سيوف "إسرائيل" الحديدية تنتقل إلى الضفة... ما الذي تسعى خلفه!

حاولت "إسرائيل" تصوير ما حدث في السابع من أكتوبر على أنه تهديد وجودي، ووفقاً لها فإن الطريق لمنع حَدثٍ مماثل هو تدمير قطاع غزة وطرد سكانه وبالتزامن، سحق المقاومة في الضفة الغربية.

  • تستمر خشية
    تستمر خشية "إسرائيل" من تفاقم الأوضاع في الضفة الغربية وإمكانية انفجارها.

كانت مناطق الضفة الغربية واحدة من ساحات المواجهة الرئيسية التي أرّقت "إسرائيل" حتى قبل السابع من أكتوبر 2023، حيث سعت لاجتثاث "العمل المقاوم" من مدن ومخيمات شمال الضفة الغربية تحديداً، عبر حملات عسكرية متواصلة كان آخرها وأشدّها "البيت والحديقة" في مدينة جنين ومخيمها في مطلع شهر تموز/يوليو 2023.

ولمّا عَجِز "جيشها" عن ذلك بالعمل العسكري لجأت، مع الولايات المتحدة، إلى القمم الأمنية الإقليمية التي عُقدت في الأردن ومصر والنقب سعياً للوصول إلى ترتيباتٍ أمنية بمساعدة السلطة الفلسطينية، وبالشراكة مع أطراف إقليمية محلية بهدف إنهاء المقاومة في الضفة الغربية. لكن طوفان الأقصى أطاح بكلّ الخطط الإسرائيلية الأميركية ووضع "إسرائيل" في مواجهة وضعٍ مُركّبٍ وأكثر تعقيداً وتهديداً بعد أن توسّعت وتصاعدت ساحات الفعل الفلسطيني المقاوم لتشمل وسط الضفة الغربية وجنوبها، بل وفي "أراضي 48" والقدس المحتلة.  

كثّفت التنظيمات الفلسطينية في الضفة الغربية، وخاصة حركتي حماس والجهاد الإسلامي، جهودهما لتنفيذ عمليات نوعية، وسَعَتا إلى تكريس "وحدة الساحات" من خلال إشراك الضفة الغربية بالفعل الوطني المساند لغزة شعبياً وعسكرياً، على خلفية الحرب الإسرائيلية الدائرة على القطاع، خاصة مع تصاعد الإجراءات الأمنية الإسرائيلية العقابية الانتقامية في الضفة، وتصاعد عُنف المستوطنين الحاد ضد الفلسطينيين، بتغطيةٍ وإسنادٍ واسعين من قِبل أجهزة "الدولة" الرسمية. 

مع استمرار الحرب على قطاع غزة، توسّعت المواجهة العسكرية في الضفة وتصاعدت، بخلاف التظاهرات والاحتجاجات الشعبية، التي واكبت الحرب بوتيرة عالية في بدايتها، ثم ما لبثت أن تراجعت وخبت حتى تلاشت تقريباً من مختلف مدن الضفة لاعتباراتٍ مختلفة، أهمها: تبدّي موقف السلطة الفلسطينية الرسمي الذي آثر الانتقال من النأي بالنفس في بداية الحرب، إلى التدخّل الصريح لمنع توسّع الاحتجاجات في الضفة ومنع التصعيد، بل والتعطيل على المساعي الداعية لإشراك الضفة في إسناد غزة شعبياً وعسكرياً عبر سياسات الاحتواء والتنفيس تارة، والتهديد والقمع تارة أخرى. 

زد على ذلك حملات البطش والانتقام الشديدة التي شنتها قوات الاحتلال الإسرائيلي ضد الفلسطينيين في الضفة منذ بداية الحرب، منها عمليات الاعتقال التي طالت حتى الأسبوع الأول من أيار/مايو ما يزيد عن 8495 معتقلاً فلسطينياً ممّا غيّب إمكانية تنظيم الجماهير اجتماعياً وسياسياً في الضفة، وأبقى تركيزها في سياق الهموم والالتزامات الفردية أكثر من الأيديولوجيات والالتزامات الجماعية التي تُغذّي الانتفاضات الجماهيرية.

