كيف يمكن إفشال خطط تهجير الشعب الفلسطيني؟
في ظل التكرار الملحّ من ترامب لدعوات التهجير والضم، ومع استغلال اليمين الإسرائيلي الحاكم هذه الدعوة، كيف يمكن مواجهتها، سواء بتجاوزها أو احتوائها؟
-
يقف العالم اليوم كله أمام خطر وجودي يتجاوز القضية الفلسطينية.
يتوعّد الرئيس الأميركي ترامب بتهجير الفلسطينيين من غزة، في وقت يقوم جيش الاحتلال الإسرائيلي بتهجير فعلي لأربعين ألف فلسطيني من مخيماتهم في جنين والفارعة وطولكرم ونور شمس، وهم منذ أسابيع يهيمون على وجوههم في الأحياء والقرى الفلسطينية المجاورة، بعد أن حوّل المحتلون بيوتهم إلى دمار أو خراب.
يقف الشعب الفلسطيني اليوم في منعطف وجودي، أمام تطورات متسارعة على رغم الصفقة المتأرجحة في غزة، وخصوصاً بعد عدم التزام إسرائيل الشقَّ الإنساني من الصفقة، والمتعلق بإدخال معدات الإنقاذ الثقيلة والكرافانات والخيام، إضافةً إلى الأدوات الطبية، الأمر الذي دفع كتائب القسام إلى إعلان تأجيل الإفراج عن ثلاثة أسرى إسرائيليين، السبت المقبل، وهو الإعلان الذي خلط مجمل الأوراق وجعل ترامب ونتنياهو يطيشان نحو تصريحات حادّة ما زالت تتفاعل.
تحدث ترامب بثقة مفرطة عن التزام الأردن ومصر استقبالَ المهجرين من أهل غزة، الأمر الذي وتّر حال هذين النظامين ووضعهما أمام وضع لا يُحسدان عليه، وكانا من أبرز الساهرين على أمن الكيان الإسرائيلي، وما زالا، ليجدا ترامب يتحدث عنهما بصيغة الخاضع المذعن لتصفية القضية الفلسطينية عبر خطة التهجير.
بين دعوات ترامب المتسارعة والمتناقضة إلى السيطرة على غزة وتهجير أهلها، وبين تطورات الضفة الميدانية تحضيراً لضم مجمعاتها الاستيطانية إلى "إسرائيل"، في مقابل الصفقة بين "إسرائيل" وغزة، وهي صفقة تشمل الأسرى والوضع الإنساني والإعمار، تقف المنطقة العربية برمتها والعالم أمام معطيات فارقة، فهل يمكن بالفعل نجاح رؤية ترامب وتنفيذ تصريحاته هذه؟ وأين تذهب عملية تهجير مخيمات الضفة المتسارعة؟ وكيف يمكن التصدي لهذه المؤامرة غير المسبوقة منذ إقامة هذا الكيان على أطلال الشعب الفلسطيني قبل قرابة ثمانية عقود؟
ظهر ملك الأردن ضعيفاً في ضيافة ترامب، الذي فاجأه بإدخال وسائل الإعلام داخل أروقة البيت الأبيض، وطرح قضية التهجير برمتها على الطاولة في العلن، في ظل حضور الملك. ولم يكن عرض هذا الملك مقنعاً عبر المسارعة الفورية إلى استقبال 2000 طفل غزي مريض، لذا احتمى بالموقف العربي الذي سيتبلور في الرد على خطة ترامب، عبر قمة عربية نهاية هذا الشهر، وهو موعد طبيعي غير طارئ. وكذا كانت حال السلطة الفلسطينية، التي سارعت إلى القيام بخطوات ترضية لترامب ونتنياهو، بالهجوم على مخيم جنين، ثم وقف رواتب الشهداء والأسرى، وإحالتها على الشؤون الاجتماعية.
صمد الفلسطيني في أرضه طوال عقود في وجه الوحشية الإسرائيلية المدعومة، أميركياً وغربياً، في ظل تواطؤ أو صمت عربي وإسلامي، إلا ما كان من محور المقاومة بقيادة إيران من إسناد ظلت تأثيراته في حدود تفعيل خيار المقاومة، وأمام المعطى الجديد، سواء بشأن رؤية ترامب المتعلقة بتهجير أهل غزة أو ضم الضفة، يجد العربي نفسه مضطراً إلى مشاركة الفلسطيني في مصيره المحتوم، أو كما قال المثل العربي "مكره أخوك لا بطل".
