياسمين زاهر
ياسمين زاهر كاتبة وصحفية فلسطينية ولدت في القدس عام 1991، و"العملة" هي روايتها الأولى. تقع الرواية في نحو 240 صفحة، وقد صدرت بالإنكليزية عن دار Catapult في تموز/ يوليو عام 2024. رُشّحت "العملة" لجائزة غاثوم للكتاب، وكانت خيار محرري مراجعة الكتب في "نيويورك تايمز" كواحدة من أفضل روايات عام 2024. ووفقاً لسلافوي جيجيك: "رواية العملة لياسمين زاهر تقوم بما هو أكثر من تلبية المعايير العليا للأدب. إنها تضع معاييرها الخاصة...العملة ليست بداية رائعة تعد بقدوم تحف أدبية، إنها سلفاً تحفة أدبية".
"العملة" رواية جريئة صريحة نقدية سياسية. وهي تروي حكاية امرأة فلسطينية شابة تبحث عن ذاتها، وتكافح لتتولى زمام جسدها وعقلها بعد أن هاجرت إلى أميركا عقب وفاة والديها في حادث سيارة في فلسطين. بطلة الرواية مجهولة الاسم، وفي شرح ذلك تقول: "خسرتُه في معركة، مثل الفارس الذي خسر درعه". وهي تحاول دوماً أن تكون مثالية، لكن الذات المثالية، الحياة المثالية، تبقى بعيدة عن متناولها: غنية لا ترتدي سوى ملابس مصممين مشهورين، لكنها لا تستطيع التحكم بثروتها بسبب وصية والدها، "إنها غنية وفقيرة في الآن ذاته"، وهي بيضاء وسوداء في الآن ذاته إذ إنها ذات "بشرة خادعة" تغطي هويتها، وطنها لا يوجد إلا في ذاكرتها، ومحاولتها للازدهار في أميركا محكوم عليها بالفشل منذ البداية. إنها امرأة تسعى للسيطرة في عالم خارج عن السيطرة. كذلك، تعاني بطلة "العملة" من وسواس قهري، وهي مدرّسة في مدرسة متوسطة للصبيان الفقراء من السود والمهاجرين في منهاتن، وهناك تحاول أن تنقل إلى تلاميذها أفكارها وفهمها لمسائل الطبقات، المظاهر، الثروة، وغير ذلك من خلال دروس غريبة تشمل رحلات ميدانية ودروساً عن الموضة. وعن كونها مدرّسة تقول: "تقريباً مثل كل شيء آخر، ذلك صحيح في الظاهر، لكن ثمة الكثير مما يحدث تحت ذلك الظاهر". مهاراتها في التعليم موضع تساؤل: غالباً ما تترك تلاميذها لأدواتهم الخاصة فتخبرهم أنه صف حر، أو تحفزهم على إجراء مقابلة مع أفراد عائلاتهم وكشف حقيقة ما ترفض تلك العائلات الاعتراف به. "فوضى صفوفها تعكس الفوضى داخل عقلها".
تحاول هذه الشابة الفلسطينية أن يكون لها جذور في منفاها، لكن أميركا تخنقها. "أميركا كانت الحل واللعنة"، تقول. وفي محاولة لاستعادة السيطرة على حياتها، تصبح مهووسة بالنقاء، بالنظافة، وبصورتها الذاتية. كذلك، تلتقي ذكريات طفولتها مع انعدام الجنسية المادية والوجودية الذي تعاني منه، وتستكشف الرواية ذلك بشكل مدهش. تلتقط الرواية الاضطراب في بلد بطلتها، وتظهر بعض عناصر التروما المألوفة، فبطلتها متأثرة بوضوح بالصراع الدائر في بلدها وإحباطاتها مرتبطة بالمشكلات العويصة في الشرق الأوسط. لكن الكاتبة كما يرى النقاد "لا تحاول أن ترسم خطاً مباشراً بين تلك الحقائق وسرد الراوية الذي يبدو في بعض الأوقات مضطرباً، إذ إنها تجعل الاضطراب العاطفي يبدو غير واضح تماماً". "العملة"، حسب رأي لورين كريستنسن، "ترسم خطاً منقطاً بين حديقة جدة الراوية في فلسطين وبقع فضلات على بلاط نفق في نيويورك سيتي". وقوتها ليست في التماسك بل في الفوضى التي تتسم بها.
مثل حقيبة البيركن، العملة - وهي شيكل ابتلعته بطلة الرواية عندما كانت طفلة أثناء الرحلة العائلية التي مات فيها والداها - تكتسب تداولاً جديداً في نيويورك. لا تعلم بطلتنا، ولا نحن، ما حدث للعملة المبتلعة، فهي لم تخنقها ولم تخرج منها، لكنها لا تزال تشعر بوجودها بعد عقود (في مكان ما في ظهرها) في استعارة ترمز إلى الإرث الذي قد يكون هبة ولعنة، مثل أميركا. بالتالي، يشير العنوان إلى بقعة مزعجة في ظهر بطلة الرواية ولا تستطيع الوصول إليها؛ "كما لو أن كل الأشياء التي تزعجها تجمعت في مكان واحد ولا تتوقف عن وخزها". كذلك، ترمز العملة وفقاً للنقاد إلى الكثير من الأشياء: "المال والأبواب التي يفتحها، شيء لامع أو شيء قذر تناقلته الكثير من الأيادي، لكنها بالتأكيد لا تشير إلى الراحة". تقول لنا الراوية: "ارتديتُ فستاناً من ماركة ماكوين. كانت ذراعاي وقدماي مثل برونز مصقول، لكن تحت فستاني كان كل شيء قذراً وآخذاً بالتعفن". وحين يُجمَع مليون دولار لأجل فلسطين في واحد من الاحتفالات التي حضرتْها في نيويورك، ترى الراوية أن ذلك غير كاف لمساعدة الفلسطينيين. "أعتقد أن المال هام للغاية، لكن إذا حاربنا على هذه الجبهة، فسنخسر بالتأكيد".
