أم العميل

جاءها النبأ اليقين بعد نحو شهر: "ابنك يا فاطمة، جنّده الصقر لصالح العدو الإسرائيلي". ضربت على رأسها "عميل.. ابني عميل".

... وقبل أن يرتد إلى العين طرفها، كانت قد غرست سكينها في قلبه وهي تصرخ: "هذه من أجل أطفال فلسطين... وأطفال جنوب لبنان". 

أثناء التحقيق معها في مبنى النيابة العامة، سئلت "لماذا قتلته؟"، فأجابت "لن أصبح أمّ العميل".

فاطمة... ضحية من ضحايا عملاء الاحتلال الإسرائيلي، كان لها من العمر 12 عاماً، يوم قتل العميل الملقب بـ "الصقر" والدها وشقيقها ابن الــ 16، بعد أن كمن للعائلة الرافضة للتجنيد في صفوف العملاء. فوالدها فضَّل الهرب في ظلام الليل بعائلته الصغيرة، لكن المدعو "الصقر" كمن للعائلة في خراج القرية اللبنانية الحدودية مع فلسطين، فقتل الأب وابنه... واغتصب فاطمة!

استفاقت القرية على المصيبة.  نُقلت الأم وابنتها إلى المستشفى. كانت الوالدة مصابة بجلطة دماغية، ستتسبب لها بالشلل وفقدان القدرة على النطق، والطفلة تنزف من جميع أنحاء جسدها الغض.

شُيِّع الشهيدين قبل أن تنطق فاطمة، لتخبرهم أن مَن فعل ذلك هو العميل "الصقر".

خطأ طبي-  سوء تقدير من الأطباء... أو لعله القدر! بعد مضي شهورٍ على الكارثة، اكتشف أحد الأطباء الموكلين بعلاج فاطمة، أن الطفلة حامل! ولأنها في شهرها الثالث، فقد رفض الطبيب إجراء عملية إجهاضٍ لها، فهذا يشكل خطراً كبيراً على حياتها. يوم وضعت فاطمة طفلها، انتقلت الأم إلى رحمة الله. 

كانت حرب فاطمة أن تربي طفلها بعيداً من والده البيولوجي. وقد رفضت أي صلة معه. كان أهل القرية يقولون "فاطمة تربي ابنها كل شبر بنذر، جعله الله صالحاً وباراً بها بعد كل ما عانته". 

عام 2000، يوم اندحر الاحتلال عن جنوب لبنان، وتحررت الأرض، كان ابن فاطمة قد بلغ عامه الثاني.  انتظرت أن يُحاكم العملاء. لكن! للأسف... القانون في لبنان تساهل جداً معهم، أمرٌ سيدفع  المجتمع المقاوم ثمنه باهظاً.

يوم قابلتها في النيابة العامة وعرّفتها عن نفسي بأنني محاميتها قالت "لو أن القانون عاقب قاتل والدي وشقيقي، لو أن القانون عاقبه بذنبي أنا، لو أن القانون علق المشانق... لما وصلنا إلى هنا". 

كان 7 أكتوبر 2023 يوماً مجيداً. أشرقت شمسه على خبر طوفان الأبطال، "طوفان الأقصى". بطبيعة الحال رفضت ابنة الجنوب المقاوم أن تغادر قريتها الحدودية. فهي ولدت هنا، ولن تموت إلا هنا. لكن، ما الذي يجري؟ أمر عجيب. تصرفات ابنها غريبة، يتحدث ليلاً في هاتفه هامساً، ثم يتسلل خارجاً، بعد أن يظن أنها نائمة!

ذات ليلة لحقت به، فاكتشفت المصيبة! ابنها يلتقي والده في منتصف الليل؟ منذ متى يلتقي والده؟ قصدت عمها، وأخبرته عن شكوكها.

جاءها النبأ اليقين بعد نحو شهر: "ابنك يا فاطمة، جنّده الصقر لصالح العدو الإسرائيلي". ضربت على رأسها "عميل... ابني عميل".

حضرتْ إلى مكان اعتقاله، شقت الجموع ووقفت أمامه، فطأطأ رأسه، صفعته قائلة: "سوَّد الله وجهك، وخذلك في الدنيا والآخرة". 

ما زالت حربنا مع "إسرائيل" مستمرة منذ عقود، وما زال العملاء يختالون بين ظهرانينا، من دون حسيب أو رقيب.

خارج النيابة العامة، تجمهرت الجموع متعاطفة مع فاطمة، ومطالبة بإطلاق سراحها من دون قيد أو شرط.

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.