ما الذي قد يمنع نتنياهو من الذهاب إلى حربٍ إقليمية؟

السلوك الإسرائيلي تجاه لبنان ليس هدفه إعادة مستوطني الشمال، إنما الذهاب إلى حربٍ تدميرية تضمن لها على الأقل، إن لم تتمكن من القضاء على حزب الله، أن تنزع سلاحه وتمنعه من تهديدها مستقبلاً. 

0:00
  • "إسرائيل" لم تتعلم من درس التاريخ.

تتسع نُذر الحرب الإقليمية وتتصاعد في منطقة الشرق الأوسط، خاصةً بعد الضربة الصاروخية القاسية التي وجّهتها إيران إلى "إسرائيل"، وتهديد الأخيرة بأنها سترد عليها بقوة. ويبدو أن "إسرائيل" تُحضّر، وبالتنسيق التام مع الولايات المتحدة، لردٍ عسكري كبير داخل الأراضي الإيرانية مع كل المحاذير والمخاطر المترتبة عليه، خاصة وهي تخوض حرباً مفتوحة مع حزب الله، وما زالت حربها التدميرية ضد غزة على أشدها بعد ما يقارب العام على بدايتها.   

ومع أن البعض يُشكك في جدّية "إسرائيل" في الذهاب إلى هذا المنحى، في ظل الاعتقاد السائد بأن جبهتها الداخلية لن تصبر على حرب استنزافٍ طويلة تضرب مقدرتها على التحمّل، خصوصاً أن القيادتين السياسية والعسكرية الإسرائيليتين تُعوّلان على صبر هذه الجبهة لاستمرار السماح بخوض الحرب على مختلف الجبهات، فإن تجربة السنة الماضية من الحرب دفعت الكثيرين إلى إعادة النظر في هذه المقاربة، مُستندين إلى أن "إسرائيل" أثبتت بعد عُقدة "طوفان الأقصى" التي ضربت هيبتها وردعها، أنها تمكّنت من بناء مقاربة جديدة تستطيع وفقها أن تتحمّل خسائر قاسية في جبهتها الداخلية، كما في صفوف جنودها ومستوطنيها وعُدّتها وعتادها. ويبدو أن التوحش الذي تعيشه وتمارسه "إسرائيل" و"القلق الوجودي" الذي يستمر نتنياهو بضخه في وعيها، يجعلها تتقبّل مثل هذه الأثمان القاسية، خصوصاً مع توالي سقوط قتلى لها في غزة، وفي الحدود الشمالية لفلسطين المحتلة. 

زد على ذلك، أنه في مقابل التصدعات الهامة التي تَحدث في الجبهة الداخلية الإسرائيلية نتيجة حرب الاستنزاف الطويلة نسبياً، يقوم نتنياهو وحكومته ببناء حوائط صد لحماية الجبهة الداخلية الإسرائيلية، وتمتينها عبر "المقاربة الصفرية للحرب" القائمة على فكرة "إما نحن وإما هم"، بما يسمح باستمرار تغذية الإرجاف والخوف الوجوديين الدائمين في الوعي الإسرائيلي، ويجبره مُكرهاً على استمرار تحمّل هذه الأثمان.

إن القناعة التي باتت تتشكل في الوعي الإسرائيلي "المرعوب" بعد عام من عمر هذه المواجهة، أن خسارة "إسرائيل" في هذه الحرب متعددة الجبهات تعني نهايتها، وبأن عليها أن تكون مُستعدة لدفع بعض الأثمان القاسية، اقتصادياً ومجتمعياً وفي صفوف جنودها ومستوطنيها، وأن عليها أن تعدّها "أضراراً جانبية وأثماناً مُستحقة" على طريق تحقيق الهدف "الأكبر والأسمى" بالنسبة إلى المجتمع الإسرائيلي "ودولة إسرائيل"، وهو تصفية حساب مع محور المقاومة، ومنعه من أن يشكل خطراً على "إسرائيل" مستقبلاً، وأن عليها، أي الجبهة الداخلية، أن تَعض على أصابعها، وأن تتحمّل في سبيل تحقيق هذا الهدف.

ولذلك، يبدو في هذا السياق أن السلوك الإسرائيلي المُنفلت حالياً تجاه لبنان ليس هدفه فك الارتباط ما بين جبهتي شمال فلسطين وجنوبها أو إعادة مستوطني الشمال إلى مستوطناتهم، وفق ما تدّعي الحكومة الإسرائيلية، إنما الذهاب إلى حربٍ تدميرية تجاه لبنان تضمن لها على الأقل، إن لم تتمكن من القضاء على حزب الله، أن تنزع سلاحه وتمنعه من تهديدها مستقبلاً. 

قد يبدو للبعض أن "إسرائيل" لم تتعلم من درس التاريخ، وأنها تعاود الغوص في وحل المواجهة البرية الذي بالكاد نجت منه في تجارب سابقة مع حزب الله، وهذا دقيق إلى حدٍ كبير، لكن نظرة معمّقة إلى المجتمع الإسرائيلي اليوم وهو المُفزّع بعُقدة التهديد الوجودي، تجعل من فكرة التعايش مع "عش الدبابير" على طول "حدودها" الشمالية أمراً غير مستوعبٍ لديها، وإلا كيف نفهم روايتها المتعلقة بخطط كانت تُعدّها قوة الرضوان "لاحتلال" مستوطنات الجليل "لولا تدخل الجيش الإسرائيلي لإحباطها"!. 

