لماذا أؤمن بالإله؟

المشكلة أن العالم الغربي أخرج الأشياء من عالم الإنسان إلى عالم آخر، ثم جلب الإنسان من عالمه ليضعه في عالم الأشياء، فيكون مُجرد مادة محدودة، بينما هو أعظم من ذلك بكثير!

  • لماذا أؤمن بالإله؟
    لم يكن الكتاب يروي رحلة بحث، لكنه كان يروي رحلة هجوم وهدم

في العام 2007، أصدر الكاتب الألماني مايكل سالمون، كتاباً بعنوان "أين الطّريق إلى الله؟". والغريب أن هذا الكتاب كان مُدرجاً ضمن أدب الطفل، ولكن كيف سيفهم طفل صغير هذا الأمر!

القصة

لم يكن الكتاب يروي رحلة بحث، لكنه كان يروي رحلة هجوم وهدم، فهو يحكي بشكل رمزي عن رحلة قنفذ وخنزير يقرآن جملة على إحدى اللافتات، تقول: "ما لم تكن تعرف الله، فأنت تفتقد شيئاً ما". يبدأ الاثنان بالبحث عن الإله، فيذهبان إلى الحاخام اليهودي الذي يُحدثهما عن الإله الذي غضب من البشر فأغرقهم في طوفان نوح، ليردّا عليه: "هل قتلهم جميعاً! لماذا إذاً نعبده وهو سريع الغضب"، فيطردهما من المعبد.

بعدها، يذهبان إلى قسيس في إحدى الكنائس، فيُحدثهما عن تضحية المسيح بنفسه من أجل البشرية، وأن المسيحيين يُمارسون طقس التناول أو ما يعرف بـ"الأفخاريستا" من أجل ذلك، إذ يتناول جميع الحضور الخبز والخمر كرمز لجسد المسيح ودمائه، عملاً بنصيحته الأخيرة في إنجيل مرقص([1])، فيتعجب القنفذ والخنزير، ويقولان له بتهكّم بأن لا فرق بينكم وبين آكلي لحوم البشر، فيطردهما القسيس بدوره.

بعد ذلك، يتجهان إلى المسجد، فيُحدثهما الشيخ عن أن السبيل إلى الله هو الوضوء والصلاة خمس مرات في اليوم، فيعترض كلاهما بحجة أن ذلك يُعد هدراً للمياه ومبالغة عددية. بدوره، يطردهما أيضاً من المسجد.

وفي الختام، يجلس الاثنان إلى جوار اللافتة، وقد أضافا تعديلاً عليها لتصبح: "إن كنت تعرف الله، فأنت تفتقد شيئاً ما".

ما بعد القصة

انقسم الناس حول تلك القصة إلى قسمين؛ قسم على شاكلة كاتبها، كالمُلحد ريتشارد دوكينز، الذي أيّدها ورأى أنها ستمثل مستقبلاً باهراً لمعرفة ما أسماه بـ"أكذوبة الإله"([2])، وقسم عارض مثل ذلك اللون من الأدب المتحيز في النقد والسخرية ورفضه، فقد يستبدل الطفل بتلك القصص الهدامة القصص الأخلاقية غداً.

لقد بدأت المقال بتلك القصة لأفسر ما نحن مقبلون عليه في عصرنا التكنولوجي. الآن، يظن البعض أن العلم اشتد ساعده، ليخرج من تحت عباءة التجربة والحدودية، فيُصبح إلهاً بدلاً من الإله المعهود، وهي النظرية التي امتثل لها بعض العلمويين الذين قالوا إنهم يؤمنون بالعلم، ولا يؤمنون بغيره، وأن الإله الأدبي المشهور بين العامة مات، وحل العلم بدلاً منه.. كإله جديد!

ومن أمثال هؤلاء سام هاريس، صاحب كتاب "نهاية الإيمان"، والذي تحدث فيه عن الإيمان بنوع من السخرية. وفي رأيه، وسط كل الاكتشافات العلمية المتنوعة، صار الدين كالمُحارب المُحاصر الذي يزفر أنفاسه الأخيرة في الميدان، وأوشك العلم أن يكون المليك الأوحد، لأنه سيحل كل المعضلات والمشاكل التي نواجهها، ولو كانت معضلات أخلاقية، فهو كفيل بحلّها([3]).

الرد على تلك المزاعم

المسألة هنا مسألة "منظور"، أو بالأحرى ما يراه أي فرد من هؤلاء، فيظن أنه زعمٌ كافٍ لرؤيته. يؤمن هؤلاء بأن العلم يتعارض مع الإله والدين، فكلما تقدم الإنسان علمياً، تضاءل الاحتياج إلى الإله، ولكن في الجانب الآخر، نجد أستاذ البيولوجيا في جامعة "براون"، كينيث ميلر، الذي قال في مُقدمة كتابه "البحث عن إله داروين"، مُجيباً عن سؤال: "كيف تجد الله في العلم؟":

"بالنسبة إليّ كعالم تجريبي، لا أرى الله في الحالات التي يعجز فيها العلم عن شرح الأشياء. بمعنى آخر، لا أجد الله في جهلنا. لا أجد الله في قولنا: حسناً، لا يمكننا شرح هذا، بل إننا نجد الله عندما نتوصل إلى الشرح"([4]). ثمة باحث مثل سام هاريس يرى أن العلم يدحض وجود الإله، وثمة آخر يرى أن العلم يُساعدنا على التوصل إليه.

