نظرية المقاومة في فكر الإمام الخامنئي

إنّ مسؤوليّة المعنيين بالشأن التربوي تعزيز التربية الفطرية المقاومة لدى الإنسان، وتوجيهها وصونها في مقابل الهجمات التي تخدش الفطرة السليمة.

برز عنوان المقاومة كنظرية شاملة ومتكاملة في العصر الحديث مع انتصار الثورة الإسلامية في إيران، بالرغم من أنّه كان موجوداً كفكرة أو ممارسات هنا وهناك، إلا أنّ الهيمنة الظاهرية للقوى المستكبرة وسيطرتهم المادّية على العالم وتقسیمهم إياه في ما بينهم لمعسكرين: شرقي وغربي من جهة، وتقاعس الحكام والنخب في العالم الإسلامي وانبطاحهم وعقدة الدونية والهزيمة الذاتية لديهم وعدم قيامهم بواجباتهم ومسؤولياتهم السياسية والفكرية مقابل هذه الهيمنة من جهة أخرى، لم يترك للشعوب خياراً سوى الاستسلام والرّضوخ لمشهد النظام العالمي الظالم كأمر واقع لا بدّ منه وحقيقة مرّة لا يمكن تغييرها.

في مثل هذه الظروف الحالكة قاد الإمام الخميني أعظم ثورة شعبية في العالم حتى الانتصار، واعتبر القوى المادية وبريقها لا شيء، ورفع راية النهضة والنضال في وجه الطغاة، وأحيا روح العزّة والإباء والتحرّر ليس لدى الشعب الإيراني المسلم فحسب، بل في ضمائر المسلمين والمستضعفين في أنحاء العالم، فأيقظهم من سُباتهم، ورسم أمامهم طريقاً ثالثةً "لا شرقيةً ولا غربية"، وأثبت لهم بشكل عملي كيف تكون الثورة والانتصار، فتلقّفت الشعوبُ درسَه وانطلقت نحو التطبيق بشكلٍ أو بآخر.

بعد رحيل الإمام الخميني قاد الإمام الخامنئي هذه الثورة نحو أهدافها التحررّية العالمية بنفس الزخم والصلابة، فقدّم للشعوب المسلمة والمستضعفة طرحاً نظرياً متماسكاً عقلانياً وفطرياً، ومشروعاً عملياً واسعاً لمقاومة الغطرسة في المنطقة من خلال دعم الحركات المقاومة، فكانت النتيجة باهرة، وظهرت حقيقة جديدة وظاهرة غير مسبوقة نطلق عليها اليوم مصطلح "جبهة المقاومة".

وكما أشرنا، يستند هذا الإنجاز العظیم وتأسيس جبهة المقاومة إلى تنظير علمي عميق من جهة وتطبيق عملي قوي من جهة أخرى، ففي الميدان الفكري ساهم الإمام الخامنئي بشكل كبير جدّاً في تكريس نظرية المقاومة والتنظير لها وصناعة الخطاب حولها، وفي الميدان العملي أنجز سماحته أهمَّ الخطوات الضرورية لإسناد المجموعات الشعبية المؤمنة بفكرة المقاومة في المنطقة وتقويتها حول محور قضية فلسطين وبعيداً عن النزعات الطائفية و النعرات المذهبية، فأصبح بحقّ "إمام جبهة المقاومة" على المستويين الفكري والعملي. كما أنّ سماحته يدعو المفكّرين والباحثين وخاصة الشبابَ منهم لترويج هذه النظرية وتبيينها ويقول: 

"روِّجوا نظرية المقاومة مقابل العدو القويّ وبيّنوها. نظرية المقاومة نظرية أصيلة وصحيحة، سواء على المستوى النظري أو على المستوى العملي، ويجب أن تروّج من كلا الناحيتين النظرية والعملية، وأنتم الشباب تستطيعون تبيين نظرية المقاومة هذه بشكل جيد جداً. من الناحية النظرية معناها أن تبيّنوا وتوضّحوا للجميع أنّ هدف الاستكبار هو السيطرة والهيمنة والتسلط على الشعوب، ومن الناحية العملية نعتقد أن تيار المقاومة هو حقُّ الشباب في العراق وسوريا ولبنان وفي شمال أفريقيا وفي مناطق شبه القارة وأطرافها، وتعزيز هذه التيارات وتعضيدها يعني تعضيد نظرية المقاومة".

