مؤتمر الحوار السوري: منطق الدولة أم منطق التمكين؟
مؤتمر الحوار الوطني الذي سلّم الرئيس مخرجاته، أُعدَّ لتجميع مطالب مختارة يستند إليها شخص الرئيس في قراراته الأحادية. لكنه أشبه بسوق عكاظ على عجل يأمل بظهير مدني، يضفي على سلطة "هيئة تحرير الشام" شرعية تأسيس الدولة.
-
المخاطر الوجودية التي تهدّد سوريا هي أزمات داخلية.
سبع أفراد من العاملين مع "هيئة تحرير الشام" في إدلب أوكل إليهم الرئيس الشرع في "مؤتمر النصر" التواصل مع سوريين كيفما اتفق، لكي ينقلوا إليه عيّنة من الهموم والآمال ويتخذ بمفرده قرارات تعيين اللجنة الدستورية ومجلس الشعب والحكومة...
سيّدتان فاعلتان من المنظّمات غير الحكومية
لا يظنّن عاقل بأنّ للرجال الخمسة من بطانة الرئيس دوراً بارزاً في جلسات الحوار ومؤتمر الدردشة النهائي، سوى الإشراف على الضوابط الشرعيّة لإقناع فقهاء الفصائل التي حلّت نفسها أو لم تزل تنتظر، بأنّ مسعى الرئيس للتداول في أمور الدنيا فيه فائدة للحكم.
هذا توجّه من بصمات السيدة هدى الأتاسي بدأته مع حكومة إدلب وساعدت في انفتاح "العالم الخارجي" على "هيئة تحرير الشام"، ولا سيما في لقاءات ومباحثات سياسية دؤوب مع وزير الخارجية أسعد الشيباني على معبر باب الهوى.
هي المديرة الإقليمية لهيئة الإغاثة الدولية، ناشطة مع جيش من المنظّمات الدولية العاملة على نشر ثقافتها لحقوق الإنسان والتمكين السياسي للمرأة، وترأس اتحاد منظّمات المجتمع المدني السوري المكوّن من 45 منظّمة غير حكومية. ونظراً لجهودها جرى تكريمها في واشنطن عام 2016.
الرئيس الشرع ذاق حلاوة الفائدة والمصلحة من هذا النشاط السياسي فتكيّف معه بحدود لم تتضح بعد كلّ تأثيراتها على رؤيته وتفكيره المتنقّل من الفكر الداعشي إلى فكر القاعدة والنصرة، ثم إلى ملامح ما تبدو مقاربة ما بعد "هيئة تحرير الشام" التي سمّاها الانتقال من الثورة إلى الدولة.
في هذا السياق ضمّ السيدة هند قبوات إلى الهيئة التحضيرية "لمؤتمر الحوار الوطني" وهي سورية ــــ كندية متخصصة في حوار الأديان من جامعة فرجينيا الأميركية، وعاملة في منظّمة "تستقل" الأميركية ومركز "جسور" للدراسات، ومستشارة في المجلس الاستشاري للبنك الدولي وناشطة في المجتمع المدني.
إلى جانب السيدتين الناشطتين اتخذ السيدة الشابة رزان سفور مستشارة خاصة ومرافقة في زيارته إلى الرياض. فهي بريطانية من أصل سوري حاصلة على ماجستير من كلية الدراسات الشرقية والأفريقية في جامعة لندن، ومشاركة في برنامج إعداد القادة السوريين وكاتبة في فضائل "الربيع العربي" على الوعي..
غير أنّ ناشطات المجتمع المدني إلى جانب الرئيس الشرع، تخلّين عن أيقونات المجتمع المدني التقليدية، وتكيّفن بعدم مسّ محرّمات الرئيس والجماعات المسلّحة. فلم يتلفّظنّ مرّة واحدة بعبارة ديمقراطية مثلاً، ولا حتى دولة مدنية ولا عبارة المساواة بين الرجل والمرأة الأكثر رمزية للمجتمع المدني، وخرقن مبادئ المنظّمات غير الحكومية التي تركّز على التمثيل الطائفي والعرقي لما تسمّيه "المكوّنات" في سلطة الحكم وفي مؤسسات الدولة.
الشعب السوري أفراد؟
مؤتمرات "الحوار الوطني" من أجل إعادة تأسيس الدولة في كلّ البلدان التي انهارت بفعل الغزو الأميركي ــ الغربي والدمار الداخلي، هي بدعة أميركية ــ غربية مُستحدثة ترتكز وصفتها على اعتبار شعوب عالم الجنوب أفراداً ينقسمون بثقافاتهم البربرية إلى مكوّنات طائفية وعرقية وجهوية، ينبغي أن يضمن لهم "الانتقال إلى الديمقراطية" حريّة الركض وراء لقمة العيش، وتمثيل كياناتهم في سلطة الحكم ومؤسسات الدولة.
غني عن البيان أنّ هذه الوصفة لم توقف الاحتراب الداخلي واهتراء الحكم الانتقالي ودمار الدولة في كل البلدان، بل سعّرته (ليبيا، السودان، الصومال، الكونغو...) وهو ما يخاطر الرئيس الشرع بتفاقمه إذ يتراءى له التعويض عن تمثيل الكيانات بتمثيل كيان أحادي يعبّر عنه حكم الرئيس والفصائل المسلّحة وحكومتها الانتقالية، وفرض قبول الرعايا بأنّ الأمر لولي الأمر وعليهم الولاء والطاعة.