وبالتوازي، تتولد قناعة كبيرة لدى "إسرائيل" اليوم بأن مقاربة ضرب "أضلاع" المحور لم تُفلح في كسره، وتحقيق ما تصبو إليه "إسرائيل" رغم القوة التدميرية التي تستخدمها في صراعها معه في فلسطين ولبنان واليمن...وغيرها، وبأن على "إسرائيل" إن هي أرادت كسر حلقة النار التي فرضتها إيران عليها من كل الاتجاهات تقريباً، أن تذهب إلى ضرب "الرأس" مباشرة لتتمكن من إخماد نار هذه الحلقة، وهي التي ما انفكت تتهم إيران بأنها تقف خلف كل صيحة على "إسرائيل".  

ومن هنا، فإن سلوك "إسرائيل" الاستفزازي تجاه الجمهورية الإسلامية منذ أن عَمدت إلى اغتيال الشهيد إسماعيل هنية على أراضيها مروراً باغتيال الأمين العام لحزب الله، الشهيد السيد حسن نصر الله، وانتهاءً بخطاب نتنياهو الاستعراضي الاستفزازي تجاه الجمهورية الإسلامية من على منصة الأمم المتحدة، وسعيه لتأليب الشعب الإيراني على حكومته عبر خطاب سمج موجّه إليه مباشرة، قُصِد منه، من دون أدنى شك، جرّ إيران إلى الرد على استفزازات "إسرائيل" بالنار، وقد فعلت، لتقوم "إسرائيل" بدورها باتخاذ هذا الرد ذريعة لفتح مواجهة شاملة معها تصفي فيها حساباً معها ومع برنامجها النووي، في ظل فرصة تاريخية سانحة على "إسرائيل" أن لا تُضيّعها وفق ما يرى كثيرون في "إسرائيل" اليوم. 

ولا شك في أن حكومة الكيان الصهيوني تعتقد بأن مقاربة القوة العمياء الهوجاء وفائض القوة العسكرية والتقنية والاستخبارية التي لديها، مع فائض التغطية الأميركية في كل المستويات، مضافاً إليها فائض العجر في المنابر الدولية، وفائض الصمت العربي الرسمي المُتاح الآن، يسمح لـ "إسرائيل" بأن تذهب في انفلاتها وجنونها التدميري إلى أقصى حدٍ مُمكن. 

وثمة ما يدعونا إلى الاعتقاد بأن نتنياهو الذي لم يُسلّم بالقبول بفكرة الدخول في مسار دبلوماسي حقيقي يفضي إلى ترتيبات توقف الحرب على غزة وتطلق سراح الأسرى من الجانبين، وظل متمسكاً حتى اللحظة بفكرة "النصر المطلق" في مواجهة المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، رغم الانقسامات الداخلية الإسرائيلية وتباين الآراء حول استمرار الحرب، ورغم أن المقاومة في غزة امتلكت ورقة الأسرى كورقة مساومة ضاغطة كبيرة في يدها استخدمتها بذكاء لتأجيج الصراع الداخلي وتأليب الداخل الإسرائيلي ضد حكومة نتنياهو، حتى وصلت الاحتجاجات ضد حكومته ذروتها في مفاصل مختلفة من عمر الحرب، لن يقبل، أي نتنياهو، اليوم بوقف الحرب على لبنان ويرضخ للنداءات الدولية المطالبة بذلك، وهو المُتسلح بشبه إجماع شعبي داخلي جارف لاستمرار هذه الحرب، ومعه ما يبدو بأنه تنافس محموم بين خصومه السياسيين لدفعه إليها، ناهيك بائتلافه الذي يقرع طبولها ويشعلها كلما شعر بأن نارها قد تخبو. 

وعلى المقلب الآخر، يبدو كذلك، بأن إيران التي أيقنت المقاصد الإسرائيلية الخبيثة، رفعت من وتيرة خطابها وسلوكها الذي يزداد يومياً حدة وإصراراً، وقد تخلت عما سمّته "ضبط النفس من طرف واحد"، ولم يبق من أحد في نظامها السياسي والعسكري والروحي إلا وأوضح، بما لا يدع مجالاً للشك، أن إيران ذاهبة في هذه المواجهة إلى أقصى حدودها، وأنها لن تتسامح مع المساس بكرامتها وأمنها القومي. 

ولذلك، يبدو أن الرهان الإسرائيلي ليس مرتبطاً فحسب بالتمنيات وانفلات شهوة التوسع والسيطرة المأخوذة ببعض الإنجازات التكتيكية التي حققتها في مواجهتها مع قوى المحور، ولا بفائض القوة التدميرية التي تملكها، ولا بفائض الإجماع الإسرائيلي الداخلي في الموقف من الحرب، ولا بفائض الدعم والشراكة الأميركيين، بل هو، أولاً وأخيراً، رهن مقدرة الطرف الآخر الذي تقاتله "إسرائيل" وإصراره على منعها من تحويل أوهام القوة إلى إنجازات استراتيجية عبر تدفيعها أثماناً باهظة جداً تُعيد "عقلنة" سلوكها المنفلت وتقطع الطريق على أوهامها التوسعية الاستعمارية.  

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.