عبد العزيز قاضي ونضال المغاربة في فلسطين
على وقع الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة، وفي زمن الخذلان، تقدم المشهد الإخباري في الـ22 من كانون الثاني/يناير 2025، حدوث عملية طعن في "تل أبيب"، "بقرة الكيان المقدسة"، في موقعين، أي أن العملية كانت متسلسلة.
الافتراق بين الأنظمة العربية الرسمية وشعوبها ليس وليد اللحظة، ولا يقتصر تمظهره وتموضعه في القضية الفلسطينية والموقف بشأنها، لكن لأن فلسطين ستبقى رمانة الميزان، والاقتراب منها محفوف بالتبعات والتداعيات، فإنها كاشفة للمواقف والوعي والفكر.
وقد تَبَيَّنَ مع الأيام والتجارب أن الشعوب العربية تتقدم وتتفوق في وعيها ومواقفها على كل الأنظمة العربية الرسمية مجتمعة، بل تستطيع هذه الشعوب تحمل التبعات والتداعيات مهما كانت تكلفتها.
بينما كانت "إسرائيل" تستفرد بقطاع غزة، على مدار 15 شهراُ في حرب الإبادة، كانت الأنظمة العربية الرسمية تنزوي إلى حد التلاشي، وتترقب ردود الفعل الشعبية وتحاول تأميم التظاهرات والفعاليات المتعاطفة والمتضامنة مع القضية الفلسطينية.
وكانت التقديرات الرسمية ترى أن السماح بالتعاطف والتظاهر كافٍ جداً ويرفع الإحراج. وكانت هناك أنظمة عربية رسمية، على وقع الإبادة، تتقاطع مع الاحتلال بالتطبيع واللقاءات والاتفاقيات.
على وقع الإبادة الإسرائيلية المتواصلة على قطاع غزة، وفي زمن الخذلان، تقدم المشهد الإخباري في الـ22 من كانون الثاني/يناير 2025، حدوث عملية طعن في "تل أبيب"، "بقرة الكيان المقدسة"، في موقعين، أي أن العملية كانت متسلسلة.
وأسفرت عن إصابة 4 إسرائيليين، بينهم جندي عاد للتو من غزة. لا شيء يرفع معنويات الفلسطيني النازح المظلوم والمكلوم في قطاع غزة أكثر من أن يسمع أن عملية طعن أو عملية دهس أو عملية فدائية حدثت؛ في عمق الكيان، في "تل أبيب". حينها يشعر الفلسطيني بأنه ليس وحده في المعركة، وأن ساحة إسناد فردية تحركت صوبه لإسناده.
فكيف إذا عرف الفلسطيني أن مُنفذ عملية الطعن في "تل أبيب" مواطن مغربي. إلى أين ستصعد معنوياته وروحه الثورية. هذا ما حدث عندما قرر الفدائي المغربي الشاب عبد العزيز قاضي، المولود في الـ8 من حزيران/يونيو 1995، في قرية بندلالة في إقليم زاكورة، جنوب شرقي المغرب، والقادم من الولايات المتحدة الأميركية، إلى فلسطين المحتلة، وتخلى عن الحلم الأميركي ليثأر لفلسطين ويرتقي شهيداً في ترابها. لم يُطِل عبد العزيز الانتظار. فبعد دخوله بيومين، وفي اليوم الثالث قرر التعبير عن الموقع والموضع لفلسطين في الوعي والفكر لشاب مغربي يعيش في الولايات المتحدة الأميركية.
في التفكير السطحي، ذهب البعض كعادته إلى مراجعة صفحة عبد العزيز في مواقع التواصل الاجتماعي، "فيسبوك"، ليصلوا إلى نتيجة مفادها ان عبد العزيز كان مهتماً بما يحدث في غزة وأنه نشر عدة تدوينات بشأن القتل والإبادة والجوع في غزة طوال 15 شهراً.
وهل كل من كتب عن فلسطين تدوينة يُمكنه أن يصبح فدائياً، ويجتاز كل الحدود ليرتقي في ارضها شهيداً.