(كلمة الإمام الخامنئي لدى لقائه حشداً من طلبة المدارس والجامعات بتاريخ 2018/11/03)

هذه المادة محاولة متواضعة لتقديم ملخّص عن أطروحة الإمام الخامنئي حول مفهوم المقاومة وأسسها الفكرية وأركان منطقها وأبعادها، لتكون مدخلاً نظرياً لمنهج تربوي قائم على نظرية المقاومة.

مفهوم المقاومة

يرتبط تعريف الإمام الخامنئي لمفهوم المقاومة بــ 5 عناصر: اختيار الإنسان وإرادته، السير في الطريق الحقّ نحو الأهداف المتسامية، وجود الموانع والعقبات في الطريق، عدم التوقّف والانصراف عن مواصلة الطريق، وابتكار أسلوب عقلائي لتخطّي العقبات.

بناءً عليه، عندما يختار الإنسان السير في الطريق الحقّ ويواجه الموانع والعقبات في هذا الطريق قد يستسلم وينكفئ عن مواصلة الطريق، وقد يُصرّ على ذلك فيجد طريقاً عقلائياً لإزالة الموانع واجتياز العقباتُ فيستمرّ بالسير نحو الهدف المتعالي. الفرضيّة الأولى هي الاستسلام والفرضيّة الثانية هي المقاومة.

يقول سماحته: "معنى المقاومة أن يختار الإنسان طريقاً يَعُدُّه الطريق الحقّ والطريق الصحيح ويسير فيه، ولا تستطيع الموانع والعقبات صدّه عن السير في هذا الدرب وإيقاف مسيرته. افترضوا مثلاً أنّ الإنسان يواجه في طريقه سيلاً أو حفرة، أو قد يواجه صخرة كبيرة في حركته في الجبال حيث يريد الوصول إلى القمة، البعض عندما يواجهون هذه الصخرة أو المانع أو العقبة أو السارق أو الذئب يعودون عن طريقهم وينصرفون عن مواصلة السير، أما البعض فلا، ينظرون ويفكّرون ما هو طريق الالتفاف على هذه الصخرة، وما هو السبيل لمواجهة هذه العقبة، فيجدون ذلك الطريق أو يرفعون المانع أو يتخطّونه بأسلوب عُقلائي. هذا هو معنى المقاومة». (كلمة الإمام الخامنئي في الذكرى الـ30 لرحيل الإمام الخميني بتاريخ 2019/06/04)

والجدير بالذكر أنّ "المقاومة" و "الصبر" في أدبيات الإمام الخامنئي مفردتان مترادفتان. ففي محاضراته التي كان يُلقيها في مسجد الكرامة في مدينة مشهد سنة 1973 (6 سنوات قبل انتصار الثورة الإسلامية)، تطرّق فيها إلى مفردة الصبر في الروايات الشريفة بهدف تصحيح مفهومه وإعادة تعريفه بنهج ثوريّ وبعيداً من المفهوم الرائج للصبر والداعي إلى الانهزام وتكبيل الأيدي والخنوع أمام الطاغوت والاستسلام للواقع حيث يقول: "وفقاً لما يتمّ استحصاله من مجموع الروايات يمكن تعريف الصبر على النحو التالي: مقاومةُ السالكِ لطريق التكامل الدوافع الباعثة على الشرّ والفساد والانحطاط. فالصبر يعني الوقوف مقابل جميع هذه الموانع والعقبات ومقاومتها والعبور عنها والتخلّص منها بإرادة وعزيمة راسختين". (كتاب بحث حول الصبر؛ ص 24 و25). كما أنّه توجد مصطلحات أخرى قد يستخدمها القائد لتبيين مفهوم المقاومة، كالصمود والثبات والاستقامة.

