عقوبات "قيصر".. إدانة جماعية لمجتمع بكامله!

"العقوبة" تحوّلت إلى إدانة جماعية لمجتمع بكامله، إذ استُخدمت الأدوات الاقتصادية كوسيلة ضغط سياسية غير دقيقة الأثر، فتركت بصمتها القاسية على الغذاء والدواء والطاقة والتعليم، أي على مقومات البقاء نفسها.

0:00
  • سوريا.. اقتصاد على ضوء الشموع!
    سوريا.. اقتصاد على ضوء الشموع!

منذ سقوط النظام السابق، والجهود السورية، الرسمية وغير الرسمية، التي تبذل لوقف مفعول قانون "قيصر" تستند في مبرراتها إلى تأثير العقوبات في حياة السوريين، وكأن هذه التأثيرات لم تكن موجودة أو ملموسة سابقاً.

دفع السوريون ثمناً باهظاً نتيجة تطبيق قانون "قيصر"، حقيقة تجاهلها كثيرون ممن لعبوا أدواراً مباشرة في الدفع بهذا التشريع داخل أروقة السياسة الأميركية، والمطالبة بتشديده كلما اقتضت الحسابات السياسية ذلك قبل سقوط النظام السابق. والمفارقة أن بعض هؤلاء أنفسهم يتحدثون اليوم عن قرب إلغائه، بوصفه "خطوة كبيرة نحو إنهاء سنوات من العقوبات التي أضرّت بالمواطنين، وأبطأت تعافي الاقتصاد السوري".

ومع اتضاح طبيعة التفاهمات الدولية التي مهّدت لسقوط النظام، يتأكد أن القانون لم يحقق أهدافه السياسية المعلنة، ولم يُحدث الأثر المطلوب في بنية السلطة السابقة، بل انصبّ تأثيره الأكبر على حياة الناس ومعيشتهم. وحتى إذا بقي مطبقاً في المرحلة المقبلة، فإن آثاره ستبقى متركزة على الفئات الهشة والأضعف في المجتمع، فيما يعيش معظم السوريين اليوم سباقاً يومياً لتأمين أساسيات البقاء، وسط تقديرات أممية تؤكد استمرار ارتفاع أعداد المحتاجين إلى المساعدة، رغم التغير السياسي.

مؤشرات الخسارة

ليس من الدقة تحميل قانون "قيصر" وحده مسؤولية الانهيار الاقتصادي، إذ تداخلت معه عوامل أخرى مثل الفساد، اقتصاد الحرب، وسوء الإدارة. إلا أن هذا القانون يبقى العامل الأكثر تأثيراً في تعميق الأزمة، فهو الذي أدى عملياً إلى انهيار سعر الصرف وارتفاع معدلات التضخم، وأسهم في تمدد شبكات التهريب والأنشطة غير المشروعة، مانحاً أثرياء الحرب فرصة أكبر للسيطرة على الموارد.

ووفقاً للبيانات الأخيرة للبنك الدولي وتقارير المنظمات الأممية، فإن الفترة التي خضع فيها الاقتصاد السوري لـ"قيصر" كانت من أكثر المراحل قسوة من حيث الضغوط المعيشية التي فاقت قدرة المواطنين على الاحتمال. كان السوريون يقارنون يومياً بين أسعار السلع الأساسية وقيمة أجورهم المقومة بالدولار، فيجدون الفجوة تتسع على نحو غير مسبوق. وفي المقابل، تجاهل مؤيدو العقوبات طوال السنوات الماضية هذه المؤشرات التي كانت تصدر عن الأمم المتحدة نفسها، والتي أظهرت أن نصف الأسر السورية تقريباً باتت تعاني من انعدام في أمنها الغذائي أثناء تطبيق القانون، بعدما لم تتجاوز النسبة 29% عام 2019.

توضح المقارنات الرقمية حجم التدهور. فقد تراجع متوسط سعر صرف الليرة من نحو 514 ليرة للدولار في نهاية 2019 إلى نحو 14 ألف ليرة نهاية 2024، ما تسبب، إلى جانب عوامل أخرى، في ارتفاع متوسط معدل التضخم من نحو 31% خلال الفترة بين 2011 و2019 إلى ما يقارب 97% بين عامي 2020 و2024.