أما فكرة أن العلم سيغنينا في المستقبل القريب عن الحاجة إلى الدين والإله، فهي أمر عبثي يدعو إلى السخرية، فالعلم يأتي أساساً لشرح الظواهر المادية المُحيطة بنا، من خلال منهج موضوعي منطقي يعمل على المُلاحظة والتجربة، ثم يعرض الاستدلال وفقاً لما عاينه، وقد يقوم بعملية "الاستقراء"، وهي التنبؤ بمستقبل الظاهرة وفقاً لما أبدته الدراسات حولها، فكيف للعلم أن يحتوي المسائل الأخلاقية! هذا هو ريتشارد دوكنز نفسه يرى أن العلم لا شأن له بالأخلاق، وأنه لا يوجد ما يُسمى بالإطار الأخلاقي، مُعتبراً أن عملية الاغتصاب التي يتعرض لها الأطفال مُجرد عمل بيولوجي لفرض السيطرة([5]).

إن ما يدّعيه سام هاريس، بأن العلم سيحتوي المشاكل الأخلاقية سقط تماماً، ذلك أن العلم هو الذي يحتاج إلى أن تحتويه الأخلاق، فمن دون الأخلاق تحدث الكوارث، مثل ما حدث في هيروشيما أو ما يحدث من المُتاجرة بأعضاء المرضى في المُستشفيات، وذلك بسبب نزع الصبغة الأخلاقية عنه، فكيف يقول أحدهم – أقصد العلمويين - : "أنا أؤمن بالعلم"، كأنه لا يدري الفرق بين الإيمان والتصديق، فأن يقول: "أؤمن بالعلم"، يعني أن يرضخ له بكل أحاسيسه ونزعاته من دون أدنى شك، وذلك لا يصح مع العلم، لأنه سيُعتبر عندئذ معصوماً لا خطأ فيه، وهو ما لا يصح مع العلم التجريبي الذي يقوم في الأساس على الديناميكية، أي التغير، بمعنى أنه غير ثابت، أي أن الظاهرة الواحدة قد تقوم على عدة تفسيرات مُتناقضة مع بعضها البعض، بمعنى أن العلم دائم التغير وغير ثابت من الأساس. 

كيف يقول العاقل: أنا أؤمن بشيء متغير غير ثابت، أي غير مُكتمل بعد، بينما تراه يُنكر الشيء الثابت، لأنه غير محسوس فقط، أي الإله، رغم أن العلم توصل إلى استدلالات وتفسيرات حول أمور غير محسوسة، كالجاذبية وسرعة الضوء، فهل هما محسوسان أم مُستدل عليهما؟! كذلك الإله، غير ماديّ وليس بمحسوس، ولكن يُستدل عليه في خلقه..

أنا أصدق العلم

أُفضل أن أقول: أنا أُصدق العلم، أي أُصدق ما يتوصل إليه من نتائج بعد بحث وتدقيق مُطول، وأعلم أنه قد يتغير في أي وقت وأي مكان، وأنه ليس ثابتاً، فأنا لا أؤمن بإله مُتغير، بل أعبد إلهاً ثابتاً لا يتغير، وإنما يُغير، فالعلم إلى الآن لم يستطع أن يُفسر كل ما يُحيط بالإنسان تفسيراً نهائياً، بل ما زال في مرحلة بحث وتفسير للإنسان ذاته، لأن الإنسان أكبر من أن يحيطه إطار مُتغير حدودي اسمه العلم، أو كما قال علي عزت بيجوفيتش: "إن الإنسان ليس مُفصلاً على طراز داروين، كما أن الكون ليس مُفصلاً على طراز نيوتن"([6]).

المشكلة أن العالم الغربي أخرج الأشياء من عالم الإنسان إلى عالم آخر، ثم جلب الإنسان من عالمه ليضعه في عالم الأشياء، فيكون مُجرد مادة محدودة، بينما هو أعظم من ذلك بكثير!

الهوامش

 
العهد الجديد، إنجيل مُرقص، 14: 22-24-[1] 


[2]-the guardian, Why Richard Dawkins' humanists remind me of a religion, Michael ruse, 2011.


سام هاريس، "نهاية الإيمان"، ترجمة أسماء إبراهيم محمد، دار سطور، بغداد، 2020م، ص 70.-[3] 


[4]-Kenneth miller, finding Darwin's god, cliff street, England, p 13. 


نور الدين أبو الحية، "ما قاله الملاحدة ولم يسجله التاريخ"، دار الأنوار للنشر والتوزيع، بيروت، ص 310.-[5] 


عليّ بيجوفيتش، "الإسلام بين الشرق والغرب"، ترجمة محمد يوسف، مؤسسة العلم الحديث، بيروت، ص 49.-[6]