عن مواصلات لا تصل في غزة
لم أعد أعبأ إن ركبت في الجزء الخلفي من الباص أو إلى جانب الباب. حتى عندما يتوقف الباص فجأة وأكاد أسحق تحت عجلاته. لم يعد يهمني أن اختنق من روائح العرق التي تملأ ذلك "الصندوق اللعين". المهم أن أصل.
تحت أشعة آب/أغسطس الحارقة، أحاول المشي في طرقات غزة المدمرة لعلي أجد مبنى سليماً أستظل به. تارة أتعثر بالركام المنثور على جانبي الطريق، وأجد أن حذائي علقت به حجارة أو بعض شظايا الصواريخ، وتارة أخرى أحاول وضع يدي بطريقة تحجب عن عيني أشعة الشمس. ففي غزة لا وجود للمواصلات، إلا في ما ندر. ذلك أن السائد بين الغزيين اليوم ما بات يعرف على سبيل السخرية السوداء، بــ "باص 11"، أي المشي على الأقدام لمسافات طويلة جداً.
ألتقط نفساً عميقاً وأحاول مرة أخرى. أبعث إشارة بيدي لأحد السائقين لعله يتوقف، وبعد أن فقدت الأمل ووصلت إلى منتصف الطريق أجد حافلة تترنح وصاحبها يردد "على وين". أتفحص الباص أو "علبة السردين" التي امتلأت حتى سقفها بالبشر. أحاول اختبار مدى قدرتي على قطع كيلو مترات أخرى مشياً على قدمي المنهكتين، ثم أجيب بنبرة يائسة "سرايا".
يحاول الجالسون إفراغ مساحة لي لا تكفي للجلوس أصلاً. أتدبر أمري لإخراج النقود ومن ثم أناولها للسائس ليجيبني: "يختي العشرين بتمشيش، هاتي فكة". لا فكة لدي. ماذا أفعل؟ هل سينزلني بعد أن ذقت بالفعل كيف يستريح الإنسان بعد تعب نال منه؟ أحاول التفاوض معه مرة أخرى لعله يقبل، وبالنهاية يستجيب لكن على مضض، وهو يدمدم "هي الركاب كل يوم وجع قلب ع الفاضي ياريت بالآخر طالعلي اشي من هالشغلة".
أتركه يتمتم بما يريد. لا يهم، المهم أنني بداخل ذلك الصندوق ذي العجلات. يا له من اختراع عجيب ومريح في ذات الوقت. أبتسم وتلك الفكرة تدور في رأسي ثم أسال نفسي إلى أي عصر أعادنا الاحتلال. هل نجح فعلاً في إعادتنا إلى العصر الحجري؟ أسمع حديث راكبين حول سرقة المساعدات. الأول رآها منقذاً من الموت جوعاً، فيما حاججه رفيقه قائلاً إنها سرقة موصوفة ونهب لحقوق الآخرين. جميعنا كنا نسمع ولم نتدخل.
إلى جانبي سيدة. كانت تتحدث مع أخرى على الهاتف. قالت لها: "آه والله يختي زي ما بحكيلك، عزمتني وجبت غراضي معي". لوهلة ظننت أنها مدعوة لتناول علبة فول أو بعض الأرز المطهو بالماء، أو ربما شوربة عدس. لكنها تابعت بأنها مدعوة إلى حمام ساخن. نعم، ستحظى هذه المرأة إلى جانبي بحمام ساخن لأول مرة منذ أسابيع. ماء ساخن وليفة وصابون في مكان مغلق مثل كل الناس، بعد أن فقدت هذه السيدة منزلها وتشردت. صمتٌ ودمعٌ وابتسامة في الوقت نفسه. طلبت من السائق أن يتوقف. ترجلت.
لم أعد أتحمل سماع أحاديث المعاناة. لقد اكتفيت من تلك الكوميديا السوداء وقررت العودة إلى المشي. أغلقت أذني عن أصوات الأطفال الذين يبكون جوعاً في تلك الخيمة البالية التي التهمت قماشها أشعة الشمس. ربما فعلت ذلك لأحتفظ بشيء من التوازن قبل الشروع في مقابلة حول قصة مأسوية أخرى، مع ضحية جديدة من ضحايا العدوان الهمجي على غزة.
يومها اعتبرت أنه كان "يوم حظي"، لأنني لم أمشِ طويلاً. ففي مرات سابقة اضطررت للمشي 3 ساعات متواصلة في عزّ الظهيرة لزيارة صديقة نجت من الموت بغارة إسرائيلية. تمنيت أثناء مشيي لو أن صاروخاً يصيبني وينقلني فوراً إلى العالم الآخر. ربما أجد الراحة هناك من كل محاولاتي للنجاة من الموت والعيش في ظروف غير آدمية.
أتذكر أنني ذات مرة ركبتُ باصاً عمومياً، عكف سائقه على تأديبنا جمعياً. نعم كما أخبركم. فقد منعنا من الحديث وتقاضى الأجر مضاعفاً، وأنزلنا قبل الموقع المتفق عليه بحجة أن الحافلة لا تستطيع اختراق الزحام البشري الذي كان أمامنا. لم يعترض أحد من الركاب. لا مجال للتمرد. من يرفض قوانين السائق سيُترك للشمس لتتولّى أمره. ما من أحد مستعد للمجازفة. هكذا صمتنا.
لم أعد أعبأ إن ركبت في الجزء الخلفي من الباص أو إلى جانب الباب. حتى عندما يتوقف الباص فجأة وأكاد أُسحق تحت عجلاته. لم يعد يهمني أن اختنق من روائح العرق التي تملأ ذلك "الصندوق اللعين". المهم أن أصل.