يجد النظام العربي الرسمي نفسه عاجزاً عن المشاركة الفعلية في استيعاب ملايين الفلسطينيين المهجَّرين قسراً بالترهيب أو قسراً بالترغيب، الأمر الذي يترتب عليه أزمات داخلية واسعة، ليس في وسع هذا النظام احتواء تردداتها وأصدائها، التي لا يعيها ترامب، وربما يعيها نتنياهو، لكنه يستغلها الآن موقتاً للخروج من نتائج هذه الحرب، وهي تهدد مستقبله السياسي.
أمام هذا الواقع وهذه التطورات، وفي ظل التكرار الملحّ من ترامب لدعوات التهجير والضم، ومع استغلال اليمين الإسرائيلي الحاكم هذه الدعوة، كيف يمكن مواجهتها، سواء بتجاوزها أو احتوائها؟
يراهن ترامب على حقيقة معاناة أهل غزة، ويستثمر نتنياهو ذلك كعامل ضغط سياسي لتحقيق أهداف الحرب، وأضاف إليها التعويل النسبي على تهجير نسبة من أهل غزة على الأقل ضمن هذا المعطى، بينما يستبيح جيش الاحتلال الضفة ليُفرغ سكان المخيمات أو نسبة كبيرة منهم عبر إعادة صياغة الواقع الجغرافي لهذه المخيمات، لتصبح أحياء طبيعية من المدن، عبر توسيع شوارعها وتحويلها إلى مربعات سكنية على حساب آلاف البيوت التي يقوم بهدمها أو تخريبها، وهو ما يتيح له ضرب حاضنتَي المقاومة الشعبية والأمنية، وتسهيل سرعة تحرك آلياته الثقيلة في حركتها الهجومية مستقبلاً.
أمام هذه المعاناة في غزة وتسعير الحرب على الضفة، يبدو للوهلة الأولى أن فرصة التهجير مرتفعة وقابلة للتحقيق، في ظل الترغيب الذي يعد به رئيس أكبر دولة في العالم، لكن هناك عوامل فشل قوية في مواجهة عملية التهجير. أهم هذه العوامل:
أولاً: الدولة العميقة في أميركا ربما لا توافق ترامب في توجهاته المتسرعة والمتناقضة، فهناك حسابات أميركية لا تتفق مع طريقة ترامب في التفكير التجاري كصاحب عقارات يشتري ويأخذ ويسيطر، ليس لأن أميركا دولة نزيهة بالتأكيد، فمحسوم أن الإدارة الأميركية كلها ذات عقلية واحدة، منذ تشكلها كدولة على أطلال الهنود الحمر، لكن الحسابات تتباين أميركياً مثلاً في النظر إلى واقع النظام العربي الرسمي المتهالك، وهو ما لا يعيه ولا يأبه به ترامب، وهو يزج بهذا النظام في منعطف قد لا يخرج منه سالماً. وهنا، تأتي حسابات أركان النظام الأميركي بما قد لا يتفق مع تهور ترامب.
ثانياً: العجز الذاتي للنظام العربي، وهو يفتقد الشرعية في الأساس، ويراكم أزماته الداخلية، الأمر الذي يجعلها عرضة للانفجار أمام أدنى منعطف وجودي. ودعوات ترامب تصبّ في عمق الخطر الوجودي على حساب نظام مرتهن الإرادة كالنظام الأردني، على سبيل المثال، وحتى النظام المصري الذي يواجه مخاطر داخلية تتفاقم منذ انقلب على الإخوان المسلمين.
ثالثاً: الضغط العالمي، وخصوصاً الأوروبي والصيني والروسي، وهو الضغط الذي يرفض، في أغلبيته، هذه الدعوات، رفضاً صريحاً، بحيث يقف العالم اليوم أمام انقسام حاد حتى داخل المعسكر الغربي، وربما تجد أوروبا نفسها في مواجهة مباشرة مع ترامب أمام استفحال الخلاف في عدة ملفات، منها أوكرانيا والناتو، وبالتأكيد دعوات تهجير الفلسطينيين.
رابعاً: الحسابات الإسرائيلية الداخلية وتناقضاتها. ففي الوقت الذي تؤيد أغلبية الإسرائيليين تهجير الشعب الفلسطيني، نتيجة أسباب تتعلق بأصل الصراع وأخرى تتصل بالمصالح، فإن معرفة الطيف الحزبي الإسرائيلي، بما فيه قوى يمين الوسط بمضاعفات التهجير، في كل المستويات بما فيها الداخلية، ربما تجعله يعيد حساباته، فلا يندفع عملياً خلف دعوات ترامب تجاه غزة، لكنه سيستغل ذلك للضغط على غزة وتفريغ نسبة كبيرة من سكانها بصورة تلقائية طوعية تحت عناوين العلاج والمرض والسفر.
