رسام غزة الصغير يحول معاناة الصيادين إلى لوحات مفعمة بالألوان

الطفل الفلسطيني محمد بكر يجسّد معاناة صيادي قطاع غزة، بلوحات تبلغ من النضج الفني ما يتجاوز سنوات عمره الـ13، على الرغم من الحصار والتضييق الإسرائيليين.

  • التحق محمد بكر ببرنامج تدريبي مكثّف عندما كان في الـ9 من عمره
    التحق محمد بكر ببرنامج تدريبي مكثّف عندما كان في الـ9 من عمره

يجلس محمد بكر على رمال شاطئ غزة، بعد ساعة متواصلة من العمل، ليتثنّى له النظر إلى اللوحة التي أنهاها مؤخراً عن كثب، ومراقبة الأخرى التي ما زالت تنظر إليه كي ينهي آخر تفاصيلها من ألوان وخطوط، متّخذاً من صوت هدير البحر رفيقاً له في تلك الرحلة، التي قرّر خلالها أن ينتج عدّة لوحات تحاكي معاناة صيادي القطاع المحاصر، التي يخلقها الاحتلال الإسرائيلي بشكل شبه يومي، من قتل واعتقال ومصادرة مقتنيات وغيرها...

ولأنّ الحكاية قديمة قدم احتلال أرض فلسطين، يقول محمد إنّه اختار للوحته الأولى رجلاً مسنّاً يحاول إصلاح شباك الصيد، تمهيداً لاستخدامها في مرات قادمة، كما رسم عدّة قوارب مشتعلة إثر إطلاق زوارق الاحتلال الحربية نيرانها تجاهها، في تجسيد لاعتداء حقيقي نجم عنه استشهاد أحد الصيادين، هو ابن عمه، ورسم في لوحة أخرى معدّاتٍ يمنع الاحتلال الإسرائيلي دخولها إلى القطاع، ضمن سلسلة التقييد على مهنة الصيد، لتختصر تلك اللوحات جزءاً لا بأس به من المعاناة والألم. 

كانت تلك اللوحات آخر ما أنجزه محمد من أعمال، بحسب ما قال لـ"للميادين الثقافية". فكونه ابن مخيم الشاطئ، عشق البحر وأغرم بكل ما يتعلّق به، خاصّةً عمل الصيادين وحكاياتهم التي يروونها فور وصولهم إلى اليابسة، وكأنّها جزء لا يتجزّأ من جَنيهم الثمين، ليتعلّق محمد بتلك الحكايات، ويحوّلها إلى لوحات تنبض بالألوان، يستطيع أي شخص أن يقرأها ويفهم الرسالة التي يريد إيصالها من خلال مخاطبتها للعين.

ربما يذهلك محمد، ابن الـ13 عاماً، وهو منهمكٌ أمام لوحة تفوقه طولاً وعرضاً، محاولاً الاستناد إلى الكرسي ليرفعه، لتتساءل بينك وبين نفسك أهو حقاً من أنجز تلك اللوحات وحده؟ أم هناك يدٌ خفية تساعده؟ 

عند سؤاله، أجاب محمد أنّه بدأ رحلته مبكّراً، منذ أن كان عمره لا يتجاوز 9 سنوات، فالتحق ببرنامج تدريبي مكثّف، استمرّ 4 سنوات، الأمر الذي ساعد كثيراً في تطوّر موهبته.

بدأ محمد كأصغر طفل في المجموعة، وهو يحمل أولى رسوماته التي كانت عبارة عن طائر البومة المتقن الخطوط، ليرى المدرب في دقّة رسمته بذرة جيدة الطرح، ستُثمر بعد انتهاء المدة المقررة. يلفت محمد إلى أنّه بدأ تعلّم الرسم والنحت في آن واحد، ليعي الفروقات بين كلٍّ منها، وأهمها أنّ الرسم من الممكن تعديل بعض الأخطاء البسيطة فيه، أما بالمقابل فإنّ خطأ بسيطاً في النحت قد يجعلك تلغي المنحوتة بالكامل، وتعود إلى الخطوة الأولى.

لذلك استهوى الرسم محمد أكثر، فأعطاه جُلّ وقته وجهده، متنقلاً بين الخامات المختلفة، من الألوان الزيتية إلى الفحم، ليثبت على الأكريليك في إنتاج لوحات مختلفة الموضوعات، كالطبيعة الصامتة التي استمدّها من مدينته الساحلية، وتفاصيل الحياة اليومية الممثِّلة لمختلف القضايا الاجتماعية، مشيراً إلى أنّه تأثّر بالعدوان الإسرائيلي على غزة، وحاول تجسيده من خلال البيوت المدمَّرة ودموع الأطفال.