عقلانية نظرية المقاومة وفطرية منطقها

على الرغم من محاولات البعض لتأطير المقاومة وتحديدها ضمن أطر طائفية أو حدود مذهبية، أو السعي للنيل منها وتشويه صورتها بدعوى ارتكازها إلى الانفعال العاطفي والمشاعر الزائلة أو الاندفاعات العابرة وعدم اعتمادها على أسُسٍ منطقية وواقعية، لا يعتمد الإمام الخامنئي في تبيينه لنظرية المقاومة على الأدلّة الشرعية النقلية کالقرآن والأحاديث فحسب، بل يؤكّد على البعد العلمي والمنطقي لها وحُسنها العقلي الذاتي، ويقول: "فضلاً عن أنّ القرآن يصرّح بهذه النظرية، فإنّ العقل السليم أيضاً يعضدها ويؤيّدها. مواجهة الظلم والدفاع عن المظلوم وعدم التعاون مع الظالم وعدم مساومته أمر يستحسنه كلّ عقلاء العالم». (كلمة الإمام الخامنئي في الذكرى الـ30 لرحيل الإمام الخميني بتاريخ 2019/06/04) 

فخلافاً لما قد یتمّ الترويج له بأنّ النزعة الثورية والمقاومة تعارض المنطق والعقل والعقلانية، نفهم من كلام القائد أنّه يقدّم نظرية المقاومة من منطلقات منطقية وعقلانية وعلمية، ومن الواضح أنّ هذه النظرة المتقدّمة تفتح آفاقاً جديدة لمفهوم المقاومة وتسهّل عمليّة توسعة جبهتها على مستوى الإنسان بما هو إنسان، بغضّ النظر عن دينه ومذهبه وعرقه، وسنشير إلى بعض مدلولات هذه النظرة وآثارها. 

يقول الإمام الخامنئي إن: "العدوّ الذي يتجنّب الإنسان العاقل الاحتكاك والاصطدام به ليس العدوّ الذي يستهدف هوية ذلك الإنسان ومصالحه الحيوية وأساس وجوده. مقاومة مثل هذا العدوّ حكم قاطع من أحكام العقل الإنساني، والاستسلام مقابله نقيض ما يحكم به العقل تماماً. إذ من البديهي أنّ الخسارة الأكيدة الناجمة عن الاستسلام لهذا العدوّ هي نفسها الخسارة المحتملة الناتجة عن مواجهته، مضافاً إلى الذلة والامتهان». (كتاب نظرية المقاومة؛ ص 72).

إنّ التعمّق في هذه النظرة العقلانية يستتبعه الاعتقاد بفطرية منطق المقاومة (بمعنى كون منطق المقاومة أمراً فطريّاً)، وهذا الاعتقاد بدوره سيؤثّر بشكل كبير جدّاً على التنظير لمنهج "التربية على المقاومة" بناءً على نظرية "التربية على الفطرة". فطرية منطق المقاومة يمكن تفسيرها من الناحية العقلية والأخلاقية؛ فهي تعني على المستوى العقلي أنّها من الأوّليات أو المعقولات بالطبع كما يعبّر عنها فارابي أو ما تُسمّى ب‍ "قضايا قياساتها معها" لدى ابن سينا، وهي القضايا التي يكفي لتصديقها تصوّر موضوعها ومحمولها، لأنّ الحدّ الوسط الضروري تصوّره فيها مركوز في الفطرة وثابت في الذهن أصلاً. 

أمّا على المستوى الأخلاقي فيمكن القول إنّ الإنسان مفطور على المقاومة كما هو مفطور على قيم أخلاقية فطرية أخرى ك‍ "الحياء"، فإنّها غريزة إنسانية وليست اكتسابية كما يعبّر عنها صدر المتألّهين الشيرازي، وكلّ ما في الأمر أنّها بحاجة للحفاظ والتربية والتقوية والتوجيه وليس التعليم من الصفر. ف‍كلّ مولود يولد على فطرة المقاومة، ولكن عدم الاهتمام بهذه الموهبة الإلهية والإهمال في التربية المناسبة من قبل المعنيين قد يُبعده عن فطرته المقاومة أو يؤدّي إلى انحرافه عن الطبيعة البشرية وخروجه عن الجِبِلّة الإنسانية ليهبط إلى مستوى الخنوع والاستسلام. فالأصل هو المقاومة، والاستسلام هو الخروج عن الأصل والإنسانية.