طريق نضال المغاربة في فلسطين سجل قديم موغل في العطاء حافل بالتضحيات مُعبد بالشهداء والدماء، ولن يكون عبد العزيز قاضي آخره، لكنه محطة شاهدة توثق العلاقة بين الشعب المغربي وفلسطين، ذلك بأن الدم الفلسطيني اختلط بالدم المغربي في غزة وفي حرب الإبادة.
وفي اليوم الأول لمعركة الطوفان، وفي أول رد إسرائيلي على العملية التي نفذتها المقاومة الفلسطينية، قتلت طائرات الـF16 الإسرائيلية في الـ7 من تشرين الأول/أكتوبر 2023، المواطن المغربي يوسف زكريا اليعقوبي، المقيم بغزة، ليلحق به ابن عمه الشهيد خليل أسامة اليعقوبي في اليوم التالي للحرب.
وفي اليوم الـ45 لحرب الإبادة، ارتقى عدة شهداء مغاربة في قطاع غزة في مجزرة نفذها سلاح الجو الإسرائيلي في الـ4 من تشرين الثاني/نوفمبر 2023، في مدرسة الفاخورة التابعة للأمم المتحدة، "الاونروا"، وكانت ملاذ لمئات النازحين.
وارتقى في المجزرة 200 شهيد، بينهم مغاربة كانوا نازحين في المدرسة. وبين الشهداء المغاربة في المجزرة، صفية الحريري، وهي موظفة في "الأونروا"، استشهدت رفقة زوجها الفلسطيني، بينما نجت ابنتاهما فردوس وعائشة، كما استُشهدت المواطنة المغربية خديجة أيت القاضي رفقة أبنائها.
واستشهدت أيضاً المواطنة المغربية حفصة كيناني رفقة طفليها، بينما نجا زوجها، الذي يعمل طبيباً في قطاع غزة. وبين الشهداء المغاربة، في حرب الإبادة في غزة كلثوم الشاشي وعبد السلام السراج.
إن اختلاط الدم المغربي بالدم الفلسطيني في أرض غزة يُجسّد أسمى معاني الوحدة الوطنية والقومية العربية في زمن التشرذم والخذلان، وهو إثبات عملي موضوعي يؤكد أن الشعوب لا تُروَّض ولا يُمكن تزييف وعيها، وأن قيمها تجاه الحرية والنضال والمقاومة لا تتغير بتغير الظروف وتمرير التطبيع.
إن سِجِلّ الشهداء العرب الذين ارتقوا في فلسطين من مصر وليبيا وتونس والعراق، والقائمة تطول، تُبرهن مرة أخرى أن مصير الشعوب العربية مرتبط ببعضه، وأن فلسطين مركز هذا المصير حتى تحريرها من البحر إلى النهر، وأن "إسرائيل" ستبقى عدواً لكل الشعوب العربية الحرة الأبية.
طويلة هي وممتدة وموغلة في تاريخ الثورة الفلسطينية قائمةُ الشهداء المغاربة ونضالاتهم في فلسطين. وأستحضر هنا بعض الشهداء الذين لا يُمكن الكتابة عن نضالات المغاربة في فلسطين من دون استحضارهم، ومنهم الشهيد الحسين بن يحيى الطنجاوي، الذي وُلد عام 1945 في مدينة تطوان، شمالي المغرب، وتلتقي سيرته ومسيرته مع الشهيد عبد العزيز قاضي، فكلاهما كان أمامه فرصة الحلم.
في عام 1968 سافر الشهيد الحسين الطنجاوي إلى إسبانيا، ودرس الهندسة في كلية فالنسيا وتخرج مهندساً في الطيران، ثم انتقل إلى بلجيكا، ودرس في المعهد التكنولوجي فيها، وتزوج بشابة بلجيكية. في عام 1973 سافر إلى العراق، ثم اتجه إلى لبنان، وانضم إلى صفوف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وكان يدير حلقات التوجيه الأيديولوجي في مخيم الرشيدية في جنوبي لبنان. شارك في عدد من العمليات العسكرية. وفي الـ28 تشرين الثاني/نوفمبر 1974، ارتقى شهيداً في معركة أطلق عليها اسم "عملية مستعمرة دان"، شمالي فلسطين المحتلة.
