عملية جنين.. تقييم "تدخّل جراحي"

في الميدان، يثبت استخدام سلاح الجوّ والمروحيات وكمّ التعزيزات المرسَلة يوم العملية الثاني، لتصفية عشرات المقاتلين بسلاح خفيف وأحذية رياضية، عجزاً كبيراً عن التوغل.

  • عملية جنين.. تقييم
    عملية جنين.. تقييم "تدخّل جراحي"

انطلقت عملية مخيم جنين من جهات ثلاث حوله، الشمالية والغربية والجنوبية الغربية، بعدد كبير نسبياً من الآليات والأفراد مقارنة بحجم المخيم، لكن يكافئ الكثافة العددية المتوقعة، وجاءت عمليةً مشتركة لسلاحيّ المشاة والطيران، وقوات برّية نوعية، بإدارة غرفة تضمّ قادة المنطقة المركزية والقوات الجوية والاستخبارات العسكرية والشاباك، وحملت هدفاً عاماً يقارب تصفية أكبر عدد من عناصر المقاومة وتقويض إمكانات ومواقع صناعة العبوات، أو تخزين السلاح، إلى أقصى مدى ممكن.

ما كان سابقاً، بدرجة أو بأخرى، في حي الشجاعية بغزة عام 2014، وعدّة مخيمات، وفي مخيم جنين ذاته عام 2002 أثناء محاولة تصفية ظاهرة المقاومة المسلّحة للضفة بالكامل، للخلاص نهائياً من الانتفاضة الثانية وطول يدها نحو الداخل المحتل، بعمليات التفجير. خلاصٌ حدث لاحقاً وظن شارون أنه أثبت صحّة نظرة الإزالة التي تبنّاها: تكسير العظم والمطاردة إلى آخر مدى حلٌّ ناجز، لكن الظاهرة أُعيد تشكيلها وعادت لاحقاً تجلّيها أساليب جديدة، ونطاقات جغرافية أوسع وأهداف أكثر نوعية، مع احتفاظها بمركز ثقلها الأهم، البيئة الشعبية الحاضنة في عدّة مراكز بالضفة ومخيماتها. 

قد يشير اختيار جنين الآن لتنفيذ عملية كبيرة، فضلاً عن خصوصيتها في تراث المقاومة وواقعها، إلى استنتاج أمني استراتيجي بلغته مؤسسة الاحتلال، بناءً على مجمل عمليات المقاومة في الضفة ونشاطها، وفي ضوء تقديرها لوزن كتيبة جنين، التي تكثّف مؤخراً فاعلية حركة الجهاد، وقدرتها على التحرّك خارج مظلة حسابات سياسية، في قطاع الضفة الغربية الشمالي الذي شهد آخر عامين مولد المجموعات (عرين الأسود وغيرها) والكتيبة، ما أضاف رقماً إلى معادلة الضفة. مع ثبات إجمالي، في كل الأحوال، لوتيرة استخدام الاعتقالات في صفوف المقاومين، وتشريد عائلاتهم، ومحاولات اغتيال الكوادر الأعلى، وإجمالي العمل الأمني المنشغل بتفكيك شفرة البيئة سابقة الذكر، والتي تجاوزت التأثّر بأوسلو والتنسيق الأمني والضربات المتنوّعة، ويشكّل جيلها الأحدث قوام المجموعات الجديدة الأساسي، مستغلقةً على الخرق الأمني الفارق لصالح الاحتلال، وتحقق نموذجاً تعاونياً يعيش في بيئة أوسلو، الإدارية والاقتصادية، ويفارقها على مستوى شعبي أعمق، في جوار وتعايش مع نفوذ "السلطة الفلسطينية" وليس تحته.
 
