سنية صالح: كيف يدخل الربيع إلى جسد يموت؟

وقعت سنية أسيرة المرض الخبيث فاندحرت إلى الداخل نحو متاهة الذات بشحنة ألم أكبر، ومتاهة خلاص مستحيل، متلمسةً الضوء الداخلي لروحها المعطوبة وجحيمها الدنيوي، ومحاولة إنعاش أنوثة ذابلة قسراً.

لا نعلم أية أقدار تراجيدية قادتها إلى حتفها بما يشبه الصاعقة ذلك. أن سنية صالح (1935- 17 آب/أغسطس 1985) كانت تنتسب إلى فصيلة الفراشات أكثر من انتسابها للكائنات الأخرى، فاحترقت بالنور باكراً.

كان يوماً حزيناً من آب إذاً، حينما انطفئت إلى الأبد، لكنها ستترك ميراثاً شعرياً، يصعب نسيانه أو تجاهله، فشاعرة من طرازها كتبت نصوصها الاستثنائية بحبرٍ خاص، بدا كما لو أنه ندبة فوق الجلد، منذ أن فازت قصيدتها "جسد السماء" بجائزة صحيفة "النهار" البيروتية (1961) متفوقة على منافسها محمد الماغوط في الجائزة، لكنهما سيلتقيان كرفيقي درب في الحياة: محارب شرس، وشاعرة شفّافة، حتى أنها وصفته في إحدى قصائدها قائلة "إنك من الزرنيخ يا سيدي/أفتح فمي كل صباح وأبتلع جزءاً منك/ولم تنتهِ/قلت سيأتي يوم أتوحّش فيه/وأفترسك/ثم أستريح"، بعد أن فقدت القدرة على ترويض "البدوي الأحمر".

من جهته، سيكتب محمد الماغوط في قصيدته "سيّاف الزهور" التي كتبها خلال احتضارها وأكملها بعد رحيلها مرثية مثقلة بالأسى والندم وطلب الغفران: "ثلاثين سنةً، وأنت تحملينني على ظهرك كالجندي الجريح، وأنا لم أستطع أن أحملك بضع خطوات إلى قبرك/أزوره متثاقلاً، وأعود متثاقلاً، لأنني لم أكن في حياتي كلها/وفيّاً أو مبالياً، بحب أو شرف أو بطولة".

كما ستختزل شقيقتها، خالدة سعيدة، تجربتها بقولها إنه: "عالم معطوب ورؤيا جامحة وفوران سديم وأحشاء غاضبة وخيال طفولي. كان الشعر حربها وصراخ جسدها وروحها. كان ثأرها وخشبة الخلاص وفخ الأمل".

وعلى الرغم من وجودها في فضاء شعري صاخب، نقصد جماعة "مجلة شعر" أمثال أدونيس ويوسف الخال، وأنسي الحاج، وفؤاد رفقة، وشوقي أبي شقرا، إلا أن ديوانها الأول" الزمان الضيّق" (1964)، ظلّ بمنأى عن تأثيرات هؤلاء الشعراء. فالشعر هنا ينتصر للحلم والحدس والمكاشفات الغامضة، كما أنه لا ينتسب إلى أية سلالة. ذلك أن شعرها نتاج الوجع في المقام الأول، ولم تكن قضيتها تتعلّق ببنود كتابة قصيدة النثر التي شغلت جماعة مجلة "شعر"، إنما في كيفية الخلاص من حمم براكينها الذاتية، وتنظيف المدخنة من رماد العالم وكوابيسه وآثامه"، أو كما تقول خالدة سعيد أيضاً، "هو شعر على حدة لا يشبه أحداً، وليس منضوياً في تيار. شعر لحزن متوحّش ينبجس من الجوهر الأنثوي الخالق المطعون المسحوق عبر التاريخ. بقدر ما ينشد حكاية المغدورين، يتقدّم كصيحة للجسد الذي انتهى بين المباضع وأسرّة المشافي".

هكذا وقعت سنية أسيرة المرض الخبيث فاندحرت إلى الداخل نحو متاهة الذات بشحنة ألم أكبر، ومتاهة خلاص مستحيل، متلمسةً الضوء الداخلي لروحها المعطوبة وجحيمها الدنيوي، ومحاولة إنعاش أنوثة ذابلة قسراً. وكأن تسلّل وحش السرطان إلى عظامها المنهكة أتى ترجيعاً لخيباتها المتراكمة، هي التي "طلبتْ من الحب أن يكون ثأرها من العالم وحصانها السحري للنجاة".

في ديوانها الثاني "حبر الإعدام" (1970)، ستتكشف أسلوبيتها عن بلاغة نافرة وفضاء غرائبي يحتشد بمفردات صادمة ومعدنية، وبراكين من زرنيخ وأسيد وبوتاسيوم وضمادات، و"قمر طويل للنفايات"، وفجائعية شرسة، كما لو أننا إزاء "صرخة وجع لا تنتج الجمال والمتعة بل تفتح المداخل على التجربة".

وكان ديوانها الأخير "ذكر الورد" (1988) الذي صدر بعد غيابها، خلاصة لتجربة متفرّدة تنطوي على مقاومة ذاتية في مواجهة المرض. هذا ما تشير إليه في مقدمة كتابها بقولها "عندما تحضر الحمّى الشعرية أخفف من حدة يقظتي، وأستسلم. ألغي مقاومتي لأعماقي إلى أقصى حد ممكن. تلي ذلك عملية تدفق داخلية، ترافقها عملية استسلام في الإرادة والحواس. ثم أدوّن ما أحصل عليه في مرحلة الهذيان هذه"، وتتساءل "كيف يدخل الربيع والحب إلى جسد تحكمه الخسارة؟".

في حوارٍ قديم معها أجراه محمد الماغوط لمجلة "مواقف"، قدّم لتجربتها بقوله إن: "كل قصائدها تبدو زهرة عارية إلا من عطرها وعمرها القصير، تبحث وسط عري الكتب والأشخاص والأيام عن ربيع ما. ربيع ضائع قد لا يأتي أبداً".