سوريا ولبنان... التأسيس لمرحلة جديدة من العلاقات بين البلدين
سوريا هي المتنفّس البري الوحيد للبنان مع الدول العربية، في ظلّ وجود الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين العربية وعدم توقيع اتفاقية سلام بين لبنان و"إسرائيل".
أتت زيارة رئيس الوزراء اللبناني نجيب ميقاتي لتعلن بداية مرحلة جديدة من العلاقات بين البلدين كونها أوّل زيارة منذ بدء الأحداث في سوريا في العام 2011.
يمثّل لبنان حالة نموذجية للدولة المرتبطة عضوياً بالخارج. ليس فيما يتصل بسياساتها وتفاعلاتها الداخلية والخارجية فقط، بل بالفكرة الأساسية التي تستند إليها الدولة اللبنانية بدءاً من نشأتها وحتى اليوم.
فقوام الدولة اللبنانية ليس سوى انعكاس لعوامل خارجية وجدت صدىً قوياً لها في النسيج الداخلي اللبناني.
مشاركة حزب الله في الحرب في سوريا منذ العام 2013، عزّزت الخلافات بين الفرقاء اللبنانيين، وأسهمت في زيادة التوتر بين البلدين.
تندرج هذه الزيارة في إطار الانفتاح العربي والدولي على دمشق بعد سنوات من القطيعة التي تسبّبت في فقدان دمشق لحاضنتها العربية، وخسارة العرب لسوريا وهي العضو المؤسس لجامعة الدول العربية.
ملفات كثيرة عالقة بين البلدين تشمل النواحي السياسية والاقتصادية والأمنية، إضافة إلى ترسيم الحدود وحلّ مشكلة مزارع شبعا.
لم تكن العلاقات بين البلدين صحيحة و"ندّية" منذ استقلالهما، إلى أن جاءت الحرب الأهلية في لبنان وما نتج عنها من دخول الجيش السوري وبقائه هناك لمدة ثلاثة عقود.
الحضور العسكري والأمني السوري في لبنان جعل دمشق تمارس دور "الوصاية" على هذا البلد، وهو ما جعل بعض الفرقاء السياسيين في لبنان يشعرون بالقلق ويسعون لإخراج الجيش السوري من لبنان.
خروج الجيش السوري من لبنان كان حالة طبيعية وخاصة بعد زوال أسباب وجوده، ونتيجة للضغوط الدولية والظروف الناجمة عن الاحتلال الأميركي للعراق في العام 2003.
بعد الاحتلال الأميركي للعراق كان من الواضح أنّ الهدف المقبل هو دمشق، فازدادت الضغوط على سوريا ومحاولة الحدّ من دورها العربي والإقليمي.
صدور قانون "محاسبة سوريا" كان أوّل تلك الضغوط، ثمّ تلاه صدور القرار 1559، والاتهامات لسوريا باغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري.
الانسحاب السوري من لبنان كان البداية لنقل المعركة إلى الداخل السوري، ونجح النظام السوري السابق في إحكام الطوق حول رقبته نتيجة لبراعته في خلق العداوات، والبطء الشديد في طريقة التعاطي مع مشكلاته الدولية.
إقامة العلاقات الدبلوماسية لم تكن نتيجة لرغبة حكومتَي البلدين كما هو معتاد، بل تطبيقاً لقرار مجلس الأمن الدولي 1680، والذي شكّل بادرة فريدة في تاريخ العلاقات الدولية وقواعد القانون الدولي.
تمّ افتتاح السفارة السورية في لبنان في العام 2008، وتمّ تعيين السفير علي عبد الكريم علي الذي بقي في منصبه حتى العام 2022.
لم تعيّن دمشق سفيراً لها في بيروت بعد ذلك، البعض فسّر الأمر على أنه تلبية لمطلب عربي من سوريا التي كثيراً ما كان سفيرها يؤدّي دوراً في عرقلة التوصّل إلى توافق لتسمية الرئيس في لبنان.
فيما أعاد البعض السبب إلى عدم وجود رئيس في لبنان، وبالتالي عدم القدرة على إرسال أوراق اعتماد سفير جديد لها في بيروت وفقاً للقواعد الدبلوماسية المعمول بها.
فهل كان من سبيل الصدف التوصّل إلى اتفاق لتسمية جوزاف عون رئيساً للبنان بعد مضي شهر واحد على سقوط نظام الأسد في سوريا؟
الملفات العالقة بين البلدين..
كانت زيارة رئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي إلى دمشق متأخّرة نوعاً ما، مقارنة بغيرها من الدول العربية، نظراً لخصوصية العلاقة بين البلدين وتداخلهما شعبياً ورسمياً.
كما أنها جاءت بعد زيارة الزعيم الدرزي وليد جنبلاط لدمشق، ولقائه رئيس الإدارة الجديدة في سوريا أحمد الشرع، والتصريحات الإيجابية التي رافقتها.
ربما السبب يعود إلى انتظار انتخاب رئيس جديد في لبنان، ومن ثمّ توجّه ميقاتي إلى سوريا برفقة ثلاثة من قادة الأجهزة الأمنية، في مؤشّر على أولوية الملفات الأمنية العالقة بين البلدين.
سوريا هي المتنفّس البري الوحيد للبنان مع الدول العربية، في ظلّ وجود الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين العربية وعدم توقيع اتفاقية سلام بين لبنان و"إسرائيل".
