العيش وسط الضجيج الرقمي: هل نفقد السيطرة على حياتنا؟
لم تعد القراءة كما كانت، لا من حيث المدة، ولا من حيث التفاعل العقلي والعاطفي. حتى الحديث مع الآخر تحوّل إلى محادثات متقطعة، مقتضبة، بلا نبرة، أو نظرة، أو صمت مشترك.
-
نحن لسنا ضحايا التكنولوجيا. نحن من صنعناها (الصورة عن الانترنت)
في زمنٍ لم يعد فيه الصمت خياراً، نشهد كيف تتسلل الشاشات إلى تفاصيل أيامنا، وإلى أنفاسنا الأولى حين نستيقظ، وإلى لحظاتنا الأخيرة قبل النوم. لم نعد نسمع صوت أفكارنا، ولا نرى وجوه أحبّتنا بقدر ما نحدّق في ومضات زرقاء تصدرها أجهزتنا الذكية. لقد أصبح الضجيج الرقمي أكثر من مجرد تلوّث سمعي أو بصري؛ إنه غزو حقيقي لوعينا.
منذ عقود قليلة، كان الإنسان يملك وقتاً حقيقياً للتأمل، للضجر، للتساؤل. أما اليوم، فقد صار الهاتف الذكي "ملاذاً" نلجأ إليه كلما شعرنا بالملل أو القلق أو الفراغ. نتنقّل بين التطبيقات كما لو أننا نبحث عن شيء لا نعرف سره. أخبار متلاحقة، رسائل لا تنتهي، مقاطع فيديو تتدفّق بلا توقف، ولا نكاد ندرك أننا نستهلك أنفسنا قبل أن نستهلك المحتوى.
لقد زرعت فينا هذه الأجهزة عادة الردّ الفوري. لا مجال للتأجيل، لا مكان للتأمل، حتى قراراتنا صارت تُتخذ على عجل، مدفوعة بقلق اللحظة وخوف الفوات. هذا الإيقاع اللاهث الذي فرضه العالم الرقمي لا يترك لنا فرصة لإعادة تعريف معنى الوقت. أصبح كل شيء "مستعجلاً"، بينما خسرنا إحساسنا الطبيعي بالأولويات.
ما يمكن أن نخشاه، في هذا السياق، ليس فقط الانفصال عن الذات، بل فقدان القدرة على التعمّق. لم تعد القراءة كما كانت، لا من حيث المدة، ولا من حيث التفاعل العقلي والعاطفي. حتى الحديث مع الآخر تحوّل إلى محادثات متقطعة، مقتضبة، بلا نبرة، أو نظرة، أو صمت مشترك. نعم، نحن نتواصل أكثر، لكننا نحبّ أقل، نصغي أقل، ونفهم أقل.
والمفارقة أن هذا الضجيج لا يخلق تعباً ذهنياً فقط، بل يربك أيضًا إدراكنا لما هو مهم. مع كل إشعار يلمع على شاشاتنا، يتراجع شيء داخلي: فكرة كنّا سنبلورها، مشهد في الطريق كاد أن يُلهمنا، إحساس بالامتنان لنسمة صباح، أو فنجان قهوة، أو لحظة دفء. إنه نوع من الفقد البطيء، لا نلحظه يومًا بيوم، لكنه يتراكم حتى نصحو يومًا فنشعر أننا لم نعد نحن.
ومع كل هذا، لا يمكن الدعوة إلى القطيعة مع التكنولوجيا، ولا إلى الهروب من العصر. لقد منحتنا التكنولوجيا الكثير، وفتحت لنا آفاقاً معرفية وشخصية غير مسبوقة. لكنها — مثل أي قوة — تحتاج إلى وعي ورقابة. فالمشكلة ليست في الآلة، بل في التخلّي التدريجي عن الإنسان.
ربما تكون البداية في أن نستعيد بعض المساحات. مساحة صغيرة للصمت، للهامش، للانقطاع. أن نقرأ من دون انشغال، أن نكتب من دون خوف من التقييم، أن نجلس مع من نحب من دون أن نلتقط صورة. أن نسترجع لحظة عابرة كانت ستضيع تحت ثقل الإشعارات.
هل نفقد السيطرة على حياتنا؟ ربما، إذا استسلمنا لهذا التيار الجارف بلا وعي. لكن الأمل لا يزال قائماً: أن نقاوم، لا عبر الرفض الكامل، بل من خلال بناء توازن داخلي يمكننا من استعادة زمام المبادرة. أن نعيد ترتيب عالمنا الرقمي بحيث يخدمنا ولا يستهلكنا. أن نختار، لا أن نُجَرّ.
العيش وسط الضجيج الرقمي لا يعني أن نصمّ آذاننا، بل أن ندرب عقولنا وقلوبنا على الإصغاء لما هو أعمق، لما هو حقيقي. ربما تكون هذه هي المعركة الأصعب في عصرنا: أن نحافظ على إنسانيتنا في عالم يحاول اختزالنا في بيانات.
لكن، كيف؟ كيف نصغي من جديد ونحيا بتوازن؟ البداية ليست في الانقطاع، بل في إعادة الهيكلة. أن نخصص أوقاتاً خالية من الشاشة، نسميها بصدق "أوقات لنا". أن نعيد للتأمل مكانته، وأن نمارس الصمت ولو لبضع دقائق كل صباح. أن نضع حدوداً لاستخدام الأجهزة: لا هاتف على طاولة الطعام، لا إشعارات أثناء الدراسة أو العمل، لا تصفّح قبل النوم.
إن جودة الحياة الرقمية لا تُقاس بعدد التطبيقات، بل بقدرتنا على استخدام التكنولوجيا بوعي. أن نسأل أنفسنا عند كل تفاعل: هل هذا يُضيف لحياتي معنى؟ هل يُقرّبني من ذاتي أو من الآخر؟ أن نستبدل التصفّح العشوائي بالقراءة المتأنية، والدردشة المتكرّرة بلقاءات وجهاً لوجه، والمشاهدة اللامنتهية بمشاريع صغيرة تنعش أرواحنا. فالعيش في العصر الرقمي يجب ألّا يكون عبئاً، بل يمكن أن يكون فرصة: فرصة لبناء عادات معرفية، لتوسيع الأفق، وللتواصل الإنساني الحقيقي — إذا عرفنا كيف نمسك بزمام الاختيار.
وعليه، نحن لسنا ضحايا التكنولوجيا. نحن من صنعناها. ولعل الوقت قد حان لنصنع من أنفسنا نُسَخاً أكثر وعياً، وأكثر هدوءاً، وقدرة على السكن في عالم صاخب من دون أن نضيع في صخبه.