الفن "الفطري" كصناعة مؤسّسيّة
الفن الحقيقي لا يحتاج إلى شهادات ميلاد أو بطاقات هوية. هو يشبه الضوء الذي يتسلل من النافذة في الصباح - لا يسأل أحداً عن تصنيفه، لكنه يضيء العالم رغم ذلك.
-
لوحة "عنتر" للفنان السوري الراحل أبو صبحي التيناوي (1888-1973)
المؤسسة تصنع القالب أولاً، ثم تجبر الواقع على التشكّل وفقه. هي قاعدة تنطبق على الفن الفطري كعنوان مبهم التشخيص، وفيه ما فيه من إمكانية النقاش حول أحقيّة الوسط الثقافي المثقَّف بأن يمتلك هيمنة التوصيف، والتشخيص، بالنسبة لمستويات ثانية من الإبداعات التي تتحرّك في فضاءات ريفيّة، أو شعبيّة فقيرة، بحيث لا يمتلك هؤلاء المبدعون وسائل قوّة وضغط لتقديم سرديّاتهم الخاصّة وتعريفاتهم هم للفنون والآداب.
تحمل نظرة المركز للهامش أنساقاً مشوَّشة حول مصطلح "الفطري"، وهو ما سمح بالتمادي في ترسيخ الطروحات التي تتناسب وإياها، كأنّ المؤسسة تقول: "هذا هو الفنان الفطري"، ثم تبدأ في البحث عن نماذج تطابق هذا التعريف. وحين لا تجد النموذج المطابق تماماً، تبدأ في تكييف وتعديل ما تراه ليناسب التعريف الذي وضعته.
في هذه العملية المركَّبة، تتحوّل الممارسة الفنية الحرة إلى ظاهرة قابلة للتصنيف والقياس. المؤسسة تضع الحدود، تعيّن الخصائص، تحدّد المعايير، ثم تبدأ في فرز وتصنيف الفنانين وفقاً لهذه المعايير التي اخترعتها هي نفسها.
الفنان "الفطري"، في هذا السياق، لا يملك حرية تعريف نفسه. هو إما أن يقبل التصنيف المفروض عليه، أو يجد نفسه خارج دائرة الاعتراف المؤسسي. وهكذا تتحوّل الممارسة الفنية من فعل حرّ إلى نشاط محكوم بقواعد وحدود مفروضة من الخارج.
تشريح نظام التصنيف الفني
نجد أنفسنا أمام مشهد يتكرّر بإيقاع تاريخي ثابت: المؤسسات الفنية، بما تملكه من أدوات تقييم وتصنيف، تقف في موقع المراقب العلوي تجاه الممارسات الفنية المباشرة والحية. إنها النظرة نفسها التي حملها الأنثروبولوجي الأوروبي وهو يدرس القبائل "البدائية": نظرة تدّعي الموضوعية والحياد العلمي، لكنها في جوهرها نظرة استعلائية.
المؤسسة الفنية تمارس نوعاً من "الوصاية الثقافية". تضع نفسها في موقع من يحقّ له تحديد ما هو "فطري" وما هو "محترف"، ما هو "بدائي" وما هو "متطوّر". هذا التصنيف لا يختلف في جوهره عن تصنيف الشعوب إلى "متحضّرة" و"بربرية".
في هذه العملية المنهجية، نجد أنّ "الآخر" - وهو هنا الفنان المسمّى فطرياً - يتحوّل إلى موضوع للدراسة والتصنيف، يُفحص تحت عدسة المؤسسة، يُحلّل ويُصنّف ويوضع في الخانة المناسبة في النظام العام للفنون.
ما يغيب عن هذا النظام هو إدراك أنّ الفن، في جوهره، ممارسة حيّة ومتجدّدة لا تخضع للتصنيف الثابت. الفنان، سواء كان "فطرياً" أو "أكاديمياً"، يمارس فعلاً إبداعياً يتجاوز حدود التصنيفات الجامدة التي تضعها المؤسسة.
وكما أنّ المستعمِر احتاج إلى تصنيف "الآخر" ليبرّر سيطرته عليه، فإنّ المؤسسة الفنية تحتاج إلى هذه التصنيفات لتبرّر وجودها وتحافظ على موقعها في قمة الهرم الثقافي.
نظام المراقبة الفنية
تتحوّل صالات العرض والمتاحف ومراكز الدراسات الفنية إلى ما يشبه مختبر التحليل: يوضع فيه الفنان "الفطري" تحت عدسات الفحص المؤسسي. كلّ حركة من حركاته تُسجّل، كلّ لمسة فرشاة تُحلّل، كلّ اختيار لوني يخضع للتفسير والتأويل. إنه أشبه بكائن نادر اكتُشف للتوّ، يجب دراسة سلوكه وتصنيف خصائصه.
في هذا المختبر الثقافي، يتحوّل الفنان من ذات مبدعة إلى عيّنة للدراسة. تُكتب عنه الأبحاث، تُقام حوله الندوات، تُنظّم باسمه المعارض التي تحتفي به كظاهرة غريبة تستحقّ الدراسة. وفي خضمّ هذا كلّه، يفقد صوته الخاص، يتحوّل من صانع للمعنى إلى مادة خامّ يصنع منها الآخرون معانيهم.
