التظاهرات في ليبيا هل تُسقط حكومة الدبيبة؟
نجاح التظاهرات التي شهدتها طرابلس مرتبط بطبيعة المطالب السياسية التي تتبناها، وأهمها إنهاء الانسداد السياسي وتبني مطالب جمعية يجمع عليها الشعب الليبي.
-
هل ينجح الحراك السياسي الذي شهدته طرابلس في إسقاط حكومة الدبيبة؟
كشف مقتل عبد الغني الككلي "غنيوة" رئيس جهاز دعم الاستقرار في 6 أيار/مايو 2025 هشاشة الوضع السياسي والأمني والانقسامات العميقة وهشاشة التحالفات في ليبيا، وانتقل المشهد السياسي الليبي من الجمود الثابت إلى الحراك المُقلق الذي عبرت عنه التظاهرات الشعبية التي خرجت في طرابلس.
وبدا الملمح الأبرز في ذلك انفجار الغضب الشعبي وتهاوي التحالفات، فبدا اغتيال الككلي بمنزلة الصاعق الذي فجر مكنون التراكمات والإخفاقات السياسية والاقتصادية على مدار سنوات في ليبيا، الأمر الذي يُعد نقطة تحول فاصلة في مستقبل المشهد الليبي، لا لإنهاء التحالفات وكشف هشاشة السلطات السياسية، ولكن لتبلور حراك شعبي سياسي رافض للأمر الواقع ويُريد تغييره وتبديله ويُطالب علناً برحيل حكومة الدبيبة وإسقاطها.
والسؤال: هل ينجح الحراك السياسي والغضب الشعبي الذي شهدته طرابلس على مدار 3 جُمع متتالية في إسقاط حكومة الدبيبة أم سيحدث التفاف على هذا الحراك؟ وما أسباب الغضب الشعبي وأبرز مطالبه؟ وما دلالاته وتبعاته على عموم المشهد السياسي الليبي ومستقبله؟
تولى الدبيبة رئاسة حكومة الوحدة الوطنية في آذار/مارس 2021 برعاية أممية كمرحلة انتقالية كان يُفترض أن تُفضي إلى انتخابات في كانون الأول/ديسمبر 2021، لكن هذا لم يحدث وأُلغيت الانتخابات، وانقسمت المكونات السياسية وتقاسمت المشهد الليبي وتحالف بعضها مع بعض ودخل بعضها الآخر في خصومات، وبقي المشهد مُعلقاً على مشانق الخلافات الداخلية والمقترحات الأممية والحسابات الإقليمية والدولية.
استفاد الدبيبة من ذلك كله، ومكّن أركان حكومته. وبدلاً من أن تكون حكومة مرحلة انتقالية بدت كحكومة أمر واقع، واستطاع الرجل إحكام قبضته على طرابلس، ووظف مخاوف بعض الأطراف السياسية لمصلحته. والمفارقة أن الدبيبة لم يستمد شرعيته من انتخابات، ولا مشروعيته من إنجازات سياسية واقتصادية واجتماعية واقتصادية ملموسة للمواطن الليبي، ولكنه اعتمد على محددين؛ الأول: الاستقواء بالتحالفات، وهذا المحدد تهاوى وانتهى بعد مقتل الككلي، والمحدد الآخر: ضعف الخصوم السياسيين للدبيبة وتشتتهم. واستقر له الأمر حتى نسفته التظاهرات التي خرجت في طرابلس، والتي طالبت برحيل حكومته، والأهم أن مطالبها وشعاراتها هذه المرة بدت مختلفة، وبدت آتية من بعيد؛ من عمق الأزمة السياسية المُزمنة، ولم تكن حالة سياسية طارئة.
بدا سقف التظاهرات ومطالبها مرتفع، وكانت تُطالب بإسقاط حكومة الدبيبة التي وصفتها بحكومة التطبيع، ودانت الفساد والمحسوبية وغياب الأفق السياسي، ما يعني أن الأمر محمل بالأبعاد السياسية، وأن التظاهرات تعكس وعياً سياسياً شعبياً بات يتشكل، ولديه مطالب، ويريد أن يكون شريكاً في المشهد بعدما تم استبعاده طوال السنوات الماضية.
وضعت التظاهرات التي شهدتها العاصمة طرابلس، والتي تمددت وتكررت، وبدت تالياً أكثر تنظيماً وأكثر انضباطاً وأكثر سلمية، مستقبل حكومة الدبيبة على المحك، واستمرار تلك التظاهرات يعني تصاعد الغضب الشعبي، ووصول الشارع الليبي إلى قناعة بضرورة حدوث التغيير، وأن الوقت قد بدأ ينفد، وهو ما يعني أن تلك التظاهرات قد تتدحرج وتتمدد حتى تصبح ضد جميع المكونات السياسية والعسكرية، ولا تقتصر على حكومة الدبيبة. وقد حدث في الجمعة الثالثة "جمعة الخلاص" أن طالب المتظاهرون بإسقاط الأجسام الرسمية، ومجلس النواب، والمجلس الأعلى للدولة، والمجلس الرئاسي.
وقال المتظاهرون: "مستمرون في تظاهرنا حتى إسقاط الحكومة وتشكيل أخرى جديدة، ولا بد من تشكيل حكومة جديدة، يكون أول قرار لها تحديد موعد للانتخابات البرلمانية والرئاسية من أجل اعتماد القاعدة الشعبية أساساً لها". وبالتالي، فإننا أمام مطالب سياسية واضحة ومحددة، ولسنا أمام تظاهرة مؤقتة قد تنتهي عند لحظة معينة.