في الميدان، يثبت استخدام سلاح الجوّ والمروحيات وكمّ التعزيزات المرسَلة يوم العملية الثاني، لتصفية عشرات المقاتلين بسلاح خفيف وأحذية رياضية، عجزاً كبيراً عن التوغل، تنفيذاً للمخطط (غامض الهدف النهائي الملموس)، ويناقض حجم القوات الكبير المستخدم منذ البداية، ويعكس استفادة المقاومة من التجهيز الدفاعي والإمكانات القائمة إلى أقصى حد. وقد يعكس انخفاض عدد قتلى الاحتلال، المعلَن عنهم التزام جنوده الاحتماء بالتدريع، والامتناع عن توغّل راجل مع غياب بسط سيطرة ثابتة على قطاع واسع من المخيم نفسه، وإن ارتكزت قوّاته على الأطراف بطبيعة الحال، في حين كثّفت المقاومة استهداف الآليات المتقدّمة بالعبوّات، وأرادت سحب الجنود خارج التدريع في اشتباك شوارع ضيقة متعرّجة، كان ليكبّدهم خسائر فادحة يصعب التكتّم عليها. 

رغم ذلك، نجح استدراج الآليات ووقعت عدّة كمائن ناجحة، وأظهر استخدام الجرّافات الأصغر وتواتر التعزيزات، مع قصر مدّة العملية، هدف إحداث أكبر دمار ممكن في القطاعات المهاجَمة بأقصى سرعة، وتوجيه كثافة نارية عالية نحو نقاط المواجهة، ما نجح أولاً لكن أجهضه الاستدراج، ولم يستطع أسلوب الدعم الجوي القريب، اللافت استخدامه في مساحة ضيقة رغم ملاءمته العمليات الخاصة، تحقيق دور فارق، إذ يصعب استخدامه الناري الأثقل في جبهات مواجهة مثل تلك، بسيولتها العالية وتلامسها وسرعة حركة أفراد المقاومة، واحتمالات تعرّض المروحيات لإطلاق نار خطر حال تجاوز مجال اقتراب محدود، من هنا جلب هذا الأسلوب خسائر فلسطينية لكنه لم يدعم امتياز الاحتلال بالطيران، وجاء استخدام المسيّرات، للاستطلاع وجمع المعلومات والمراقبة، أكثر فائدة رغم إسقاط بعضها بالرصاص، وتظلّ المحصّلة غير متكافئة عند احتساب ثمن السلاح الذي أسقطها مقابل ثمنها، في تكرار لمفارقة مشابهة تظهرها مواجهة الصواريخ منظومة الدفاع الجوي.

بانتهاء اليوم الثاني للقتال، مثّلت عملية مخيم جنين - بامتياز - منطق الضربات الجراحية، الذي طُوّر بعد مسار دراسة وبحث شمل نتائج تحقيق لجنة فينوغراد عن حرب 2006، مع تحليل نشاط المقاومة (على تنوّعه) وتطوّرات إمكاناتها، ويرتكز في الأساس على تجنّب مبدأ الحسم الفوري، أو الاجتثاث النهائي، مستهدفاً منع المقاومة من تحقيق تراكم نوعي أو كمّي ـــــــــــ في الإمكانات، أو الحضور في نقاط حيوية تقلب ميزان القوى لصالحها بالمعنى اليومي الملموس.

ومن جانب آخر، يفيد إلى حدّ أقصى من دور الرصد الاستخباري، والمراقبة بالغة الدقة للجبهات والأهداف، وتحليل البيانات والإحصاء وتتبع الشبكات والعلاقات، ما تتيحه البنية الأمنية والمؤسسات والتكنولوجيا الفائقة، ويوجِّه ذلك، مع العمليات الجوّية الدقيقة، نحو منع التقدّم النوعي للقدرات العسكرية، الصاروخية وغيرها، ونحو الاغتيالات التي تحفظ ردعاً صورياً للمقاومة ويسهُل استخدامها للتسويق الداخلي، مع فاعليتها النسبية في استهداف كوادر قيادية أو نوعية للمجموعات الجديدة، التي لم تجاوز طور البناء العضوي الأول وتثبيت التراكم، رغم انتمائها بالفعل إلى فصائل قائمة.

