لماذا تتعهّد إثيوبيا بتدفّق المياه لمصر والسودان؟

لماذا أبدت إثيوبيا على لسان رئيس وزرائها التعهّد بإمداد مصر والسودان بالمياه اللازمة الضامنة لعدم حدوث شُحّ؟؛ وهل هذا التعهّد كافٍ لإذابة الجليد وإزالة أاسباب التوتر واحتوائها في العلاقة بين إثيوبيا ومصر.

0:00
  • تقف منطقة القرن الأفريقي على حافة العديد من الأزمات والتوترات.
    تقف منطقة القرن الأفريقي على حافة العديد من الأزمات والتوترات.

تقف منطقة القرن الأفريقي على حافة العديد من الأزمات والتوترات والتحالفات والاضطرابات بفعل العوامل الداخلية والاستقطابات الخارجية، ويُعدّ سدّ النهضة واحداً من أهم المتغيّرات التي تكاد تعصف بعلاقات دول المنطقة وتأخذها باتجاه الصراع المفضي للحرب.

منذ أن قرّرت إثيوبيا بناء سدّ النهضة وشرعت في ذلك؛ والخلافات حول مياه النيل هي المحدّد الأبرز للعلاقة بين كلّ من إثيوبيا ومصر، تقترب من التوافق تارة وتنحى نحو الصدام تارة أخرى؛ حتى باتت منطقة القرن الأفريقي مرهونة بتفاصيل كل ما يحدث في سدّ النهضة من البناء والسدود والمياه المتدفّقة وانتهاء بملء السدّ. 

في تطوّر ملفت وغير مسبوق يتعلّق ويتقاطع بحدوث تحوّلات في حيثيات سدّ النهضة وتحديداً الموقف الإثيوبي؛ تعهَّد رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، في 31 تشرين الأول/أكتوبر 2024؛ أمام مجلس نواب الشعب، في كلمة له، بأن "إثيوبيا ستعزّز تدفّقات مياه النيل إلى السودان ومصر، في حال حدوث شُحٍّ في إمدادات المياه من جراء سدّ النهضة".

واعتبر أحمد، في تصريحات نقلتها هيئة البث الإثيوبية الرسمية، أنّ سدّ النهضة يمثّل فرصة مهمة لكلّ من السودان ومصر، مبدياً من وجهة نظره ثقته في عدم وجود أي مشكلات تتعلق بدولتَي المصبّ، وأكد رئيس الوزراء أن إثيوبيا "لن تسمح بأيّ تهديد لسيادتها".

إن كان التعهّد مهماً ويُعدّ تحوّلاً مطمئناً أو مقدمة لبادرة حسن نوايا إثيوبية إلا أنه كان مفخّخاً ولا يخلو من المناورة أيضاً، وذلك أنّ التعهّد جاء بالتزامن ومع سياق الحديث عن اكتمال بناء السدّ بنسبة 100%، وحجز كمية مياه كافية؛ هذا من جهة ومن جهة أخرى فإنه تعهّد مشروط؛ والشرط هنا مرهون هو الآخر بالتقدير الإثيوبي؛ إذ إن أحمد اشترط في التعهّد "حال حدوث شحّ في إمدادات المياه من جراء سدّ النهضة"؛ وقد يكون تعريف الشُحّ في تقديرات إثيوبيا مختلفاً عنه في عُرف وتقدير كلّ من مصر والسودان. 

أمر آخر أن تمرير التعهّد بإمداد المياه لمصر والسودان لم يخلُ من تمرير رسالة التلويح بالتصعيد في قول آبي أحمد بأن إثيوبيا "لن تسمح بأيّ تهديد لسيادتها". وكلا الموقفين ـــــ الإمداد والتهديد ـــــ متناقضان. وما بين هذا وذاك أن التعهّد تزامن مع بدء تنفيذ اتفاقية عنتيبي التي ترفضها كلّ من مصر والسودان. وبالتالي فإنّ جزءاً من دوافع الموقف الإثيوبي هو تبريد الإجواء المشحونة فقط.