ككل الحكومات العربية والعقليات السياسية التقليدية، لم تتعلم حكومة الدبيبة من الدرس الليبي، ولا من الدروس العربية المجاورة. ظنت وكان تقديرها أن تلك التظاهرات يُمكن إفشالها وإنهاؤها، وأخطأت في موضعين لا يجوز فيهما الخطأ.
خطأ الموضع الأول أنها تجاهلت تلك التظاهرات، ولم تلتقطها، وأنها تتعاطى معها وتحاورها وتحاول النزول عن الشجرة. أما خطأ الموضع الثاني، فهو أنها بدلاً من تهدئة الأوضاع وامتصاص الغضب لوحت بالقوة العسكرية واستدعت قوات أمنية إضافية من مصراتة والزنتان. وعندما حاول عدد من المتظاهرين اقتحام مقر رئاسة الوزراء، قوبلوا بالرصاص الحي. وفي محاولة للقفز من السفينة قبل غرقها، قدم وزراء مقربون من قوة الردع استقالتهم من الحكومة، لكن لم تتبع ذلك استقالات أخرى.
قمع المحتجين شكّل تحولاً في الأحداث، وزاد من تأجيج التوتر، وأتاح للدبيبة تصوير الأمر كأنه مؤامرة، لتبدأ معركة سرديّات جديدة. هذا التغول وذلك العنف أديا إلى نتائج عكسية وزادا من تأجيج التوتر. حاول الدبيبة تصوير ذلك وتمريره كأنه مؤامرة، ولكن التجارب أثبتت أن الشارع لا يُردع، والتظاهرات عندما تخرج تكون بحاجة إلى إجابات لا استعراض قوة.
مستقبل التظاهرات في طرابلس ونجاح تحقيق مطالبها وإسقاط حكومة الدبيبة أو تغيير حيثيات المشهد السياسي ومكوناته محكوم بعدة محددات، أولها وأهمها: أن تبقى تظاهرات شعبية بعيدة عن التوظيف السياسي، يمكن للأحزاب السياسية أن تدعمها، لكن لا أن تُؤمّمها وتحرِفها عن مسارها. مؤشر إعلان انضمام 69 حزبًا سياسياً في ليبيا إلى مطالب المحتجين والمتظاهرين ضد حكومة الدبيبة ليس مؤشراً صحياً للحالة السياسية الليبية، وقد يُجهض التظاهرات، هذا العدد الكبير من الأحزاب يُدلل على حالة الانقسام والتفكك الذي تستفيد منه حكومة الدبيبة.
ذلك أن تلك الأحزاب بواقعها وتحالفاتها وحساباتها هي جزء من المشكلة، ولا يمكن أن تكون جزءاً من الحل السياسي في المشهد الليبي، إلا إذا تعاونت واتفقت وشكلت كتلة سياسية واحدة بدلاً من كونها أكثر من 60 كتلة سياسية غير مؤثرة وغير فاعلة، وانتظرت حتى تحرك الشارع لتلتحق به بدلاً من أن يلتحق بها الناس والشارع.
من التبعات والدلالات التي كشفتها تظاهرات طرابلس، إضافة إلى هشاشة الواقع السياسي، كشفت حسابات البعدين الدولي والإقليمي، فبمجرد خروج التظاهرات تداعت الدول والعواصم والأمم المتحدة ومبعوثيها لمناقشة المشهد السياسي الليبي. وقبل ذلك، كانت الأطراف مُكتفية بالقسمة الاقتصادية والانقسام السياسي، وكانت حكومة الدبيبة مستفيدة من ذلك وتتعايش معه وتُوظفه لمصلحتها.
إن نجاح التظاهرات التي شهدتها طرابلس مرتبط بطبيعة المطالب السياسية التي تتبناها، وأهمها إنهاء الانسداد السياسي وتبني مطالب جمعية يجمع عليها الشعب الليبي، وتضمن إحداث حراك وتحريك والذهاب لانتخابات وتجنب الحلول الالتفافية المؤقتة وضمان ألا يتسلل الانقسام والتوظيف السياسي الحزبي إلى التظاهرات.
نجحت التظاهرات التي شهدتها طرابلس في إنزال الدبيبة عن الشجرة، وفي إحداث صدى سياسي في المشهد الليبي، ملامح ذلك أن الدبيبة، عندما بدأت التظاهرات، تبنى خطاباً انتقائياً مسيساً شبه التظاهرات بالمؤامرة وتجاهل أسباب الأزمة وشرعية المطالبـ وظهر الرجل في موقع الهجوم لا الدفاع.
استمرار التظاهرات في طرابلس للجمعة الثالثة على التوالي أفضى إلى تغير في خطاب الدبيبة. تجلى ذلك في تقديمه يوم 3 حزيران/ يونيو 2025 مبادرة سياسية "منقوصة" للخروج من الأزمة تتضمن هيكلة حكومته. صحيح أن ظاهر المبادرة التفاف على التظاهرات، إذ يستبدل الرجل تغيير الحكومة بما في هو شخصياً إلى عملية تدوير وإعادة هيكلة، لكنها تعني في أحد معانيها أن التظاهرات أحدثت صدى وباتت مُقلقة. وإذا استمرت وأصرت على مطالبها، فهي قادرة على إسقاط حكومة الدبيبة وإعادة تشكيل مجمل المشهد الليبي.
وهي تظاهرات محملة بالرسائل السياسية لكل مكونات المشهد السياسي الليبي وللحسابات الإقليمية والدولية التي تدير المشهد الليبي من خلف ستار.