عصر ما بعد الحقيقة!

من الطبيعي جدّاً أن يتحوّل العصر القائم، ولو بعد حين، إلى عصر الركام المعلوماتي غير الآبه بالحقيقة في نفسها، وغير المكترث بمن يتّصل بها من علماء ومختصين وخبراء.

  • عصر ما بعد الحقيقة!
    عصر ما بعد الحقيقة!

قبل بضعة قرون، شهد العالم انعطافةً تاريخيةً كبيرةً عُرفت بعصر التّنوير والنهضة المعرفيّة (The Enlightenment)، على الأقل بحسب التراث الغربي، ومن وجهة نظر مؤرخيه. في نهاية القرن السادس عشر الميلادي، وخلال القرن السابع عشر والثامن عشر وما بعدهما، طلعت شمس المعرفة، وسادت العقلانية، وضربت بأطنابها كلّ الأرجاء، فتمت إعادة النظر في الكثير من المعايير الثقافية ومراجعة المفاهيم والعادات السائدة والتقاليد الموروثة، وراج الكلام المُحتكِم إلى العقلانية والدليل المُقنع والعلم والمنطق التنويري المتحدّي. 

وكان من أبرز أعمدة عصر التنوير من الفلاسفة والمفكّرين الفرنسي رينيه ديكارت (1596-1650م)، والإنكليزي جون لوك (1632-1704م)، والهولندي باروخ سبينوزا (1632-1677م)، والإيرلندي جورج بيركلي (1685-1753م)، والاسكتلندي ديفيد هيوم (1711-1776م)، والسويسري جون جاك روسو (1712-1778م)، والألماني إيمانويل كانت (1724-1804م)، لكنَّ واقع حكاية عصر التنوير مهدّد الآن، ورّبما لن يدوم التنوير كثيراً، ونحن نوشك أن ندخل - وربّما دخلنا فعلاً بحسب ما يجري في عالمنا المتدهور - عصر ما بعد الحقيقة (Post-Truth Era)!

لنتخيّل عالماً فيه إغراق معرفيّ وانفلات معلوماتيّ، والتواصل الاجتماعي فيه ينحدر في حركته إلى تدمير الأواصر الاجتماعية والوشائج الأسرية، ويثير بين الناس، أفراداً وجماعاتٍ وشعوباً، الضغائن والشكوك والأحقاد، ويدفع بشتى الطرق إلى الخيانة والتجسّس، ويشوّش الرؤية، ويضيّع الحقيقة، ويشوّه الآخر الدينيّ والثقافيّ والعرقيّ والعنصريّ...

لنتخيّل عالماً يعمّ فيه الإفلاس الأخلاقي، ويسوده الابتزاز والانحدار في كلِّ جوانبه... لا قيمة فيه للمعرفة ووثاقة المعلومة إلا بقدر رغبة الطالب في ذلك، بحسب همّته الفردية والتزامه، لأن السائد فيه هو الإشاعة و"الكذبة البيضاء الجميلة" والخبر الذي يلقى الاستحسان من أكبر عدد ممكن، وإن كان بيِّن البطلان والزيف والغيّ!

انتهت عملية التخيّل هذه التي دعونا إليها. الآن، لنعُد إلى واقعنا الفعلي الراهن. كم يختلف عن هذه الحالة التي صوّرناها لمحةً خاطفةً في مخيّلتنا؟ لو أنصفنا القول، مع ابتعادنا عن السوداوية القاتمة والانحسار السلبي، فإنَّ هذا الوصف، إن لم يكن شبه مطابق لعالمنا الراهن في واقعه الفعلي، فإنه يقترب منه بسرعة مخيفة، ويتحقَّق شيئاً فشيئاً.

عالمنا اليوم يحتضر على مطرح الحقيقة في حالة أشبه بالموت السريري، ففيه ولِدَ عصر المعلومة السريعة على حساب الحقيقة، ولا يرغب سكّانه في الحقيقة بقدر ما يرغبون في المعلومة! فالمعلومة عندهم مقدّسة، والتراكم المعلوماتي وصل إلى مرحلة ليس لها مثيل في التاريخ، لكنَّهم أزهد ما يكونون بالحقيقة وإصابتها في هذا الكمّ الهائل من المعلومات والبيانات والمعطيات. أليس أمر الإنسان في ذلك كله أصبح من أعجب العجائب وأغرب الغرائب؟

نظرة فاحصة سريعة عبر الأجيال والمجتمعات والشعوب في عالم اليوم تفيد بالآتي: الناس أصبحوا، وبصورة متزايدة، "أكثر رغبةً في الانفصال" القومي بدلاً من الاتصال، والعقل السياسي في الشعوب يميل إلى "القَبَليّة والتمحور الضيّق" حول القضايا والميول والولاءات المشخصنة بدلاً من الاتجاهات العامة الوازنة الثابتة.

