كيف دخلت "تل أبيب" و"غوش دان" جبهة النزف؟
تأخر ثأر محور المقاومة انقلب من خلق شعور نسبي بالطمأنينة باعتبار التراخي الزمني، إلى نزف يومي طال أمده، على رغم محاولة ربط مفاوضات الدوحة بتأجيل الرد أو عدمه في حال التوصل إلى اتفاق، وهو ما يبدو أنه محال حتى اللحظة.
واصل نتنياهو عناده ونجح في إبقاء غزة تحت النار منذ السابع من أكتوبر، عندما أمكنه التخلي عن الشمال في قبضة حزب الله، والجنوب في مرمى غزة واليمن والعراق، لأن ما يهم نتنياهو أن يبقى الوسط خارج الحرب، كون "غوش دان"، وقلبها مدينة "تل أبيب"، تمثلان نبض "الدولة" وديمومة شريانها، سياسياً واقتصادياً، كما أن أكثر من أربعة ملايين إسرائيلي يهودي يسكنونهما، ولا يضير نتنياهو أن يبقى الشمال والجنوب في عمق النزف اليومي، ما دام يحلم بالنصر المطلق في غزة، ليقطف بعده جائزة الضفة، حيث عينه في الأساس، على طبق من الأرض المحروقة.
في المقابل، حافظت المقاومة في غزة على إبقاء "تل أبيب" تحت النار طوال الشهور الثلاثة الأولى من الحرب، إدراكاً منها لهذه الخصوصية، لكن أولوية ترشيد الضربات، ثم حاجة القصف بعيد المدى لمساحات أوسع وآليات معقدة، وربما يكون نقص في الذخيرة طرأ، حال دون إبقاء "تل أبيب" في مرمى الصواريخ، وهو ما شجع نتنياهو على إدامة أمد الحرب، لتبقى مستوطنات الشمال والجنوب دروعاً بشرية وعمرانية واقتصادية تدفع فاتورة الحرب، حتى يحقق نتنياهو أهداف حربه المجنونة.
تفاخر نتنياهو، ومعه كامل المستويات السياسية والعسكرية والأمنية في الكيان الإسرائيلي، في نجاح الاغتيالات في بيروت وطهران، وانتشَوا الى حدِّ الثمالة، وخلقوا جوّاً من استعادة هيبة الردع، عبر نظرية الصعقة الخاطفة وأصدائها النفسية، سواء بالترويج في الداخل الإسرائيلي أو حتى عند الجمهورين الفلسطيني والعربي، في محاولة لتجاوز تبعات الضربة اليمنية في قلب "تل أبيب"، وما خلّفته من نتائج خطيرة في استراتيجية نتنياهو. ولم يكن للهجوم الإسرائيلي على الحديدة أدنى أثر في احتواء تردداتها.
ذهبت السكرة وحضرت الفكرة، ونجحت المقاومة، ومعها جبهات الإسناد، في تغيير قواعد استعادة توازن الرعب والردع، وبدأ السحر ينقلب على الساحر خطوة بل خطوات، وإن لم تكتمل في انتظار التوعد الإيراني اللبناني اليمني بالرد على الاغتيالات والهجمات العابرة للخطوط الحمر، في ظل صلابة الموقف السياسي للمحور، ومن قبله المقاومة في فلسطين، عندما وجد الكيان الإسرائيلي نفسه فجأة وقد دخلت "تل أبيب" وغلافها معادلة الاشتباك، في غمرة الأولوية الإسرائيلية لحماية نفسها من جحيم الرد، باعتبار "تل أبيب" عاصمتها الفعلية وبقرتها الحلوب، وقد ضُربت إيران في قلب عاصمتها كما لبنان في قلب مربعه الأمني.
هل بالفعل دخلت "تل أبيب" في جبهة النزف، وكيف حدث ذلك؟
أولاً، طبيعة التوعد الإيراني اللبناني وصلابته وحدّيته، مع أسبقية الفعل اليمني في ضرب "تل أبيب"، وقدرة المحور بالفعل على تنفيذ وعوده، في ظل توافر الحافزية، نفسياً وقانونياً ودولياً، مع ما مثّله اغتيالا بيروت وطهران من اختبار حاسم لما يراد تكريسه من تحقيق نتائج الحرب، أو هكذا يمكن أن يُفهم عبر الفضاءين الإقليمي والدولي، وهو ما أراده نتنياهو من هذه الاغتيالات.
