عملية قدوميم والخيارات الفلسطينية في مواجهة ضم الضفة

خيار ترشيد المقاومة وتفعيل أدائها يمكنه أن يخلط الأوراق، وهنا يأتي مشروع يسرائيل كاتس منذ كان وزيراً لخارجية الاحتلال وقبل أن يصبح وزيراً للحرب، والقاضي بهدم المخيمات وخاصة في شمال الضفة.

  • يعيش الإسرائيليون هاجس تكرار السابع من أكتوبر عبر نافذة الضفة.
    يعيش الإسرائيليون هاجس تكرار السابع من أكتوبر عبر نافذة الضفة.

جاءت العملية الفلسطينية النوعيّة قرب مستوطنة قدوميم المجاورة لقلقيلية، في أحلك لحظات الانقسام الفلسطيني، وهي العملية التي سقط فيها ثمانية من المستوطنين الإسرائيليين بين قتيل وجريح، بينهم ضابط شرطة برتبة لواء وأحد أقارب زعيم في حزب القوة اليهودية بزعامة إيتمار بن غفير، لتضع كلّ عوامل الاحتكاك في الضفة على مصافها الملتهب، في مرحلة تتسارع فيها الخطط الإسرائيلية الصريحة نحو المشروع القديم الجديد لضمّ مستوطنات الضفة الغربية، لتصبح هذه المستوطنات برسم الواقع القانوني المتغلّب مثل "تل أبيب".

سارع الإعلام الإسرائيلي للكشف عمّا تسرّب من المنظومة الأمنية الإسرائيلية، حول هوية منفّذي العملية وأنهم خرجوا من منطقة جنين، وهي المنطقة التي تشهد اشتباكات بين أجهزة أمن السلطة الفلسطينية والمقاومة في مخيم جنين، ما يعيد عقارب الساعة إلى الوراء، ويدفع الإسرائيلي وهو في أوج غطرسته ووحشيّته، ليقف على مسؤولياته الأمنية المباشرة تجاه مستوطنيه وهو يمنّيهم بعصر ترامب الذهبي، فإذا بهم يقفون مجدّداً أمام سؤال الضفة وشمالها المشتعل.

يحرص زعماء المستوطنين مع كلّ عملية فدائية، على توجيه عقارب مفاعيلها وجهة سياسية، وهي الوجهة التي تقضّ مضجع المستويين السياسي والأمني في الكيان الإسرائيلي، لارتداداتها المحلية والإقليمية والدولية، فالاستيطان في الضفة أصبح دولة داخل دولة، وهي دولة أمنية مسلّحة تتنامى مع عمليات تسليح بن غفير العلنيّة، باعتباره وزيراً للأمن القومي وتحت عهدته ميليشيا عسكرية رسمية، حصل عليها مع وزارة الشرطة عند تأليف الحكومة الإسرائيلية الراهنة وفق اتفاقية مزدوجة، يتمّ تفريغ مضامينها في القدس والضفة، وهو الشأن ذاته الذي حصل مع زعيم الصهيونية الدينية سموتريتش، والذي حصل على قسم من وزارة الحرب الإسرائيلية باعتبارها وزارة داخل وزارة، إضافة إلى حقيبة وزارة المالية، بحيث يتولّى رسمياً الإدارة المدنية العسكرية للضفة الغربية.

سبقت السابع من أكتوبر جملة من المساعي الإسرائيلية الرسمية، نحو تعزيز الاستيطان في الضفة، سواء بإضفاء الشرعية القانونية على تسع مستوطنات في الضفة سبق أن تمّ إخلاؤها قبل عدة عقود ضمن قانون رسمي، أو بإلغاء كلّ القوانين التي تحدّ من التوسّع الاستيطاني حيث تمّ تقليصها من ست مراحل لتصبح فقط مرحلتين، إحداهما في جعبة الوزير سموتريتش والثانية إجرائية في اجتماعات الحكومة الروتينية.

وفيما كان الكيان الإسرائيلي تحت وطأة طوفان الأقصى في أسابيعه الأولى، كان سموتريتش يتقدّم لرئيس الحكومة نتنياهو بخطة رسمية، تهدف لإقامة مناطق عازلة حول التجمّعات الاستيطانية في الضفة، ما يعني تهجير مئات القرى الفلسطينية وتوسيع مساحة المستوطنات على حسابها، مع إقامة ميليشيات عسكرية في المستوطنات مدعومة بآليات عسكرية وصواريخ مضادة للدروع.