وكان لمحمد مع لوحة "الموناليزا" قصة مختلفة، وفق ما أخبر "الميادين الثقافية"، ربما لأنّها مثّلت انهيار تقدّمه في مجال الرسم، إلا أنّ ما كان يهوّن عليه هو أنّ دافنشي، الراسم الأصلي لتلك اللوحة، استغرق 4 سنوات في رسمها، لذلك ظلّ يشحذ همّته للمواصلة في كلِّ مرّةٍ يفشل فيها، إذ قطع رسمها لينجز لوحة بطول مترين للرئيس الراحل ياسر عرفات، وعندما حصل على إشادة من النقّاد، عاد وأنهى "الموناليزا" كما أراد.

يتابع محمد حسابات فنانين عالميين على مواقع التواصل الاجتماعي، ليرى كيف يتناولون مختلف القضايا، فالعالم يشترك مع بعضه البعض في قضية الهجرة والفقر والحرب وغيرها، ليضع رؤية تصوّرية تصل المدينة المحاصرة بالفضاء الواسع عبر رسوماته، كما أنّه يحاول التواجد في أماكن التجمّعات ليسمع القصص المختلفة ويرى آثارها، فإن صادف وقابل شيئاً مميَّزاً صوره بهاتفه أو في خياله، ليحوّله بعد ذلك إلى لوحة.

لا يملك محمد مرسماً، فهو يعتبر شاطئ البحر مرسمه الواسع وملجأه الذي يستقبل أحلامه وطموحاته للغد، لكنّه يجد صعوبة في التعامل مع بدء موسم الشتاء، خاصّةً أنّ منزل عائلته لا يتّسع لكي يكون في داخله مرسم خاص، لذلك يحلم بتأسيس ذلك المكان في يوم ما، ودراسة الفنون الجميلة في الجامعة. هذه هي أحلام محمد البعيدة الأمد.

"أما أحلامي القريبة، فهي تجميع تلك الأعمال في مكان واحد، وعمل معرض فني يتّسع لأحلام وقصص سكان قطاع غزة جميعاً"، كما يقول لـ"الميادين الثقافية".

وفي انتظار تحقيق حلمه في الالتحاق بالجامعة، يصرّ محمد على تطوير مهاراته باستمرار، من خلال الالتحاق بالمزيد من الدورات التدريبية، وربما البعثات الخارجية إن استطاع ذلك، ليبدأ بذلك في إنجاز سلسلة من الأهداف التي قد كان وضعها مؤخراً.

من جهتها، تؤكّد والدة محمد أنّ طفلها ليس طفلاً عادياً، فهو فتى حالم يتطلّع إلى الغد بنظرةٍ تفوق أبناء جيله. فهو عندما يمتلك النقود يسعى فوراً إلى شراء الألوان واللوحات، التي تُعتبر باهظة الثمن بالنسبة إلى فتى في مثل عمره. وتشير إلى أنّه استطاع التوفيق دائماً بين مدرسته وبرنامجه التدريبي في مؤسسة "رسل"، فلم يحقق النجاح في أي مجال على حساب مجالٍ آخر.

عند سؤالها عن رأيها بلوحات ابنها، قالت والدة محمد إنّها في البداية ظنّت أنّه ليس راسمها الحقيقي، وأنّ المدرب يستجدي رضاها كي تُبقي الطفل مواظباً على تدريباته، التي تقاطعت مع زخم الدراسة في بعض الأحيان، إلى أنّ قرّرت يوماً أن تذهب فجأةً لزيارة مقرّ المؤسسة، وتشاهد بأم عيناها عمل طفلها، الذي أصبح متمرِّساً في تناول الموضوعات، واختيار الألوان والتفاصيل بدقة.

وعن ملاحظة الأم لموهبة محمد، تُبيّن أنّ طفلها كان منذ صغره يرسم الحيوانات بدقة عالية، وهي مهارة اكتسبها منها هي، فلم ترغب أن يلقى مصيرها ذاته، وأن تُدفن موهبته، لذلك شجّعته برفقة والده على تطوير مهاراته من خلال تسجيله في العديد من الدورات، ليصل إلى ما وصل إليه اليوم، متمنيةً أن يرى العالم أعمال محمد، ولا يقتصر عرضها على قطاع غزة ومحيطه فقط.