لا تأسيس بغير جمعية تأسيسية
حكم المنتصر أمر واقع يحظى بفترة سماح تقصُر في بلد خرِب مدمّر ولا تطول. فالحكم نفسه يزرع القنابل الموقوتة مزهوّاً بانتصاره متوهّماً تمكين سلطة الأمر الواقع من العبث بتاريخ منطقة حضارية وتضحيات شعوب روت أرضها طوال وجودها بالعرق والدماء.
الانتماءات الطائفية والعرقية والإثنية... هي ثمرة حضارة الرقي والتفاعل والتسامح في منطقتنا وبلاد الشام، ولم يلغها أكثر الحكّام تسلّطاً مرّ على تاريخها، على الرغم من القمع في بعض الأحايين كشعار اليوم أن "الشعب السوري واحد"، الذي يعني إلغاء التعددية السورية والشامية وتنصيب "طائفة منصورة" على حطامها.
ولا يمكن تخفيف غلواء الجماعات الطائفية والعرقية وتشذيب عصبياتها، أو الحيلولة من استغلالها في الفتَن الداخلية وفي المشاريع الإسرائيلية والغربية، سوى بتأسيس دولة حيادية تجاه الجماعات الدينية والعرقية، تتكفّل بتنظيم حرياتها في المجتمع وضمان حقوقها الروحية في ممارسة شعائرها ومعتقداتها... كما تضمن الحريات الشخصية للأفراد وحرية التعبير والتنظيم... وهو ما حفظه تاريخنا العربي ـــــ الإسلامي على مرّ العصور قبل نهوض أوروبا وظهور شرعة حقوق الإنسان.
تاريخ سوريا ومجتمعها لا يقتصر على تاريخ رأس الهرم وسلطة الحكم في أيّ مرحلة من المراحل كما تختصره الإدارة الجديدة على قراءتها المحدودة لتاريخ بلاد الشام، وعلى ما تراه اليوم "نظام الرئيس المخلوع" بهدف أبلسَة المؤسسات والإنجازات التي بذل الشعب السوري الغالي والنفيس في بنائها.
الدولة السورية البعيدة عن الأجهزة الأمنية والاستخبارية السابقة، تفيض بطاقات المؤسسات المدنية والاجتماعية والتجارب الغنية بالدروس التي لا يمكن تجاوزها نحو أيّ حلم بإعادة تأسيس الدولة، أو حتى توفير الاستقرار الداخلي واستعادة دورة الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
وعلى سبيل المثال ما ألقاه الوافدون السوريون من بلاد الفرنجة عن تدرّجهم في أرقام معدلات النمو، على مسامع "مؤتمر الحوار"، ضحل المعرفة العملية بالمقارنة مع معارف وخبرة "كوادر" اتحاد الغرف الزراعية أو اتحاد الغرف الصناعية والتجارية... فهؤلاء المخضرمون هم الأكثر كفاءة والأكثر حرصاً على المصالح العامة من "التكنوقراط" الوافدين، ومن "خبراء وكفاءات" شركات الاستثمار الأجنبية التي تسنّ أسنانها لنهب ثروات الأراضي الزراعية والنفط والغاز والمعادن والخدمات العامّة...
ولا مناص من "جمعية تأسيسية" تمثّل القوى الاجتماعية والتيارات السياسية المتباينة، وتدلّ على المصالحة الوطنية إلى جانب العدالة الانتقالية. فحصر كلّ السلطات بشخص رئاسة الجمهورية واضطلاعه بتعيين مجلس الشعب واللجنة الدستورية والسلطة التنفيذية والأمنية... حقل واسع لاستمرار اضطراب الأمن الاجتماعي والسياسي، ومدخل تهميش مشاركة المجتمع لتأسيس الدولة في سياسات وطنية داخلية وخارجية.
المخاطر الوجودية التي تهدّد سوريا هي أزمات داخلية، لكنها أساساً تحديات نكبة جديدة أقسى من نكبة عام 48 وهزيمة 67 أمام غزو المصالح الأميركية ـــــ الغربية ــــ الإسرائيلية للسيطرة واستعباد المنطقة وفي مقدّمتها بلاد الشام. ولا تنجح إعادة تأسيس الدولة السورية بمعزل عن استراتيجية جيوسياسية بمواجهة استراتيجيات التفتيت والاحتلال والسحل في المنطقة.
نحو أفق عربي ــ إسلامي آخر، يشمل مسؤولية سوريا الجديدة سلطة ومجتمعاً، العمل على طيّ صفحة الصراع البيني مع إيران ومحور المقاومة لتوحيد الجهود الإقليمية بمشاركة تركيا والدول العربية. وفي هذا المنحى تتحمّل سوريا الجديدة مسؤولية التكامل مع لبنان كما يتحمّل لبنان الجديد وشعبه ومقاومته مسؤولية التكامل مع سوريا. ومَن يتجشّم بلوغ الأفق يعش أبد الدهر بين الحفَر.