جاء فوز ترامب في الانتخابات الأميركية، وهو الذي تولّى نقل السفارة الأميركية للقدس بعد طول تأجيل، وأقدم على التوقيع على عدة قوانين تنظّم العلاقة التجارية والقانونية الأميركية مع مستوطنات الضفة باعتبارها تجمّعات سكانية قانونية، وليست مخالفة للقوانين الدولية بما فيها القانون الأميركي الذي يعتبر الضفة الغربية منطقة محتلة، ليمثّل آخر أمنيات اليمين الإسرائيلي المتطرّف.

ينصبّ الانشغال الأميركي الإسرائيلي الراهن على حرب الإبادة في غزة، وخاصة قضية الأسرى الإسرائيليين، مع تحذيرات ترامب بالجحيم إن لم يتمّ حلّ هذه القضية قبل تولّيه منصب الرئاسة في نهايات الشهر الراهن، ولا يخفى أنّ في جعبة ترامب الكثير مما يقدّمه لصديقه نتنياهو، ما يتجاوز قضية الأسرى ربما نحو الملف الإيراني وفي كلّ الأحوال ملف الضفة الاستراتيجي ليس فقط لغلاة الصهيونية الدينية، إنما هو كلّ الطيف الإسرائيلي على اختلاف مشاربه الفكرية والسياسية، ما يجعل جهود أجهزة السلطة الفلسطينية الأمنية وأصل وجودها كلّه في مهبّ رياح المرحلة المقبلة.

ينشغل الفلسطينيون اليوم بحرب الإبادة في غزة والمواجهة المؤسفة في جنين، ويكاد طيفهم السياسي يتفق أن تكلفة عبور السابع من أكتوبر جاءت مرتفعة بشكل فاق كلّ التوقّعات، خاصة مع اتفاق إطلاق النار مع لبنان رغم هشاشته واحتمال خروجه عن السيطرة، والتحوّلات الجذرية في سوريا والتي استثمرتها "إسرائيل" خير استثمار، وفوز ترامب الذي لا يؤمن بحلّ الدولتين وعنده مشروع صفقة القرن، وهو مشروع يتوقّع أن تتمّ محاولة إحياؤه وفق نتائج الحرب على غزة.

يعيش الإسرائيليون هاجس تكرار السابع من أكتوبر عبر نافذة الضفة، بعضهم مسكون بهذا الشعور باعتبار آثار الزلزال والكلّ وسط الحرب حتى الآن رغم تقدّم مفاوضات الدوحة بهذا الخصوص، وبعضهم يحاول استغلال هذا الشعور للانقضاض على الضفة باعتبارها خطراً أمنياً وجودياً يفوق خطر غزة في حال تكرار الهجوم، في تجاهل تامّ أنّ الضفة لا تمتلك الحدّ الأدنى لشنّ هكذا هجوم، وإن كانت جغرافيّتها أكثر تعقيداً من غزة، وهي في شمال الضفة بما فيها جنين مقاومة مكشوفة تنظيمياً وعسكرياً، تبعاً لطبيعة خضوعها للاحتلال المباشر مع اجتياحات متلاحقة على الأرض منذ سنوات متصلة، وهي تتعامل بوسائل بدائية رغم تطوّر بعض عبواتها الناسفة، والأهم أنّ قاعدتها التنظيمية شعبوية علنية، وهي تتكئ على أزقّة المخيمات المكشوفة للطائرات المسيّرة وتكنولوجيا التجسس التي نجحت باغتيال مئات الناشطين فيها.

ضمن الاعتبارات السابقة وطبيعة الواقع المتشكّل خلال الحرب الراهنة، تتقلّص المساحة أمام الفلسطينيين وتكاد الخيارات أن تضيق في وجه مقاومة خيار الضمّ، فالواقع المحلي ضمن واقع غزة رغم عناد مقاومتها وورقة الأسرى الرابحة، وتراجع الواقع الإقليمي لصالح "إسرائيل" رغم صمود حزب الله وعدم عودة مستوطني الشمال حتى الآن، مع عناد اليمن وتصاعد هجماته في عمق "تل أبيب"، وتحسّن المشهد الدولي لصالح "إسرائيل" مع فوز ترامب، رغم العزلة الإسرائيلية شعبياً والمحاكم الدولية التي تلاحق قادة "إسرائيل" وجنودها.

