قلب يُدفن تسع مرات: الإبادة أمر طبيعي في عيون "إسرائيل"

كيف يمكن لمجتمع بشري، مهما كانت دوافعه السياسية أو مخاوفه الأمنية، أن يفعل هذا... من دون أن يرتجف؟ أي عقول تلك التي تبرر قصف أطفال نائمين؟ وأي قلوب تلك التي لا يزلزلها صراخ أمّ تحت الأنقاض؟

0:00
  • أم. طبيبة. ناجية؟ لا أحد ينجو بعد أن يُدفن قلبه تسع مرات. هذه ليست قصة فردية.
    أم. طبيبة. ناجية؟ لا أحد ينجو بعد أن يُدفن قلبه تسع مرات. هذه ليست قصة فردية.

من بين الركام، كانت تقف بثوب العمل الأبيض الملطّخ بالغبار، لا بالدم. لم تكن هناك حين سقط الصاروخ على بيتها، لكنها كانت الأقرب إلى الجحيم.

كانت تُنقذ أطفالاً لا تعرف أسماءهم في مجمع ناصر الطبي، بينما كانت أسماء أطفالها التسعة تُمحى من السجلات، تُطمر تحت الإسمنت المحطم، بلا وداع، بلا بكاء أخير. اسمها آلاء النجار.

أم. طبيبة. ناجية؟ لا أحد ينجو بعد أن يُدفن قلبه تسع مرات. هذه ليست قصة فردية.

بل هو مشهد متكرر لغزة، التي تُباد قطعة قطعة، إنساناً إنساناً. في غزة، لم يعد الفقد يُقاس بعدد الشهداء فقط، بل بمدى العجز عن الحداد.

كل صباح يحمل مأساة جديدة، وكل ليل يُطفئ ضوء بيت آخر. صار الحزن متراكماً فوق الحزن، حتى لم يعد أحد يملك وقتاً للبكاء. في كل بيت، حكاية موت جديدة، مختلفة التفاصيل، لكن متشابهة النتيجة: الإبادة.

السؤال الذي لا يفارقني، رغم أنني قضيت سنوات أدرس المجتمع الإسرائيلي من الداخل، هو:

كيف يمكن لمجتمع بشري، مهما كانت دوافعه السياسية أو مخاوفه الأمنية، أن يفعل هذا... من دون أن يرتجف؟

أي عقول تلك التي تبرر قصف أطفال نائمين؟ وأي قلوب تلك التي لا يزلزلها صراخ أمّ تحت الأنقاض؟

ما الذي يجعل شعباً بأكمله يمضي في حياته اليومية، بينما يُباد شعبٌ آخر أمامه على يديه؟

هل هي الأيديولوجيا؟ أم الدين؟ أم الخوف؟

أم أن التجريد الكامل للضحية من إنسانيتها قد نجح إلى حدّ لم يترك مجالاً لأي شعور سوى... اللا شيء؟

وردت الإجابة – أو على الأقل تفسير – في مقطع قصير للكاتب الإسرائيلي الشجاع جدعون ليفي، قال فيه إن هناك ثلاثة مبادئ أساسية تمكّن الإسرائيلي من العيش بسلام مع هذا الواقع الوحشي، من دون شعور بالذنب أو التفكك النفسي:

1. "نحن شعب الله المختار" – حين يصبح القتل فريضة دينية

منذ الصغر، يُلقّن الطفل الإسرائيلي أنه مختلف، أنه أعلى منزلة، أنه من نسل مقدّس.

باسم هذه الفكرة، يُعاد إنتاج استعمار قديم بثوب حديث: أرض الميعاد، الخلاص، التطهير.

ليس غريباً إذاً أن نسمع حاخامات يقولون إن قتل الفلسطينيين "مبارك"، وأنه "عمل يتقرب به الإنسان من الله".

القتل هنا ليس جريمة، بل هو تكليف سماوي.

لذا، حين تُسحق عائلة بأكملها تحت الأنقاض، لا تهتز القلوب، بل تطمئن: المهمة تمت.