وتكشف بيانات الأمم المتحدة أن نسبة الأسر التي تعاني من انعدام متوسط في أمنها الغذائي ارتفعت من 28.9% عام 2019 إلى 45.4% عام 2023، أي أن نحو نصف سكان البلاد وجدوا أنفسهم عاجزين عن تأمين غذائهم الكافي. وفي بيان حديث، قدّرت الأمم المتحدة عدد السوريين المحتاجين إلى المساعدة بنحو 16.5 مليون شخص، في حين تشير الإحصاءات الحكومية إلى أن معدل الفقر الشديد قفز من 38.9% في عام 2019 إلى 58.1% في عام 2022.

اقتصاد على ضوء الشموع

بعيداً من لغة الأرقام، لمس السوريون آثار القانون في تفاصيل حياتهم اليومية. فمنذ عام 2020 دخلت البلاد فيما يشبه "عتمة الليالي"، إذ انخفضت ساعات التغذية الكهربائية إلى أدنى مستوياتها. صحيح أن الكهرباء لم تكن مستقرة من قبل، لكن في سنوات ما قبل العام 2019 كانت هناك فترات تتحسن فيها الخدمة نسبياً، حتى أنها في بعض المناسبات والأعياد الدينية كانت تستمر يومين أو ثلاثة من دون انقطاع في المدن الكبرى. هذا يعني أن البنية التحتية كانت قادرة على الإنتاج حين يتوفر الوقود وقطع الغيار، لكن العقوبات حالت دون ذلك. فقد منع القانون توريد قطع التبديل لمحطات التوليد، وقيّد عمليات الصيانة، كما عرقل تطوير واستثمار حقول الغاز قيد الإنتاج أو التنقيب، ما أدى إلى تراجع حاد في إنتاج الطاقة وانهيار المنظومة الكهربائية. ومع الوقت، تحوّلت "العتمة" إلى حالة دائمة ألقت بظلالها على القطاعات الصناعية والزراعية والخدمية كافة.

الأمر لم يتوقف عند الكهرباء. فالقيود التي فرضها "قيصر" على التحويلات والتمويل والتوريد طالت المواد الغذائية والأدوية والمستلزمات الطبية، إذ عانت المستشفيات الخاصة في تأمين تجهيزاتها، وكانت تضطر إلى استيرادها عبر دول وسيطة، ما ضاعف التكاليف والزمن. أما المستشفيات الحكومية ففقدت قدرتها على توفير الحد الأدنى من الخدمة العلاجية للفقراء وأصحاب الدخل المحدود، ليصبح المرض نفسه عبئاً إضافياً على السوريين في زمن العقوبات.

من العقوبة إلى الإدانة

عندما تم الدفع بقانون "قيصر" داخل الكونغرس الأميركي، كان التبرير المعلن "حماية المدنيين السوريين من انتهاكات النظام". لكن التطبيق العملي كشف أن المدنيين هم أول وأكثر من تضرر. فبدلاً من إضعاف شبكات السلطة، ولّد القانون اقتصاداً موازياً انتعش فيه تجار الأزمات، وتراجعت قدرة المؤسسات المحلية على إدارة الشأن العام.

والنتيجة أن "العقوبة" تحوّلت إلى إدانة جماعية لمجتمع بكامله، إذ استُخدمت الأدوات الاقتصادية كوسيلة ضغط سياسية غير دقيقة الأثر، فتركت بصمتها القاسية على الغذاء والدواء والطاقة والتعليم، أي على مقومات البقاء نفسها.

لم يكن الأمر دائماً سوء تقدير من صانعي القرار في واشنطن، بل قناعة لدى بعض الداعمين بأن المجتمع المقيم داخل سوريا يشكل "بيئة حاضنة للنظام"، وبالتالي لا بأس أن يدفع الثمن ما دام الهدف النهائي سياسياً. هكذا، غُيّبت الحسابات الإنسانية لحساب الرغبة في تحقيق نصر سياسي لم يتحقق. واليوم، بعد سقوط النظام السابق، يتحدث بعض ممن صاغوا هذا القانون عن ضرورة رفعه "إنصافاً للشعب السوري"، في مفارقة تعكس فشل المقاربة الغربية في استخدام الأدوات الاقتصادية لتحقيق تغيير سياسي حقيقي.