والشهيد المغربي عبد الرحمن أمزغار، الذي وُلد عام 1944 في مدينة أصيلة شمالي المغرب، وفي كانون الثاني/يناير 1974 التحق بجبهة التحرير العربية، وشارك في عدد من العمليات الفدائية داخل الأراضي المحتلة. وتصدى للهجوم الصهيوني على مدينة كفر شوبا في الجنوب اللبناني. وفي الـ15 من حزيران/يونيو 1975، تسلل مع ثلاثة من رفاقه، هم الفلسطيني حسن الصوفي والعراقي قاسم الطائي والتركي فكرت باتماز، إلى مستوطنة "كفر يوفال"، واحتجزوا عدداً من أعضاء منظمة الشباب الصهيوني "ناحال"، وطالبوا بإطلاق سراح 12 أسيراً فلسطينياً. لم تستجب "إسرائيل" لمطالبهم واشتبكت معهم في معركة أسفرت عن مقتل 27 رهينة وإصابة 58 إسرائيلياً. استشهد عبد الرحمن أمزغار في إثر هذه العملية في الـ17 من حزيران/يونيو 1975 ليلتحق بإخوانه الشهداء المغاربة الركراكي النومري والعربي بن قدور والحسين الطنجاوي.
وهذا الشهيد المغربي عبد العزيز الداسر سافر إلى لبنان، ليلتحق بحركة التحرير الوطني الفلسطيني مطلع عام 1981، ليرتقي شهيداً في تفجير مكاتب حركة فتح في الأول من تشرين الأول/أكتوبر 1981 في بيروت، ودُفن في إحدى مقابرها.
ولأن وحدة الساحات فكرة موغلة في ممارسة الثورة والمقاومة لا تعترف بحدود أو اختلافات، يحضرني الشهيد المغربي مصطفى قزيبر، المنحدر من مدينة أرفود جنوب شرقي المغرب، عندما كان في ليبيا تعرف إلى عناصر من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين عام 1992، وانضم إليها ثم سافر إلى لبنان. وهناك خاض عدة عمليات ضد مواقع الجيش "الإسرائيلي"، واستُشهد في الـ2 من شباط/فبراير 1994، في عملية مشتركة في قرية بيت ياحون عند الحدود اللبنانية الفلسطينية. وفي عام 2008 استعادت الجبهة الشعبية رفاته في عملية الرضوان، التي نفذها حزب الله. وفي الـ3 من أيلول/سبتمبر 2008 وصل رفاته إلى المغرب، ودُفن في مسقط رأسه في مدينة أرفود.
إن عملية الطعن في "تل ابيب"، التي نفذها الشهيد المغربي عبد العزيز قاضي، وقائمة الشهداء المغاربة الذين ارتقوا في غزة، ومن قبلهم قائمة فدائيين كثر، تُدلل، في معركة الوعي وملحمة ارتباط الشعوب العربية بفلسطين، على أن الأنظمة الرسمية العربية التي يُمكنها أن تُطبع وتلتقي مع "إسرائيل"، لكنها لا تستطيع عزل الرأي العام العربي عن قضيته المركزية فلسطين، ولا تستطيع تغيير وعي المقاومة للشعوب العربية، وأن "إسرائيل"، التي يريد الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، دمجها في المنطقة، من خلال اتفاقيات التطبيع، ستبقى عدواً للشعوب العربية، ولن تروّضها أي متغيرات أو تطورات أو تحولات عن فلسطين. وهذه معادلة تثبتها الدماء الزكية في سجلات نضالات الشعوب العربية، بصورة عامة، وشعب المغرب، بصورة خاصة.