والسؤال لماذا أبدت إثيوبيا على لسان رئيس وزرائها التعهّد بإمداد مصر والسودان بالمياه اللازمة والكافية الضامنة لعدم حدوث شُحّ؟؛ وهل هذا التعهّد كافٍ لإذابة الجليد وإزالة أاسباب التوتر واحتوائها في العلاقة بين إثيوبيا ومصر، ولا سيما أن إمداد المياه المُعلن هو قرار إثيوبي ولا تنظّمه أو تحكمه أيّ اتفاقيات أو التزامات دولية وقانونية. 

تزامن التعهّد الإثيوبي بإمداد المياه مع جملة متغيّرات وتطوّرات ومواقف وتحرّكات أفريقية وإقليمية كلّها تفسّر أسباب تحوّل الموقف الإثيوبي، وتخلص إلى نتيجة أنّ الأمر إما تحوّل حقيقي أم مجرّد مناورة إثيوبية تهدف وتستهدف امتصاص التوتر والتصعيد الحاصل. وكيف استقبلت مصر الموقف الإثيوبي ومرّرته.

تعهّد إثيوبيا لا يحلّ مشكلة سدّ النهضة ولا يقرّب وجهات النظر وهو أقلّ من مجرّد مناورة؛ وهو تعهّد لفظي لا قانونية له ولا ضمانات دولية، وهو محاولة هروب إاثيوبية للأمام. وتزامن مع زيارة وزير الخارجية المصري، بدر عبد العاطي، لأوغندا، مطلع تشرين الثاني/نوفمبر 2024؛ وذلك ضمن التحرّكات المتصاعدة للقاهرة عقب دخول اتفاقية عنتيبي في 13 تشرين الأول/أكتوبر 2024، التي ترفضها كلّ من مصر والسودان، حيّز التنفيذ. 

وبالتالي فإنّ الموقف الإثيوبي هو محاولة احتواء التمدّد المصري نتيجة سوء التقدير الإثيوبي الممتد على مدار أكثر من عقد، والذي يتجاهل حصة مصر المائية والتوصّل معها إلى اتفاق؛ الأمر الذي أفضى إلى تحرّك مصري نشط وغير مسبوق في أفريقيا وهو ما يهدّد تمدّد إثيوبيا ودورها، ويصل حدّ محاصرتها ومواجهتها إذا لزم الأمر، والتلويح بذلك في التعاون العسكري مع الصومال نموذجاً.

تعهّد إثيوبيا المشروط بإمداد مصر والسودان بالمياه حال حدوث شُحّ، لا يعدو كونه مجرّد تصريح سياسي جاء بعد 13 عاماً من المفاوضات التي انتهت بصفر اتفاق؛ وبالتالي  حتى يكون تعهّد إثيوبيا حقيقياً وموضوعياً وينجح في استرضاء مصر والسودان واحتواء التصعيد والتوتر، فإنه يقتضي أن يتحوّل إلى موقف قانوني واتفاق دولي ملزم يُحوّل التصريحات إلى واقع ملموس. لأن القضايا المصيرية عموماً وإذا تعلّقت بالمياه بوجه خاص لا تُنظّم ولا تنتظم بناء على التصريحات والتعهّدات الشفهية. 

إذا كان تقدير إثيوبيا أنه لا عائد من التصعيد وتوتر العلاقات مع مصر؛ فما المانع من الذهاب إلى اتفاق يحفظ حقّ إثيوبيا في التنمية والاستفادة من سد النهضة؛ ومن جهة أخرى حق مصر في الحصول على المياه من نهر النيل.

إن تفسير تعهّدات إثيوبيا هو محاولة التفاف على الحراك المصري الذي بات يسحب البساط من تحت قدميها في منطقة القرن الأفريقي؛ ومع دول حوض النيل، وبالتالي هذا التعهّد هو محاولة امتصاص تُغلّب القوة الناعمة على التجاهل والتغافل عن حقوق مصر المائية؛ ومحاولة لتأخير التصعيد المُفضي للتصادم. ولا سيما أن هناك عدة تعهّدات إثيوبية سابقة كلّها تتعلّق بسدّ النهضة وحصة مصر المائية.