وبناء على كلا التفسيرين العقلي والأخلاقي من فطرية منطق المقاومة، تكون نظرية المقاومة عالمية وإنسانية وعابرة للحدود، وليست طائفية أو مذهبية. وهذا هو سرّ جاذبية الإمام الخميني وعالمية ثورته وديمومة نهجه، إذ إنّ رسائله - ومنها المقاومة - رسائلُ فطريةٌ عالميةٌ ویخاطب فطرة الإنسان بما هو إنسان، والفطرة ثابتة لا تتبدّل ولا تتغيّر. ﴿فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾. (الروم؛ 30) يقول الإمام الخامنئي في بيان الخطوة الثانية للثورة الإسلامية بعد مرور 40 عاماً من انتصار الثورة: "یُمکن افتراض مدّة زمنيّة معيّنة وتاريخ انتهاء صلاحيّة لکلّ شيء، إلا أنّ الشعارات العالمیة لهذه الثورة الدینیة مستثناة من هذه القاعدة، فهي لن تكون عدیمة التأثير والفائدة أبداً، لأّنّها متجذرّة في فطرة الإنسان في جمیع العصور". (بيان الخطوة الثانية للثورة الإسلامية بتاريخ 2019/02/13).

منطق المقاومة والرؤية الكونية التوحيدية

قلنا إنّ نظرية المقاومة نظرية عقلانية ومنطقية، ومنطقها فطريّ. فينبغي أن نبحث عن نقطة ارتكاز هذا المنطق الفطري ونبيّن ابتنائه على الرؤية الكونية التوحيدية وعلاقته بالأيديولوجية الإسلامية. فبحسب الإمام الخامنئي، إنّ نظرية المقاومة قائمة على الرؤية الكونية التوحيدية والأيديولوجية الإسلامية. لأنّ "كلّ الممكنات والموجودات تنبع من مكان واحد ومن مبدأ واحد و من قدرة واحدة خلقتها وأوجدتها وصنعتها، فالكلّ عبيد أمامها والكلّ أسرى قدرتها والكلّ ينبغي أن يطيعوها، فلا يحقّ لأحد أن يضع رأسه محلّ قدم شخص آخر، كما لا يحقّ لأحد أن يضع قدمه محلّ رأس شخص آخر". (كتاب الفكر الإسلامي على ضوء القرآن الكريم؛ ص 203).

فهذه الرؤية الكونية الخالصة الفطرية تؤسّس للإطار النظري لنظرية المقاومة، إذ تقسّم العالم إلى صفّين؛ الصفّ الأوّل هو صفّ الله، والصفّ الآخر هو صفّ ما سوى الله. وهذا الصفّ الآخر يشمل جميع ذرّات العالم على حدّ سواء كعبيد لله، فتدعو الإنسان إلى العبودية المطلقة لله سبحانه وتعالى من جهة، وإلى رفض عبودية ما سوى الله من جهة أخرى. لأنّ الطاعة والتبعية والانقياد والاستسلام لما سوى الله - أيّاً كان؛ سواء الأهواء النفسانية أو الشياطين الخارجية أو الأنظمة المهيمنة والقوى الاستكبارية – تُعتبر عبودية الطاغوت وتتعارض مع الرؤية الكونية الأصيلة. (كتاب الفكر الإسلامي على ضوء القرآن الكريم؛ ص 200 و 259).

أبعاد منطق المقاومة

في كلمته بمناسبة الذكرى الــ 30 لرحيل الإمام الخميني، بيّن الإمام الخامنئي 5 جوانب أساسية في منطق المقاومة، فنذكرها كما هي نظراً لأهميتها ونقوم بتلخيصها وعَنوَنَتها فقط:

1- طبيعية المقاومة: "إنّ المقاومة ردّ فعل طبيعي لأيّ شعب حرّ شريف مقابل العسف ومنطق القوة والظلم، ولا حاجة لسبب آخر. فأيّ شعب يعير أهمية لشرفه وهويّته وإنسانيّته، عندما يرى أنّهم يريدون فرض شيء عليه سيقاوم ويمتنع ويصمد، وهذا بحدّ ذاته سبب مستقلّ ومقنع". 