ثانياً، تراجع نظرية الأمن الإسرائيلي منذ الطوفان، من اعتبار أفضل وسيلة للدفاع هي الهجوم، وهو ما اعتاده العرب مع الكيان طوال عقود طويلة، إلى الاختباء الإسرائيلي تحت القبة الحديدية ومقلاع داوود. وحمل معه هذا التحول مضاعفات خطيرة في أولوية حماية الجبهة الداخلية، وخصوصاً في القلب منها في "غوش دان"، ورسّخ هجوم السابع من أكتوبر في العقل الإسرائيلي هاجس الضربات المفاجئة، وتبعاتها الثقيلة على من يقع ضحية فشله مقابلها على المستوى الشخصي في الكيان، وهو ما صار يعطي أولوية إحباط أو احتواء الضرب في قلب الكيان، لتتحول هذه الإجراءات الوقائية إلى كابوس تمثل في إخلاء أربعة مراكز أمنية حساسة في "تل أبيب"، وإلى إطفاء الكهرباء ليلاً في بعض الأيام، وما يتبع ذلك من تعمق للكابوس وارتداداته النفسية، وما ينعكس منه على فعّالية الوسط ونشاطه وشل الحركة اليومية.
ثالثاً، الموقف، إقليمياً وعالمياً، بشأن التوعد الإيراني بالرد، وهو ما أشعل حراكاً سياسياً من جهة، لكن معه جاءت إجراءات الدول بشأن إجلاء رعاياها، وامتناع شركات الطيران عن الرحلات إلى "تل أبيب"، الأمر الذي كرّس "تل أبيب" منطقة خطر ربما تتجاوز الحال في "إيلات" وحيفا.
رابعاً، نجاح القصف الصاروخي المفاجئ من غزة في ضرب عمق "تل أبيب"، في أوج انتظار الرد الإيراني، الأمر الذي جعل المخاطر الأمنية حقيقة واقعة في "تل أبيب" وليس مجموع ظروف ولّدت هاجس الخوف فحسب. وعندما تأتي الصواريخ من غزة من بين الدبابات الإسرائيلية التي تجتاح غزة منذ عشرة أشهر، فهذا يعني فشلاً كاملاً لنظرية الإبادة في غزة. فالدبابة الإسرائيلية المصفّحة لتحمي راكبيها، تعجز عن حماية قلب "الدولة" في أوج القتال، فكيف تكون الحال مع حزب الله وأنصار الله ومقاومة العراق وإيران؟
خامساً، عملية "تل أبيب" الاستشهادية التي تبنتها القسام بالاشتراك مع السرايا، من حيث المكان والزمان، على رغم فشلها اللوجستي، وخصوصاً أن الحديث الإسرائيلي انتقل من كون الفدائي جاء من نابلس، ليقال الآن إن وجهه أوروبي، والأمر يتعلق بالتهديد اللبناني. وفي كل الأحوال، وجدت "تل أبيب" نفسها وسط انفجار هدفه قومي، قُتل فيه حامل العبوة وأصيب إسرائيلي بجروح متوسطة، وهي في أتون ترقب الثأر الإقليمي ليؤزم توترها النفسي.
سادساً، تأخر ثأر محور المقاومة، انقلب من خلق شعور نسبي بالطمأنينة باعتبار التراخي الزمني، إلى نزف يومي طال أمده، على رغم محاولة ربط مفاوضات الدوحة بتأجيل الرد أو عدمه في حال التوصل إلى اتفاق، وهو ما يبدو أنه محال حتى اللحظة، وخصوصاً مع تأكيد المحور أن لا علاقة بين الأمرين، والتأكيد أن الرد قادم لا رجعة فيه وأنه يحمل طابع المفاجأة، الأمر الذي جعل التباعد الزمي عاملاً ضاغطاً إضافياً في إحراج "تل أبيب" ورمزية القوة في مفاصلها.
بالنتيجة، نقلت الإجراءات الإسرائيلية الاحترازية طمأنينة "تل أبيب" وغلافها إلى هستيريا متراخية الزمن، لتتحول كامل جغرافيا الكيان إلى جبهة نزف يومي، وهي الحال التي سبق أن خلقها حزب الله في الشمال، وما زال عليها، مع تكريسها، ليس فقط عبر صواريخه ومسيّراته الانقضاضية، لكن أيضاً عبر اللعب بصواريخ القبة الحديدية الدفاعية، وقد أحالها على أداة هجومية تحقق بعض أهداف ضرباته، ليس فقط من ناحية الهلع وصفّارات الإنذار على نطاق جنوني واسع، وإنما أيضاً لتطال شظايا صواريخ القبة حياة الإسرائيليين أنفسهم ليسقط بسببها القتلى والجرحى، بحسب ما بدأ يعترف به الكيان، الذي نجح في إخفاء مئات القتلى في جبهة الشمال، لخصوصية وحساسية الاعتراف بذلك في قرار الحرب ومضاعفاته غير المحتملة.
صمد الكيان الإسرائيلي في هذه الحرب حتى الآن، عندما تنازل عن بعض ثوابته المتعلقة بحياة أسراه في غزة، وبواقع أمنه في الشمال والجنوب. لكن، هل يمكنه تحمل مزيد من "الصمود" وقد دخلت "تل أبيب" وغلافها قلب النزف، مع ما يمثلانه كمركز لحيوية الكيان وديمومة تفوقه ومنبع قوته؟