2. "نحن الضحية الوحيدة" – حين يقتل المظلوم آلاف الأبرياء

الذاكرة الإسرائيلية معلّقة عند الهولوكوست، ومُجمّدة هناك.

لا شيء قبلها، ولا شيء بعدها.

كل فعل تقوم به إسرائيل اليوم هو "ردّ على الماضي"، وكل نقد يُوجَّه لها هو "لا سامية مستترة".

بهذا السرد، يصبح الفلسطيني دائماً المعتدي، حتى لو لم يكن يملك إلا صوته.

ويتحوّل القاتل إلى ضحية لا يمكن مساءلتها.

بهذا المنطق، تُقصف المدارس والمخيمات باسم الدفاع عن النفس.

فما يراه العالم ضحية، تراه "إسرائيل" تهديداً، وما تراه أمّ شهيد "صورة عمرها"، يراه الجندي الإسرائيلي "هدفاً مشروعاً".

3. "الفلسطيني ليس إنساناً" – حين يُمحى الآخر من الخريطة الأخلاقية

هذا هو المبدأ الأخطر، كما قال ليفي.

أن ترى الآخر – الفلسطيني – كائناً أقل من إنسان.

كأنه ليس شبيهاً لك، لا في الألم، ولا في الحب، ولا في الأمل.

لهذا، فإن تدمير المستشفيات، وحرق الأطفال، وقتل العائلات، لا يخلق أزمة ضمير، لأن الضحايا ليسوا "بشراً حقيقيين".

في الإعلام الإسرائيلي، لا ترى الأسماء، بل "أرقاماً" و"مسلحين مشتبهين".

وفي ثقافة "الجيش"، لا يُدرّب الجنود على التمييز بين طفل وراشد، بل بين "خطر" و"خطر أكبر".

60,000 شهيد، وأكثر من 70% منهم نساء وأطفال ومدنيون.

120,000 جريح، بينهم آلاف فقدوا أطرافهم إلى الأبد.

1.5 مليون نازح، هائمون بلا مأوى في أرض صغيرة محاصرة.

تدمير منهجي لأكثر من 70% من بنية غزة: منازل، جامعات، مستشفيات، دور عبادة.

حصار إنساني شامل يمنع الماء والدواء والغذاء.

أوامر بإخلاء غزة جنوباً، ثم قصف الجنوب كما قُصف الشمال.

هذه الممارسات ليست ارتجالاً عسكرياً، بل هندسة سياسية تهدف إلى:

تدمير البنية المجتمعية الفلسطينية.

إجبار السكان على الرحيل القسري (الترانسفير الناعم).

إعادة رسم الواقع الديموغرافي لغزة وفق مشروع استيطاني طويل الأمد.

استثمار المجاعة والدمار لفرض ترتيبات إقليمية جديدة تحت عنوان "حل إنساني"، تُدار فيه غزة من الخارج، وتُدفن فيه القضية إلى الأبد.

في كل بيت في غزة مرارة، وفي كل ركن قبر، وفي كل خيمة قصّة انتظار لجثة أو خبر.

ومع كل هذا، يبقى السؤال معلّقاً في الهواء:

هل هؤلاء الذين يفعلون هذا بنا... ما زالوا بشراً؟

أم أن البشريّة فيهم ذُبحت، كما ذُبحت عائلات بأكملها في غزة، تحت الركام؟

لكنّ الأخطر من هذا السؤال، هو صمت العالم الذي يراقب المجزرة، ثم يعود إلى مداولاته المعتادة.

حين يُمنح القتلة حصانة سياسية، يصبح القتل استراتيجية.

وحين يُنظَر إلى غزة كمشكلة أمنية لا ككارثة إنسانية، تتحوّل الإبادة إلى سياسة غربية مشتركة، لا جريمة إسرائيلية فقط.

في غزة، لم نعد نطلب شيئاً من العالم.

فقد فهمنا أن العدالة لا تأتي من فوق، بل تُنتزع من تحت الأنقاض.

لكننا نكتب، ونشهد، ونُسجل...

لأنه إن متنا اليوم، يجب على التاريخ أن يعرف من قتلنا، ولماذا لم يرتجف.