2- إمكانية المقاومة: "إنّ المقاومة أمر ممكن، وهذا على الضدّ تماماً من التفكير الخاطئ للذين يقولون ويروّجون بأنّه لا فائدة من ذلك، وكيف تريدون أن تقاوموا؟ والطرف المقابل جبّار ومتعسّف وقويّ".

3 - جدوى المقاومة: "إنّ المقاومة تؤدّي إلى تراجع العدوّ، بخلاف الاستسلام. فإن تراجعتم خطوة إلى الوراء حين ممارسة العدوّ ظلمه وأعماله التعسّفيّة بحقّكم، فإنّه سيتقدّم بلا شك. والسبيل إلى ألّا يتقدّم هو أن تقاوموا وتثبتوا".

4 - واقعية المقاومة: "إنّ للمقاومة تكاليفها على كلّ حال، وهي ليست عديمة التكاليف، لكنّ تكاليف الاستسلام مقابل العدوّ أكبر من تكاليف مقاومته. فعندما تستسلمون للعدوّ عليكم أن تتحمّلوا التكاليف". 

5 - عاقبة المقاومة: "لقد وعد الله تعالى في آيات متعدّدة من القرآن بأنّ أهل الحقّ وأنصار الحقّ هم المنتصرون في النهاية. والآيات القرآنية الكثيرة تدلّ على هذا المعنى. قد يقدّمون التضحيات لكنّهم في نهاية المطاف لا ينهزمون".

ركائز نظرية المقاومة

بناءً على المقدّمات المذكورة، يطرح الإمام الخامنئي 3 أركان أساسية لنظرية المقاومة هي:

1 - البحث عن الحقّ والمطالبة بالعدالة

إنّ منطق الثورة والمقاومة هو منطق البحث عن الحقّ والمطالبة بالعدالة، فالعدالة تعني إعطاء كلّ ذي حقّ حقّه، فكما يجب أن لا تظلم الآخرين ينبغي أن ترفض الظلم من قبل الآخرين أيضاً. نظرية المقاومة تنطلق من الحقّ ولتحقيق العدل في مقابل الظلم.

يقول الإمام الخامنئي: "هناك مفهومٌ عالميّ وحقيقة عالميّة وحقيقة بشريّة قد انطلقت من قبل الثّورة بحيث أن كلّ من يسمعها في العالم سيشعر بأنّه محبّ لهذ النّداء. فما هو هذا النّداء؟ هو عبارة عن مقاومة نظام الهيمنة والتسلّط، هذا هو نداء الثّورة. نظام الهيمنة هو نظام تقسيم الدّنيا إلى ظالمٍ ومظلوم، لكنّ منطق الثّورة هو منطق الإسلام: ﴿لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ﴾. فعلى امتداد البشرية وساحة وجود الإنسان، من ذا الذي لا يرضى بهذا النّداء ولا يحبّ هذا النّداء؟ لا تظلِم، ولا تُظلَم". (كلمة الإمام الخامنئي في لقاء قادة حرس الثورة الإسلاميّة بتاريخ 17/9/2013)

2- النزعة التحرّرية والكرامة الإنسانية

يُعدّ التوحيد في الرؤية الإسلاميّة أساس حريّة الإنسان وكرامته، لأنّه كما ذكرنا لیس مجرد الاعتقاد بالله فحسب، وإنّما هو عبارة عن عبودیة الله ورفض عبودیة ما سواه، وهذا هو معنی الحریة؛ أن یتحرّر الإنسان من كلّ القیود غیر عبودیة الله. فهذه النظرة الدقيقة لمفهوم الحرّية والنزعة التحرّرية تؤسّس لمقاومة كلّ قوّة غير إلهية تريد السيطرة والهيمنة على الإنسان والمجتمع.