قد تحمل الاستراتيجية تلك عنوان جزّ العشب أو الضربات الجراحية المحدودة أو الاستنزاف، ويظلّ جوهرها، مضافة إليه الإجراءات والاستهدافات الروتينية: تأجيل مواجهات أكبر إلى وقت غير معلوم، في فلسطين وحولها، ما يأتي لصالح الطرف المقاوم وحلفائه ــــــــــ بفعل التراكم الذي يشمل نمطاً (يبدو جديداً) للتسلّح والحركة في الضفة، وحجز تأثير وفاعلية الكتلة السكّانية الفلسطينية في غزة ودوائر الضفة، وليس تقويض إمكاناتها التنظيمية أو المادية.

هذا كلّه يعوّض إثارة حرب تكسير عظم أو فوضى أمنية تجتاح الضفة بين المستوطنات، أو وضع الإزالة هدفاً معلناً. ومن هنا، يأتي الهدف مراوغاً باللغة في الإعلام دوماً، على شاكلة "تصفية بؤر الإرهاب" وحفظ أمن الشعب، ومختلطاً في الدعاية بأفق أو أمل لبلوغ الإزالة، بموازاة صعود مدّ شعبوي ديني يمثّل بن غفير، نموذجاً، أبرز نتائجه وليس أسبابه، ويتّجه إلى التسلّح إكمالاً لهذا التصوّر العام لدى "دولة" الاحتلال، التي أرهقتها مطاردة الديموغرافيا الفلسطينية في دول أخرى سابقاً، وباتت مستعدة - ومحتاجة ربما - لأساليب أكثر مرونة وأقل تقليدية قد تحقق تفوّقاً في هذه المطاردة ــــــــــ المواجهة، التي تتخذ مؤخراً، داخل فلسطين، طابعاً فردانياً في الأسلوب وجماعياً في الاتجاه العام، وتصدمها بعدّة مجموعات فلسطينية كبيرة، منها من داخل الخط الأخضر ومن يخرق حدود الاحتلال بسهولة لتنفيذ عمليات. بعد استخدام طويل للتغيير الجغرافي، وتوفيق الكتل الاستيطانية الجديدة مع التهديد الأمني المستمر، وعزل تجمّعات الفلسطينيين السكنية بالتخطيط المدني، أي حد بعيد من الرقابة والتحكّم يصعب دفعه إلى الأبعد، مع الكاميرات ومداومة دوريات الحراسة على الطرق المحاور، ولم يترجَم إلى استقرار لجبهة الضفة ومستوطناتها. 

لأعوام مضت، استُخدم الاقتحام الواسع و"التوغل" ورقة لمفاوضة غزة عبر وسيط، عادة أثناء معركة القصف الجوي والصاروخي المتبادل. ونُفّذ في مرحلة أقدم للصراع عام 1978 بعملية الليطاني، قبل اجتياح لبنان لاحقاً، كما حاول دعم دور الطيران عام 2006 في معركتيّ مارون الراس وبنت جبيل، لبلوغ هدف تصفية مرتكزات المقاومة الأقرب إلى الحدود، وإقامة المنطقة العازلة اللبنانية التي أرادها الاحتلال منذ قتاله منظمة التحرير الفلسطينية في السبعينيات. 

لكن نتائج التوغّلين المحدودَين طرحت معضلة جديدة كانت إخفاق التدريع الثقيل الحديث في تقليل الخسائر، أو حفظ السيطرة البريّة تحت غطاء الطيران، كما أوضحت شهادة قائد لواء جولاني (قوات خاصة) عن اقتحام آخر، حيّ الشجاعية عام 2014، معضلة أخرى مفادها أن إجمالي التراكم المتحقق في غزة، خاصة القوة النارية، يكاد لا يتيح إمساك مربع سكني في حيّ واحد للارتكاز ثم الانتشار، باستخدام قوات نخبة تضمّ وحدة استطلاع متطورة (إيغوز)، التي استُخدمت في عملية جنين، وأكّدت شهادات جنود الكتائب الثلاث المشاركة (12 و13 و51) عجزاً شبه مطلق عن التحرّك بفاعلية خارج التدريع، بعد الاقتحام، وضعف جدوى اتّخاذ الطرق غير الملغومة للتقدم، الذي سمحت به المقاومة لتُحوّل نتاجه النهائي إلى كمين واسع في الظلام، سارعت العناصر الأكثر تدريباً في "جيش" الاحتلال إلى الانسحاب منه بصعوبة.