يستمر "العمل المقاوم" في الضفة الغربية منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 في إطار مساعي فصائل المقاومة لإسناد جبهة غزة وقطع الطريق على مساعي "إسرائيل" لإنهاء مظاهر العمل المسلح الذي ظل يُشاغلها ويزعجها لسنوات. ورغم كل الصعاب والمخاطر تستمر المقاومة في تصعيد عملياتها والهدف أولاً؛ تحويل الضفة الغربية إلى جبهة إسناد رئيسية لقطاع غزة، وثانياً؛ تخفيف وتيرة وأثر الحرب على القطاع والضغط على "إسرائيل" للموافقة على إنهاء الحرب ودَفعِها لسحب "جيشها" منه. 

زد على ذلك أن عمليات المقاومة المتصاعدة عمّقت أزمة حكومة الاحتلال واستنزفتها في مسارات متعددة، خاصة الاقتصادية والأمنية، ورفعت تكلفة التدابير الأمنية التي تتخذها في الضفة الغربية إلى الحد الأقصى. كما أنّ عمليات المقاومة في الضفة الغربية أكدت أنّ الروح الكفاحية للفلسطينيين ما زالت حاضرة رغم محاولات وجهود "إسرائيل" والمتساوقين معها فلسطينياً وعربياً لكي الوعي وفرض سياق اجتماعي سياسي مختلف، يفترض تقبّل "إسرائيل" والانكفاء أمامها بدعوى اختلال ميزان القوى. 

حاولت "إسرائيل" تصوير ما حدث في السابع من أكتوبر على أنه تهديد وجودي، ووفقاً لها فإن الطريق لمنع حَدثٍ مماثل هو تدمير قطاع غزة وطرد سكانه وبالتزامن، سحق المقاومة في الضفة الغربية.

وإن كانت هذه هي الذريعة التي دفعت "إسرائيل" لشنّ حملاتها العسكرية على الضفة، بما فيها حملتها الحالية "المخيمات الصيفية"، فإنّ استقراء دلالات وأبعاد تكثيفها لعملياتها العسكرية وما ارتبط بها من سياسات وإجراءات وتصعيد، يُؤكد أنها تريد تحقيق الأهداف الآتية:

أولاً: الاستفادة من أجواء الحرب على القطاع لتنفيذ عمليات واسعة كثيفة باستخدام الأسلحة الثقيلة والطيران الحربي، من دون الالتفات للانتقادات أو العواقب في غمرة الانشغال الدولي بالحرب، بهدف القضاء على البنية العسكرية المسلحة في الضفة بوسائل أكثر فتكاً، ما كان لها أن تستعملها من دون سياق الحرب الدائرة، وهي ترى أن الظرف ملائم جداً لتصفية الحساب مع المخيمات والمناطق التي كانت، وما زالت، نشطة وفعّالة ضدها، باعتبارها رموزاً للتمسّك بحق العودة، وكونها منبعاً للحراك الثوري والنضالي.

ثانياً: تحويل الضفة الغربية إلى تهديدٍ ثانوي عبر عمليات استباقية لإحباط الخلايا المسلحة ومنع تمدّد المواجهات إلى الضفة، ووأد شعار "وحدة الساحات" من خلال ضرب حركتي حماس والجهاد الإسلامي واستهداف نشطائهما بالاعتقال والتصفية الجسدية. ولم يقتصر الاستهداف على المقاومين والفصائل التي ينتمي إليها المقاومون، إنما جرى استهداف كل المحيط الفلسطيني، في إطار العقاب الجماعي الهادف إلى جعل المجتمع الفلسطيني مثبّطاً لأيّ عمل مقاوم.