يقول الإمام الخامنئي: "إنّنا فی الإسلام نعتبر أنفسنا عبیداً لله، ولكن في بعض الأدیان یعتبرون الناس وأنفسهم أبناء لله. إنّ هذه مجرد مجاملة، فهم أبناء الله وعبید لآلاف الأشیاء والأشخاص! لكنّ الإسلام لا یقول ذلك، وإنّما یقول كُن ابناً لمن شئت، ولا ينبغي أن تكون عبداً إلا لله، فلا تكن عبداً لغیر الله". (كلمة الإمام الخامنئي في الملتقى الرابع للأفكار الاستراتيجية بتاريخ 2012/11/13)

3 - قبول المسؤولية ومحورية التكليف

الركيزة الثالثة لنظرية المقاومة هي الاعتقاد بمسؤولية الإنسان وتحمّله للتكاليف، فهو مكلّفٌ إضافةً إلى كونه صاحب حقّ، وسبب المفاسد والمظالم في العالم هو القدرة المنفلتة غير المسؤولة. إلّا أنّ تلازم الحقّ والتكليف يضع الإنسان الحرّ المختار الشريف القادر والباحث عن الحقّ أمام مسؤولية صون حرّيته وحرّية المجتمع الإنساني الذي يعيش فيه. فلا يحقّ له أن يجلس ويتفرّج على الشياطين والطواغيت وهم يستعبدون الإنسان ويسترقّون الشعوب وينهبون ثرواتهم ويسيطرون على العالم، بل يشعر بالتكليف للنهوض والاستنهاض والقيام من أجل تحرير العالم من هيمنة المتغطرسين وحثّه على مقاومة الظالمين.

يقول الإمام الخامنئي: "هذه المقاومة ليست نابعة من عصبية جاهلية قاصرة النظر، بل ناتجة عن معرفة وأصالة وشعور بالمسؤولية. إنها مقاومة شعب عرف جيًدا هوية الساسة النفعيين في نظام الاستكبار العالمي وسلوكياتهم الجائرة المتكبرة المزيفة وثار ضد إرادتها المتجبرة مستلهماً معرفته وثقافته الإسلامية الغنية المتجذّرة. إنّها مقاومة واعية وإيمانية». (كتاب نظرية المقاومة؛ ص 34).

**

اختصاراً وبناءً على ما تقدّم، نقترح على الباحثين في مجال التربية أن يدرسوا المقاومة انطلاقاً من كونها نظرية عقلانية ومنطقية وفطريّة، وهي قضية عالمية وعابرة للحدود والطوائف والقوميات، وموقف طبيعي للإنسان والمجتمعات البشرية المضطهدة. فالأصل هو المقاومة، وهي لا تحتاج إلى دليل وبرهان، والاستسلام هو الخروج عن الأصل، ولا يعضده أيّ منطق وفرقان. ولذلك نخلص من خلال التربية على المقاومة إلى هذه النتيجة الجوهريّة:

إنّ مسؤوليّة المعنيين بالشأن التربوي - سواء الوالدين أو أولياء المدارس أو المبلّغين أو وسائل الإعلام أو الحكومات أو غيرهم من المؤثرين - عبارة عن تعزيز التربية الفطرية المقاومة لدى الإنسان وتوجيهها وصونها في مقابل الهجمات التي تخدش الفطرة السليمة وتحاول جعل الخنوع والاستسلام والرضوخ أمام الظلم والهيمنة أمراً طبيعياً (كتطبيع الاحتلال وغيرها من النماذج) وواقعاً لا بدّ منه. 

كما أنّ استخدام هذه اللغة الإنسانية المستندة إلى الفطرة في ترويج خطاب المقاومة من قبل المؤثرين ووسائل الإعلام ومخاطبة الضمائر البشرية بأدبيات عالمية مشتركة وبعيداً عن الطائفية والمذهبية، يساهم بنحو كبير جدّاً في توسعة نطاق جبهة المقاومة في أرجاء العالم والتحاق الكثيرين بها. لذلك يقول الإمام الخامنئي إنه: "في منطقتنا اليوم، تُعدّ المقاومة اللغة المشتركة بين الشعوب. والهزائم التي مُني بها الأميركيون في العراق وسوريا ولبنان وفلسطين وغيرها هي ثمرة مقاومة الجماعات والأحزاب المقاومة. وجبهة المقاومة اليوم جبهة قوية".