وقد تم "استبدال الحقيقة" بكلِّ وزانتها وأبعادها القيمية بالعواطف الجيّاشة الطارئة والانفعالات الفردانية السريعة، و"تداعت الثقة" بين الناس بصورة مطّردة، من أصغر مؤسسة اجتماعية عرفتها البشرية منذ فجر التاريخ، وهي الأسرة كوحدة مكوّنة من الأب والأم والطفل، إلى أكبر التراكيب الاجتماعية، من منظمات كبرى وأنظمة عملاقة ودول عريقة، وصعدت "عقلية التضليل" معلوماتياً وثقافياً وإعلامياً وأخلاقياً وتاريخياً، و"تكثفت ضبابية الرؤية" تجاه قضايا الحياة والكون والإنسان بصورة مهندسة ومنظمة ومؤدلَجَة.

كذلك، تمت "صناعة الطفاسة" القيمية والمبادئية بين الناس، وعلى أعلى المستويات، وبين قادة الشعوب ومسؤوليهم، كنموذج سيّئ يجسّد أوجه الطفاسة بأوجها، ومن خلال الإعلام الصانع للرأي العام والمؤثر في الأجيال الطالعة، وساد "السوق الإلكتروني الافتراضي" العالمي الذي يقرّب البعيد كما يبعّد القريب عبر شباكه وشبكاته، ويحرق المسافات بصورة تمحو واقعية الحياة وإمكانية الرقيّ، وتصنع من الكذب مكائد ومصائد وأفخاخاً، يقع فيها الكثير مصروعين بلا شعور منهم.

يأتي كل ذلك مضافاً إلى "الزيف الإعلامي" (Fake News) والخديعة ومحاولات القفز على الواقع بإيجاد نماذج مضلّلة تصرف الأنظار عمّا هو مصيب وحقيقي ومُهمّ، و"إشاعة جنون العظمة" وجعل نموذجه المُطبّع وأسبابه من السهل اليسير، وفي متناول الناس، بلا رادعٍ ولا حياء، فالفرد يصوّر نفسه بالصوت والصورة المتحرّكة من خلال هاتفه المحمول، وينقل كل ظروف حياته الخاصة (تقريباً!) إلى العالم، وكأنها مكارم الأخلاق ودُرر الحِكَم! وإشاعة "ثقافة المنافسة المدمّرة" بين الذكور والإناث، وافتعال الأزمات والخلافات بين عناصر المجتمع على أرضية السباق والتناحر الذكوري والأنثوي العقيم في أمور الحياة كلها، ما مزّق التعاضد والتناصر في مواجهة مصاعب الحياة معاً، وبالتالي أدخل الناس في توجّهات ونزاعات جانبية وتافهة لا جدوى لها.

وجرى "استهداف الرأي السديد" من خلال التقليل من دور العلم والعلماء والخبراء والاختصاصيين في كل المجالات، وإطلاق العنان للرأي الفردي أو الأهواء والميول والشعور العفوية، بعيداً عن لغة الأرقام والدليل المقنع والبرهان المُلزِم والحُجة الداحضة. وقد برز هذا الانحدار بصورة جليّة في فترة جائحة كورونا بين الملل، كل بحسبه، وغيرها من أوجه الهبوط والتأكّل الحضاري والانحدار نحو الهاوية.

في مثل هذا العالم المتداعي على نفسه من الجهات كافة، والذي تتشيّد أركانه وتلتحم أواصره وأوصاله شيئاً فشيئاً على واقع "اللاحقيقة" ومبدأ الاستغناء عن الفهم الصائب، وإن أُغرِقَ بالمعلومات وكثافتها وتفرّعاتها وسرعة تداولها حول المشرق والمغرب، لا مجال للحقيقة والحق وإصابة الواقع بالصميم في مفرداته، كقيمة تختزن في ذاتها الرفعة والصواب والغائيّة والمقصديّة.