الغريب في هذا النظام أنه كلما زاد الاهتمام بالفنان "الفطري"، كلما تعمّقت عزلته. كلّ دراسة جديدة، كلّ تحليل إضافي، يضيف طبقة أخرى من الغربة بينه وبين عمله. يصبح متفرّجاً على تحليل أعماله، مستمعاً إلى تفسيرات لا علاقة لها بتجربته الحقيقية.
في هذه العملية المستمرة من المراقبة والتحليل، يفقد العمل الفني عفويته الأولى. يصبح كلّ عمل جديد محكوماً بتوقّعات المؤسسة وتفسيراتها. الفنان نفسه قد يبدأ في التفكير بمنطق المؤسسة، محاولاً إرضاء توقّعاتها، مؤكّداً "فطريته" المفترضة.
وهكذا تكتمل دائرة التحوّل: من فنان حرّ يمارس إبداعه بعفوية، إلى نموذج مؤسسي يؤدي الدور المتوقّع منه في مسرحية "الفن الفطري" التي كتبت المؤسسة نصها مسبقاً.
في جدلية التقويض الذاتي للمؤسسة
في قلب النظام المؤسسي، تنمو متناقضاته الخاصة التي تعمل على تقويضه من الداخل. فحين يتجه فنان "مكرّس" مثل اللبناني رفيق شرف نحو تجربة أبو صبحي التيناوي، مستلهماً منها فضاءات عنتر وعبلة والحصان، لا يقوم فقط باستعارة أسلوب أو تقنية، بل يقوّض كامل نظام التراتبية الفنية الذي وضع "المكرَّس" في موقع المعلم و"الفطري" في موقع التلميذ.
هذا التحوّل يشبه انقلاباً صامتاً في موازين القوى: التيناوي، الذي صُنّف كظاهرة تستحقّ الدراسة، يتحوّل إلى مصدر لتجديد الفنّ. القالب الذي صُمّم لاحتواء "الفطري" وتحجيمه، يتصدّع من الداخل.
عندما يعود شرف إلى مرسمه حاملاً معه تأثيرات التيناوي، لا يعود فقط بأسلوب فني، بل يعود بدليل على عجز النظام التصنيفي نفسه. فكيف يمكن الحفاظ على التمييز بين "الفطري" و"المكرَّس" حين يصبح الأول مصدر إلهام للثاني؟
في هذه اللحظة بالذات، يكشف الفن عن طبيعته الحقيقية كممارسة حرّة تتجاوز كلّ محاولات التأطير والتصنيف. إنه يشبه الماء الذي يجد دائماً طريقه للتسرّب من أضيق الشقوق، مخترقاً أقوى الحواجز التي تقيمها المؤسسة.
وهكذا، في قلب النظام المؤسسي نفسه، تنمو بذور تحوّله وتجاوزه. كلّ محاولة لتثبيت الحدود تكشف عن هشاشتها، وكلّ تصنيف صارم يحمل في داخله إمكانية تقويضه.
نحو فهم جديد للممارسة الفنية
تكمن جذور المشكلة في تلك الرغبة المحمومة لوضع كلّ شيء في خانة محدّدة. لكنّ الفن، في حقيقته الجوهرية، يتجاوز هذه المحاولات التبسيطية. فحين نقف أمام لوحة للتيناوي، نجد أنفسنا أمام فعل إبداعي خالص، لا يكترث بالتصنيفات التي نحاول إلصاقها به.
الممارسة الفنية الحقيقية تشبه تلك الطيور التي تعبر الحدود من دون تأشيرات أو أوراق رسمية. فالتيناوي، في كلّ ضربة فرشاة، لا يسأل نفسه إن كان ما يفعله "فطرياً" أم "أكاديمياً". هو يمارس فعل الإبداع بتلك الحرية الأساسية التي تسبق كلّ التصنيفات وتتجاوزها.
ربما حان الوقت لنعكس السؤال: بدلاً من البحث عن مكان لأبي صبحي للتيناوي في نظامنا التصنيفي، علينا أن نسأل عن جدوى هذا النظام نفسه. هل هذه التصنيفات تضيف شيئاً حقيقياً لفهمنا للفنّ، أم أنها مجرّد أقفاص نضع فيها ما لا نستطيع فهمه؟
المؤسسة الفنية، بكلّ أجهزتها وأدواتها التصنيفية، تشبه جامع فراشات يحاول حفظ الجمال في صناديق زجاجية. لكنّ الجمال الحقيقي يكمن في حركة الفراشة الحرّة، لا في جثتها المحنّطة المعلّقة على لوحة التصنيف.
الفنّ الحقيقي لا يحتاج إلى شهادات ميلاد أو بطاقات هوية. هو يشبه الضوء الذي يتسلّل من النافذة في الصباح - لا يسأل أحداً عن تصنيفه، لكنه يضيء العالم رغم ذلك.