ستة معابر برية تربط بين البلدين لم تكن لتستثمر بشكل إيجابي على الدوام، فكانت معابر للتهريب وزعزعة الأمن والاستقرار لكلا البلدين في كثير من الأوقات.
حدود برية طويلة تفصل بين البلدين يصل طولها إلى 375 كم، وهي عبارة عن جبال شاهقة ووديان منخفضة، لتشكّل ما يمكن أن نسمّيه "لعنة الجيوبولتيك" التي تزيد من صعوبة تأمين الحدود وحمايتها بين البلدين.
ملف اللاجئين السوريين في لبنان بات أولى الملفات العالقة بين البلدين، نظراً لحجمهم الكبير الذي يقدّر بنحو مليون ونصف المليون، عانوا ما عانوه من فقر وإهمال، وعدم الاعتراف بهم كلاجئين، بل أطلقت عليهم الحكومة اللبنانية صفة "النازحين" لتتهرّب من التزاماتها نحوهم.
كثير من الفرقاء اللبنانيّين لم ينظر إليهم نظرة إنسانية فمارسوا ضدّهم اعتداءات كثيرة لا تنمّ عن أخلاق الشعب اللبناني بكلّ تأكيد، وهو المحبّ لسوريا والعرب جميعاً.
عودة اللاجئين باتت أكثر احتمالاً بعد سقوط النظام في سوريا، لكنّ الكثير منهم قد لا يعودون نتيجة لغياب البنية التحتية وعدم توفّر فرص العمل لهم في سوريا حتى الآن.
البحث عن مصير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية هو أحد الملفات الهامّة والتي يتوجب على البلدين وضع نهاية لها، خاصة وأنه قد تمّ تحرير جميع المعتقلين في سجون النظام السابق.
ودائع السوريين في البنوك اللبنانية ورفع السرية المصرفية عنها مطلب هامّ للسوريين جميعاً، وهو ما تسعى الحكومة الانتقالية في دمشق إلى الوصول إلى تفاهم حوله مع الجانب اللبناني.
قسم من تلك الودائع يعود لتجار ورجال أعمال سوريين، لكن القسم الأكبر منها هو "أموال فساد" تعود لمسؤولين في النظام السابق، وبالتالي فإنّ عملية استرجاعها تزيد من شعبية الحكومة الانتقالية في دمشق وتحسّن من الأوضاع الاقتصادية في سوريا.
ضبط الحدود ومكافحة التهريب مطلب لكلا البلدين، نظراً لما لذلك من انعكاسات سلبية على اقتصاد الدولتين، ومخاوف لبنان من تسلّل أفراد أو جماعات إرهابية إليها عبر سوريا.
كذلك فإنّ ترسيم الحدود يعدّ من الملفات الهامة، خاصة وأنّ الخلاف بين البلدين حول مزارع شبعا هو خلاف فريد من نوعه، فكلّ منهما يرمي تبعيّتها للجانب الآخر، وبالتالي فإنّ حلّ الخلاف حولها أمر سهل، لا يزيده تعقيداً سوى الاحتلال الإسرائيلي لها.
ناهيك عن التعاون الاقتصادي بين البلدين والمكاسب التي سيجنيها لبنان كبوابة لدخول الشركات التي سوف تشارك في إعادة إعمار سوريا.
المخاوف المتبادلة بين البلدين..
لا شكّ أنّ وصول نمط مختلف من القيادة لحكم سوريا أثار حفيظة لبنان رسمياً وشعبياً، بالنظر إلى "الخلفيّة الجهاديّة" لمعظم أفرادها، والخوف من فكرة "تصدير الثورة".
الاسم الرسمي لـ "هيئة تحرير الشام" يزيد من تلك المخاوف، خاصة وأنّ لبنان جزء من بلاد الشام، وبالتالي فإنّ تحريره يعدّ جزءاً من أهداف الهيئة.
حديث قائد الحكومة الانتقالية في سوريا أحمد الشرع عن نيّته حلّ الهيئة مع انعقاد مؤتمر الحوار السوري، أرسل رسائل إيجابية للدول العربية (الأردن ولبنان على وجه الخصوص)، باعتبارهما جزءاً من بلاد الشام.
وجود مقاتلين عرب وأجانب داخل سوريا، وترقية البعض منهم إلى مناصب عليا في وزارة الدفاع السورية أمر مقلق للبنان وغيره من الدول العربية.
الحفاظ على هوية لبنان كبلد ذي أكثرية مسيحية أمر هامّ بالنسبة للبنان والدول الغربية، وبالتالي فإنّ أيّ ممارسات تجاه الأقلية المسيحية في سوريا ستكون له نتائج سلبية على الوجود المسيحي في المنطقة.
مع الإشارة هنا إلى أهمية ما قامت به الحكومة الانتقالية في سوريا لطمأنة الطائفة المسيحية، حيث استقبل الشرع وفداً من أبناء الطائفة المسيحية وجرى تعيين عدد منهم في مواقع إدارية عليا، كما جرت احتفالات الميلاد ورأس السنة كما هو معتاد سابقاً.
تأكيد أحمد الشرع أنّ سوريا ستقف على مسافة واحدة من جميع الأطراف السياسية في لبنان يظهر رغبة سوريا في تصحيح العلاقات بين البلدين.
يبدو أنّ البلدين يسعيان لإقامة علاقات متوازنة بينهما، وخالية من رواسب الماضي، لكنّ ذلك يتوقّف على مدى قدرتهما في التقليل من التدخّلات الخارجية التي كثيراً ما كانت السبب الرئيس في الإساءة لتلك العلاقات.