"الشرف" أو "العلف"
"الشرف" أو "العلف"، لا مفردة ثالثة بينهما! لعل هذا أفضل توصيف في تفسير أهواء اللحظة الملتهبة التي نتجرعها اليوم بأقصى حالات العنف والبربرية والغطرسة.
"الشرف" أو "العلف"، لا مفردة ثالثة بينهما! لعل هذا أفضل توصيف في تفسير أهواء اللحظة الملتهبة التي نتجرعها اليوم بأقصى حالات العنف والبربرية والغطرسة.
هكذا اصطف العشرات أمام معلف العدو الإسرائيلي صاغرين، فتكشّف المشهد عن عار لا يمكن تجاهله. كان بعضهم - في الوقت المستقطع- يستخدم حركة الخُلد في رفع رأسه إلى الأعلى خطفاً بإشارة عابرة كنوع من القصف التمهيدي، ثم يعاجل الاختباء في سراديب الرمل، لكن وضوح المشروع الإسرائيلي في تعميم الإبادة الجماعية، وضع هؤلاء في خندق العدو علناً بذريعة الدفاع عن الضحايا، متجاهلين الخرائط المرسومة لما يسمى" إسرائيل الكبرى"، والتجاهل عن عمد لأمثولة "أُكلتَ يوم أكل الثور الأبيض".
معلف طويل و"أوردر" موحّد من الوجبات الجاهزة في تعميم صورة الهزيمة وورطة استفزاز الوحش، والمغامرة الخاسرة سلفاً في مقاومة المحتل. هكذا تمّ محو الصورة الأصلية للمستعمر من جهةٍ، وحركات التحرّر الوطني من جهةٍ ثانية، بجرّة قلم وحبر ملوّث بالضغينة، وهكذا أيضاً "سقط القناعُ عن القناع".
المعلف نفسه يكشف أيضاً عن ضراوة حرب من نوعٍ آخر: حرب الاستسلام! ولكن مهلاً، هل سيتوقّف "البلدوزر" الإسرائيلي عن ورديات الإبادة؟
يتوهم هؤلاء أن "جيش" الاحتلال يتلقّى أوامره مما يتبرّع به حاخامات الصحافة العربية ومحللوها من أفكار في إطاحة الخصم تحت بند "العلف لا الشرف" بادعاء العمى عن محرقة معلنة، و"هولوكوست" غير قابل للشّك، والترويج لسردية الاحتلال باعتبار أن "أرض الميعاد" على مرمى حجر، وتالياً لا فائدة من المواجهة، وهذا ما يفسّر الاستنفار المبكر لحجز مقاعدهم في الصفوف الأمامية لوليمة التطبيع، وتسويغ جرائم الحرب والمذابح الجماعية، والشراكة الاستراتيجية بين الذئب والحمل، سواء في غزة أم في الضفّة الغربية أم في الجنوب اللبناني.
وفقاً لرغبات هؤلاء علينا أن نسدل الستارة على هذه الفرجة أو المسرحية باعتبارها فصلاً واحداً لا أكثر. مسرحية لا تستحق التصفيق، وما علينا إلا أن نخرج من القاعة وإخلاء المكان على عجل لمصلحة أوهام الآخر ومجنزراته ووحشيته، وتبرير الصورة المضادة مهما كانت جهنمية، ومحو كلّ الفظائع اليومية، وما هو غير صالح للعيش.
في هذا المقام، يذكر نعوم تشومسكي لدى سؤاله عن تذكار يحتفظ به من إحدى زياراته إلى فلسطين قائلاً: "حسناً، لدي تذكار مادي واحد من مخيّم قلنديا للاجئين، عندما كان المخيّم يخضع لحظر التجوّل، تذكار على هيئة عبوة غاز مسيل للدموع من مخلفات القوات الإسرائيلية التي كانت تحاصر المخيّم"، ويختتم مشاهداته في غزة قبل الغزوة الأخيرة بقوله: "إنها جريمة مخزية".
الآن، لو قيّض لهذا المفكّر النزيه أن يزور غزة مجدّداً، تُرى ماذا سيحمل من تذكارات؟ قائمة طويلة بأرقام المفقودين أم أنواع القذائف الأميركية المتطوّرة بما يفوق احتمال الكائن البشري أم صور الرعب بألف جحيمٍ وجحيم؟
والحال، يصعب تفسير هذا الانخراط والتماهي مع العدو إلى هذه الدرجة من الصفاقة والنفاق، ثم ما صنف العلف المركّز الذي يؤدي إلى هذه النسبة العالية من البلاهة، وبأي ممحاة ضخمة عملوا على محو ذاكرة تحتشد بالخزي والعنصرية والقتل المنهجي، والاشتغال على تجفيف ودفن دلالة "الطوفان" التي زلزلت سكونية المشهد، وأعادت اسم فلسطين إلى الواجهة في مختلف أنحاء الكوكب، فلسطين أو "هذا الجمال الذي تمّت خيانته"، حسب ما يقول حسين البرغوثي عن مسقط رأسه، وسيوصي إميل حبيبي بأن يُكتب على شاهدة قبره "باقٍ في حيفا"، وسيقول غسان كنفاني بيقينٍ تام "عائد إلى حيفا".
مدوّنة ضخمة تنسف كل الخرائط المُتَوهمة، من حيفا إلى الجنوب اللبناني، الجنوب أو بوصلة الجهات كلّها، أمس واليوم وغداً، جنوب الأبطال والشعراء وفتنة الغيم، جنوب محمد علي شمس الدين، الجنوب الذي "يمشي على الموت تيّاهاً كأن به/من الألوهة شيئاً ليس يخفيه/يمشي الهوينا وقتلاه تمجده/كأنما كل ما يرديه يحييــه/يعلو على الغيم آناً ثم آونة/يدنو فيصبح أدنى من معانيه/أعطيته كل ما أوتيت من نعم/وما ندمت فألقاني على التيـه".