ففي 1تموز/يوليو 2017، تعهّدت إثيوبيا لمصر التزامها باتفاق إعلان المبادئ الثلاثي الموقّع بين مصر والسودان وإثيوبيا، والتعاون من أجل استكمال المسار الفني الثلاثي بشأن بناء سد النهضة الإثيوبي والانتهاء من الدراسات الخاصة به في موعدها. ومنذ ذلك الحين جرت في الواد مياه كثيرة لم تصل أيّ منها لاتفاق وانفردت إثيوبيا بملء سدّ النهضة 4 مرات متتالية.

إن الحراك الدبلوماسي المصري النشط مؤخّراً والمستند على التعاون والتنمية في الصومال وأوغندا وأرتيريا والسودان وعموم منطقة القرن الأفريقي؛ وجدية القاهرة في استعادة دورها في أفريقيا؛ وتكتيكات محاصرة التمدّد الإثيوبي؛ وعودة الحديث المصري الرسمي والجاد والمحمّل بالرسائل لإثارة واستحضار قضية سد النهضة داخلياً وخارجياً؛ والتي عبّرت عنها تصريحات كلّ من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، ورئيس مجلس النواب المصري حنفي جبالي؛ أمام البرلمان المصري في 3 تشرين الأول/أكتوبر 2024، التي انتقد فيها إثيوبيا لأنها "أفشلت كلّ المساعي المبذولة لحلّ الأزمة"، مؤكداً أن مجلس النواب "يرفض السياسات الأحادية الإثيوبية المخالفة لقواعد القانون الدولي"، وتأكيده أن "مصر لن تتهاون مع أيّ مساس بأمنها المائي أو أيّ تهديد لمقدّرات الشعب المصري الذي يمثّل نهر النيل شريان الحياة الأوحد له". 

ومن قبل جدّدت مصر في 1 أيلول/سبتمبر 2024، شكواها الرسمية ضد أثيوبيا في مجلس الأمن الدولي، ووجّه وزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي، خطاباً إلى رئيس مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وشدّد الخطاب على "رفض مصر القاطع للسياسات الأحادية الإثيوبية المخالفة لقواعد ومبادئ القانون الدولي"، والتي عدّ أنها " تُشكّل خرقاً صريحاً لاتفاق (إعلان المبادئ) الموقّع بين مصر والسودان وإثيوبيا في عام 2015، والبيان الرئاسي لمجلس الأمن الصادر في 15 أيلول/سبتمبر 2021". 

وأكد عبد العاطي أنه "مخطئ من يتوهّم أن مصر ستغضّ الطرف أو تتسامح مع تهديد وجودي لبقائها". وقد ردّت إثيوبيا في 9 أيلول/سبتمبر 2024، على رسالة مصر في مجلس الأمن وحدث ما يشبه التراشق بالرسائل بين الطرفين. واتهمت إثيوبيا مصر بأنها "مهتمة فقط بإدامة احتكارها المزعوم لنهر النيل".

واعتبرت إثيوبيا في رسالتها "أن تمسّك مصر بحصتها التاريخية من مياه النيل هو تمسّك بصفقات الحقبة الاستعمارية وعدم القبول بأي نتيجة مغايرة".

وبالتالي فإن موقف إثيوبيا وتعهّدها الشفهي بتدفّق مياه النيل إلى مصر والسودان هو محاولة القفز وتجاوز استحقاقات قانونية ودولية تتعلق بالحصة المائية لكلا البلدين.

ومحاولة التفاف على الاستدارة المصرية الحاصلة مؤخراً في أفريقيا واحتوائها، وهو موقف لا يكفي ولا يمنع التدحرج صوب التوتر في منطقة تقف على حافة التصعيد صوب متغيّر يتعلّق بالحقّ في المياه. وهو متغيّر كافٍ لتفجير المواجهة وحتميتها في أي لحظة.