والأهم، إسرائيلياً، هنا استثمار هذا التطور ليس لتهجير أهل الضفة، وإنما ضم مستوطنات الضفة وإقامة مناطق عازلة بينها وبين المجمعات السكانية الفلسطينية الكبرى، على حساب القرى الفلسطينية الصغيرة النائية، وخصوصاً في مناطق سلفيت وقلقيلية ويعبد وجنوبي الخليل.
وفي كل الأحوال، فإن المحسوم إسرائيلياً، في الحد الأدنى، احتواء المخيمات، سواء بتهجير نسبة من سكانها داخلياً، كما إعادة صياغتها جغرافياً، لكونها تمثل خطراً مُباشِراً يتصل بالأمن وبالذاكرة الجمعية.
خامساً والأهم: موقف الشعب الفلسطيني في غزة والضفة، وخصوصاً صلابة المقاومة الفلسطينية ومعها قوى الإسناد في محور المقاومة. وفي وقت تراهن السلطة الفلسطينية على مراضاة ترامب وتفعيل التنسيق الأمني مع الاحتلال، يبدو موقفها لا يراهن عليه، على رغم أنها الخاسر الأول في الطيف السياسي، في حال وقع التهجير، كما أن وجودها سيزول تلقائياً، لأن خدماتها في إدارة السكان والتنسيق الأمني لن يعود ثمة حاجة إليها، حتى مع رضوخها لقرارات ضم الضفة وقبولها الأمر الواقع كالعادة، في حكم ما تبقى من الضفة.
جرّب الشعب الفلسطيني المنافي، ومَن ثبت منه في أرضه يعلم حقيقة حال من تشرد في العالمين العربي والغربي، وهي حال بائسة في الجملة، من الأردن حتى الخليج وأميركا اللاتينية. فالفلسطيني معذَّب حيثما حل أو ارتحل، وإن نجح البعض في تحسين ظروف معيشته وتعليمه، لكنه عيش يفتقد الأهلية الوطنية، وقد تحول الفلسطيني المنفي إلى مجرد كائن منزوع الهوية، وخصوصاً في الأردن، الذي حوّل الفلسطينيين فيه إلى مواطنين من الدرجة الثانية. أما الدول التي تُعَدّ إقامة الفلسطيني فيها موقتة، ريثما يعود إلى وطنه، مثل لبنان، فعيشته هناك بائسة من كل الجوانب، فلا هو عاد إلى وطنه، ولا هو طوّر حياته الموقتة.
في الخلاصة، فإن المراهنة الرئيسة على إفشال خطط التهجير تتصل بالشعب الفلسطيني وقواه الحيّة، وسائر العوامل هي عوامل ثانوية مساعدة يمكن تحويلها إلى عوامل رئيسة إذا صمد الشعب الفلسطيني، وهذا الصمود يأتي وفق ثلاثة مستويات:
أولها، قلب الطاولة على الجميع، ولعل هذا ما ظهر كمثال أولي في موقف كتائب القسام تجاه الخروقات الإسرائيلية لوقف النار في غزة. وهو موقف مطلوب من المقاومة اللبنانية كذلك، ويمكن تطويره عبر جهود فعّالة تتجاوز الداخل الفلسطيني ضد "إسرائيل"، مع أولويته المؤكدة، لما هو مجمل النضال ضد أميركا على مستوى العالم، الأمر الذي يتطلب مشاركة كل قوى التحرر من الإمبريالية العالمية، وتجاوز الأساليب التي اتبعت في طوفان الأقصى، على أهميتها، نحو أساليب أكثر حدة تجعل العالم في مواجهة تطورات وأزمات متلاحقة تؤثر في الاقتصاد، وخصوصاً النفط والتجارة واستقرار الدول.
ثانيها، تجاوز هذه الدعوات عبر الصمود والتمسك بالأرض، من خلال تعزيز الوعي، دينياً ووطنياً وعشائرياً، والوعي أيضاً بمخاطر المنفى وكذب وعود ترامب الخادعة، ومعه النظام العربي الفاسد، حتى لو سقط البعض وانساق خلف التهجير، عبر الترغيب أو الترهيب.
ثالثها، احتواء هذه الدعوات والتصدي لها على الأرض، حتى لو عبر المنع القسري الداخلي من خلال جيل الشباب المندفع إلى مواجهة الاحتلال، ومحاولة إشغال الإدارة الأميركية ومعها "إسرائيل" بمشاغل وأولويات أخرى ريثما تنجلي المرحلة برمتها.
يقف العالم اليوم كله أمام خطر وجودي يتجاوز القضية الفلسطينية، ويصل إلى الهيمنة الأميركية الإسرائيلية على المنطقة، بصورة كاملة وعلى نحو شامل. ونجاح دعوات التهجير يعني سقوط كل محاولات النهوض والتحرر، ربما إلى الأبد.