تشير "العملة" إلى وصول صوت أدبي جديد هام إلى ساحة الأدب. وبنثر حسي آسر، تستكشف الطبيعة قبالة الحضارة، مسائل الجمال والعدالة، الطبقة والانتماء، وهي تفعل ذلك من دون اللجوء إلى الوعظ السهل. تستخدم الرواية أحياناً ضمير "أنت" فيما يبدو أنه خطاب موجّه للقارئ ما يجعله يشعر أنه قريب من النص. "ما أرويه لك هو قصة نجاة. من المهم لك أن تعرف هذا، أنه لا يمكن هزيمتي، لأني أحياناً أشعر أنك تختبرني". من ناحية أخرى، عندما تتحدث البطلة عن مشكلات الشرق الأوسط، تبدو ساخطة، تهكمية. تقول لنا: "عندما انتُخب نتنياهو وترامب فكرتُ أن هذه ستكون أياماً جيدة، لأن الحقيقة انكشفت. لكن، لم يظهر أن الحقيقة قبيحة فحسب، بل كذلك أن القبيح جميل. فالناس يهيمون بالوحش". وهذه اللهجة المتجهمة تمتد تقريباً إلى كل ملاحظة تبديها بطلة الرواية. كذلك، تبدو زاهر خبيرة في إظهار مدى هشاشة بطلتها؛ فوق واحد من جسور بروكلن تقول: إنها "اللحظة المثالية لانتحار مضاعف".
تفكر بطلة الرواية بتعابير مالية، علاقاتها مسألة تتعلق بقيمة تلك العلاقات عندها، ويتغير معنى المال عندها حسب مزاجها حتى تصبح ذاتها هي النقود عندما تشعر شعوراً جيداً. لكن، أفضل إشارة للمال بالنسبة إليها هي الموضة، أو ما تشير إليه الموضة عن ثروة الشخص. هكذا، بالإضافة إلى النزوح، تتصارع البطلة مع الاستهلاكية الأميركية. في أحد المشاهد داخل متجر لحقائب بيركن، تشرح قائلة: "كل سنة، بغض النظر عن الفقر، الحرب أو المجاعة، يرتفع سعر حقيبة بيركن". تملك البطلة سلفاً واحدة من هذه الحقائب ورثتها عن والدتها، وهي في ذلك المتجر لتشتري واحدة جديدة ثم تعيد بيعها إلى غير "الجديرين"، ما يخالف معايير بيركن، "كما لو أنها روبن هود يسرق المكانة من الأغنياء ويعطيها للفقراء"، وبالفعل يُقبَض عليها مع صديق وهما يقومان بإعادة بيع حقائب بيركن عبر القارات. لكن، ما علاقة هذا بالحلم الذي تراه بطلة الرواية عن قتل محمد الدرة؟ ما علاقته بانعدام جذورها ومنفاها؟ يرى النقاد أن رواية زاهر عن الرأسمالية وعواقبها تجيب: له كلّ العلاقة.
من ناحية أخرى، ومع كون بطلة الرواية منعزلة عاطفياً ومغرَّبة ثقافياً، تصبح مهووسة بالنظافة ويستهلك هذا الهوس أفكارها وأفعالها إذ تؤمن أن بوسعها تنقية روحها وتهدئة العملة الموجودة داخلها. إنها تريد تنظيف شقتها، خزانتها، صفها، وقبل كل شيء، ذاتها. وتمنح الكاتبة الكثير من الاهتمام التفصيلي لعمليات التنظيف المستمرة. "أنا امرأة أخلاقية...كل ما أريده هو أن أكون نظيفة".
كذلك، وبما أن بطلة الرواية تركت فلسطين إلى الأبد وتقر أن إقامتها في أميركا ستكون قصيرة، تظهر لنا بوصفها امرأة بلا جنسية تتماهى مع ماركات الموضة، مع الدولة التي تشكلها شقتها، ومع المال الذي تنفقه. "كلما ازدادت التناقضات في حياتك، ازداد تعقيد هويتك، ازدادت قساوة روحك، وصعوبة أن تحب وتكون موضع حب". في نيويورك، تقول لنا، "رأيتُ أقذر البشر في حياتي...لقد أتيت من فلسطين التي لم تكن بلداً ولا عالماً ثالثاً، بل كانت شيئاً خاصاً في ذاتها، والنساء في عائلتي أعطين الكثير من الأهمية للنظافة، ربما لأنه لم يكن هنالك سوى القليل غير ذلك مما يمكنهن التحكم به". إن قرارات البطلة السيئة، المتخذة في عالم قائم على القرارات السيئة، يقف وراءها منطق مثير للقلق إنما جيد: "الطبيعة نظيفة. الحضارة هي القذرة"، ومن عساه يستطيع القول إنها مخطئة.