 يجد الفلسطيني نفسه اليوم وحيداً وهو يتحمّل تبعات الوحشية الإسرائيلية، باعتبار أنّ مجموع العوامل المساعدة له داخلياً وإقليمياً ودولياً على أهمّيتها، لم تكفِ لكسر موجة الحرب ولا ارتداداتها، خاصة في ظلّ الشهية الإسرائيلية المتصاعدة نحو ضمّ الضفة، ولعلّ هذه التقديرات دفعت بعض الأطراف لحسم تموضعاتها استباقاً لتولّي ترامب سدّة الرئاسة الأميركية، وهنا يتساءل كثيرون؛ هل انعدمت الخيارات الفلسطينية وتقلّصت ليتمّ اختزالها وفق رؤية ترامب المقبلة؟

رغم واقعية كثير من المخاطر المقبلة على المستقبل السياسي للقضية الفلسطينية، وخاصة آخر معاقلها في الضفة الغربية، ورغم انحسار الخيارات لتبدو وكأنها انعدمت، إلا أنّ واقع الضفة الداخلي يحمل في أحشائه طاقة توليد خيارات الفعل السياسي، ما يجعلها أصعب الأرقام في وجه الخطط الإسرائيلية، ولعلّ خيار ترشيد المقاومة وتفعيلها هو الخيار الأهم بهذا الخصوص، في ظل عقم مشاريع التسوية ووحشية العالم الغربي وجبن العالم العربي إلا من رحم الله.

خيار ترشيد المقاومة وتفعيل أدائها يمكنه أن يخلط الأوراق، وهنا يأتي مشروع يسرائيل كاتس منذ كان وزيراً لخارجية الاحتلال وقبل أن يصبح وزيراً للحرب، والقاضي بهدم المخيمات وخاصة في شمال الضفة، مع دعوات سموتريتش لتحويل جنين مثل جباليا قبل أن تصبح كفار سابا مثل كفار عزة، ما يجعل تفعيل المقاومة بشرط ترشيد أدائها حائط الصدّ الأخير، ولكنه الحائط الذي يمنع انتصار نتنياهو المطلق في غزة والسبع جبهات، كما يمكنه أن يولّد خيارات سياسية تخدم شتى الأفرقاء الفلسطينيين حتى من دون اتحادهم.

الاندفاع الإسرائيلي نحو هدم المخيّمات، رغم ما يحمله من مخاطر مباشرة، إلا أنه وفق النظر البعيد القريب يمكنه أن يجعل من قباطية واليامون وطوباس وعتيل وبديا والحارة الشرقية في جنين كما البلدة القديمة في نابلس، وكثير من التجمّعات الفلسطينية ذات الخصوصية الجغرافية التاريخية الواقعية، أخطر من مخيمات جنين ونور شمس وبلاطة، بحيث تُنشّط الهمجية الإسرائيلية الجانب الفلسطيني الراكد، وتحفّزه لخلق بدائل واقعية وتأطير طاقات شعبية لا تقتصر على الفتية دون العشرينيات، وهم الفئة التي ظلت تتحمّل العبء الرئيس للمقاومة في الضفة منذ ثلاث سنوات، وينصبّ عليها النقد الداخلي طوال الوقت.

يأتي أهم الخيارات الفلسطينية في مواجهة ضم الضفة، عبر نافذة رؤية الواقع السياسي المتشكّل على حقيقته، وليس وفق أهداف الحرب الإسرائيلية، كما هي الاصطفافات السياسية وفق طيفها المنعتق من الفلك الأميركي، رؤية تبصر أصل الحقّ الفلسطيني الذي لأجله نهضت أجيال متعاقبة وتحمّلت أعباء هذه القضية، وحافظت على فاعليّتها رغم سيل المؤامرات. 

تبقى مكامن القوة الفلسطينية في ضعفها، ووقتما تضيق الخيارات يتسع الأفق الداخلي مهما تشظّى الواقع السياسي الأمني، لأنّ أصل القضية في طبيعتها الدينية والإنسانية والثقافية والتاريخية، وهي طبيعة تغفل عنها بعض الشرائح المرتهنة للغرب، فيما هي مجبولة في عجينة الفلسطيني المولود على الفطرة، والمنغرس أبد الدهر في حكايا الشهداء ومظلوميّة الأسرى، وصبر حائط تعتلي جدرانه الطينية مفاتيح العودة لصفد وحيفا وأم الزينات.