ثالثاً: هذا التصعيد، وفق الرؤية الإسرائيلية، مُهم، وهو جزءٌ أساسي من استعادة الردع الإسرائيلي بعد أحداث 7 أكتوبر، فتفكيك "بؤر الإرهاب" في الضفة الغربية هو رسالة إلى قادة حماس مفادها أن الحرب ضدهم لا تقتصر على قطاع غزة، وأنها ستستمر في ملاحقتهم أينما وجدت بُنيتهم التحتية.

رابعاً: منع الفلسطينيين من تهديد المستوطنين، عبر استثمار أجواء الحرب التي تُعدّ فرصة مواتية بالنسبة للمستوطنين يستغلّونها لتسخير "الجيش"، الذي يتماهى مع نزواتهم، لأغراض أيديولوجية تتمثّل في ترحيل الفلسطينيين وإيذائهم.

خامساً: تطمح "إسرائيل" أن تؤسس الحملات العسكرية المُكثّفة التي يقوم به "جيشها" ضد البنى التحتية التنظيمية لحماس والجهاد الإسلامي في شمال الضفة، بصورة أو بأخرى، ومن دون تنسيق مباشر، لتسهيل مهمة السلطة الفلسطينية في بسط سيطرتها ووضع أسُس جيدة لترتيبات اليوم التالي للحرب. 

سادساً: يهدف التصعيد الإسرائيلي كذلك إلى تعميق التطهير العرقي وإجبار الفلسطينيين على النزوح عن أراضيهم، وبخاصة في مناطق "ج" تمهيداً للسيطرة عليها والاستيطان فيها، عبر خنق الضفة بالحواجز وضرب مقوّمات البقاء وحرية التنقّل، فقد أشارت مصادر إسرائيلية إلى أنّ المستوطنين استغلّوا التصعيد في الضفة لتشييد نحو 15 بؤرة استيطانية جديدة في مناطق "ج"، فضلاً عن تهجير السكان الفلسطينيين من 15 تجمّعاً رَعَويّاً.  

سابعاً: هناك تفسيرٌ آخر للتصعيد الإسرائيلي في ساحة الضفة يرتبط بكون الأخيرة مساحة لمناورة رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو مع قوى اليمين الإسرائيلية المتطرفة، التي تُهدده بين الفينة والأخرى بالانسحاب من الحكومة إذا ما انسحب من قطاع غزة وأوقف الحرب، وبالتالي يُنظر للفعل الاحتلالي في الضفة على أنه أداة مناورة ومقايضة من نتنياهو يعوّض بها شُركاءه الذين يتكئ عليهم في استقرار ائتلافه، حيث الضفة بالنسبة لليمين القومي الصهيوني أهم من قطاع غزة سياسياً ودينياً. 

تستمر خشية "إسرائيل" من تفاقم الأوضاع في الضفة الغربية وإمكانية انفجارها عبر اندلاع أعمال احتجاج شعبية وعسكرية واسعة فيها، بما يُلحق الضرّر بمقدرة "إسرائيل" التفرّغ للحرب على غزة أو في شمال فلسطين المحتلة مع حزب الله في حال دخل الطرفان في حرب شاملة مفتوحة، ويضرّ بالدعم الدولي للحرب، الآخذ بالتأكّل، إلا أن هذه الخشية لا تثنيها عن مواصلة حملاتها العسكرية الواسعة في الضفة الغربية مُستغلةً الظروف التي خلقتها حربها على القطاع لتصفية حساباتها مع الضفة وتحقيق ما عَجِزت عنه في سياق ظروف ما قبل الحرب، خاصة تفريغ مناطق في الضفة من الوجود الفلسطيني، بشكل يصبّ في تحيق أجندة اليمين الصهيوني الحاكم بضمّ الضفة الغربية والقضاء على فُرص إقامة دولة فلسطينية مستقلة قابلة للحياة. 

 

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.