لذا، من الطبيعي جدّاً أن يتحوّل العصر القائم، ولو بعد حين، إلى عصر الركام المعلوماتي غير الآبه بالحقيقة في نفسها، وغير المكترث بمن يتّصل بها من علماء ومختصين وخبراء ضمن تجاربهم الثمينة في ضوء الدليل والبرهان ومهاراتهم الضرورية في العصر الحديث، فالعدّ التنازلي الحضاري ربّما بدأ يظهر على جوانب كثيرة في الحياة، وفي دول متعددة حول المعمورة.

المطلوب من الشعوب الحيّة الواعية الواعدة تحقيق الصحوة بالتنوّر العميق، وصفاء الرؤية تجاه كلّ ما يجري من المشاريع المُغرضة التي تريد تكريس عقلية الزيف واللاحقيقة والإفلاس القيمي والأخلاقي والتحرّر من كل ما يتصل بالتراث والالتزام المنضبط، لا لشيء إلا لعقدة ترك المألوف السائد والانتقال به إلى الحداثة السائبة المُهْمَلة بلا ولاءاتٍ وركائز، وإن أبلست الحداثة هذه، وأفلست من كلِّ قيمة وغاية ونفع حقيقيّ على أرض الواقع.

فلتُصارع هذه الشعوب الناهضة كلّ هذا الغمام المُعتم المنبثق في الفضاء من الوهم والتخريف والتحريف والتزييف، الذي أصبح يحجب أنوار شمس الحقيقة، ويُدجّن الأجيال الجديدة، ويُهندس عقولها فكرياً واجتماعياً وعاطفياً على استلهام المفاهيم من وحي الآن واللحظة والمزاج، والتمهيد للدخول في عصر ما بعد الحقيقة. 

الواعد في الأمر السّوداوي هذا والواقع المرير، هو أنَّ المناعة الفكرية والحصانة الثقافية والأخلاقية ما زالت منتشرة ومتجذّرة قدراً ما في كثير من الأوساط، ولدى العديد من الشعوب، بحكم وعيها، بحيث يمكن أن يُعوّل عليها في مشاريع النهضة والانتشال المُنجي قبل فوات الأوان، فيمكن معها تثبيت رؤى مكافحة هذه المحاولات والمشاريع القائمة التي ترمي إلى أخذ البشرية تجاه المجهول والابتذال المعرفي وحالة اللاحقيقة المُظلمة.

المحاذير التي لا ينبغي التغاضي عنها في عصرنا - والتي تُعد من المحركات الرئيسية لإدخالنا في حالة اللاعودة في عصر اللاحقيقة والمعلومة الزائفة - تتلخّص، على نحو المثال لا الحصر، بالآتي: "الكذب المُمنهج"، وخصوصاً في دوائر السياسية والإعلام والفن والنجومية وعالم الشُهرة والمشاهير والدعاية والشخوص المؤثرين بسبب الثروة أو السلطة، و"العلاقات الدولية المتقلّبة" سريعاً طبقاً لمُحرّكات قوى عُظمى ومنظمات تركيز وتكديس الثروة والمال والتلاعب بمقدّرات الدول من موقع المركزيّة الأحادية الضاغطة، و"منظمات المجتمع المدني" (NGOs) التي تظهر في العلن بمسميات مرموقة ومُحقّة، مثل الدفاع عن حقوق المظلومين والمحرومين، ولكنّها في الحقيقة وجه آخر وأداة أخرى في تنفيذ مراد أنظمة دولية ومنظمات مُغرضة، و"التقنية الحديثة" التي دخلت بكلِّ محتواها وقوة أثرها إلى كل بلدٍ وشارعٍ وبيتٍ وعقلٍ وقلبٍ، وأصبحت العقل العام الجديد الذي يفكّر فيه الناس ضمن قوالب مرسومة ونمطيات مفروضة عليهم وعلى ثقافتهم وقناعاتهم الراسخة.

عالمنا اليوم يعيش حالة شبيهة بالاحتضار، والفرص تمرّ سريعاً وحظوظ التدارك تتقلّص، وعلى المتصدّين والمسؤولين والناس أجمعين اليقظة والعمل الإصلاحي الجادّ لمواجهة الواقع المستجد والرمال المتحركة تجاه إبادة مبدأ الحقيقة في وجدان الناس.