سوريا...إعادة التموضع إقليمياً ودولياً

إعادة تعريف نموذج الدولة وشكلها، وإعادة تعريف الاقتصاد أولى المهمات التي يتوجب على الحكومة صوغها بما يتناسب مع الواقع السوري، وصولاً إلى خلق الثقة بينها وبين "الآخر".

  • ما المطالب السياسية من دمشق؟
    ما المطالب السياسية من دمشق؟

تسعى الحكومة الانتقالية في سوريا إلى استعادة مكانة سوريا المناسبة، إقليمياً ودولياً، لكنّ ذلك يتطلب منها العمل على طمأنة الجميع، ومخاطبة العالم باللغة التي يفهمها.

جميع الدول لديها مخاوف مما يجري في سوريا، نظراً للخلفية الأيديولوجية للقيادات الحاكمة فيها، كما أن لديها مصالح في سوريا ومعها، تسعى لحمايتها والحفاظ عليها.

الدول الأجنبية غير معنية بمصالح الشعب السوري وتطلعاته إلا من زاوية أن لا تتحوّل سوريا إلى "دولة فاشلة"، وبالتالي المزيد من الهجرة واللجوء وتهديد الأمن القومي لتلك الدول.

ثلاثة مؤتمرات دولية تعنى بالشأن السوري عقدت خلال شهرين، بدءاً من مؤتمر العقبة، مروراً بمؤتمر الرياض، وانتهاء بمؤتمر باريس الذي لم تكن قراراته على المستوى المطلوب منه، سورياً على الأقل.

رفع العقوبات عن سوريا هو المطلب الأهم باعتبارها العقبة الأهم في طريق إعادة إعمار البلاد وتدفق الاستثمارات الأجنبية إليها.

التحفظات الأميركية مستمرة، وبالتالي لا رفع للعقوبات حالياً، ويبدو أن سياسة الـ "خطوة خطوة" هي المسيطرة والناظمة لتعاطي الكثير من الدول مع سوريا.

القيادة السورية الجديدة نجحت، وبشكل كبير، في تبديد العديد من المخاوف، وهو ما يعكسه الانفتاح العربي والدولي على دمشق، لكنه انفتاح دون المستوى المطلوب بكل تأكيد.

إعادة تعريف نموذج الدولة وشكلها، وإعادة تعريف الاقتصاد أولى المهمات التي يتوجب على الحكومة صوغها بما يتناسب مع الواقع السوري، والالتزام بتطبيقها، وصولاً إلى خلق الثقة بينها وبين "الآخر"، سواءً أكان هذا الآخر مواطناً سورياً أو دولة أخرى.

سوريا "أرض الخيرات والويلات"، فيها الكثير من الثروات والموارد، لكنها تفتقد إلى الإدارة والرؤية القادرة على تأمين مستلزمات تلك العملية.

المطالب السياسية من دمشق...

ترى العديد من الدول أن الحكومة السورية معنية بتحقيق الاستقرار الداخلي في سوريا، وهذا الاستقرار لن يكون إلا بتشكيل حكومة جامعة وممثلة لجميع أطياف المجتمع السوري.

وجود الكفاءات والخبرات العالية (التكنوقراط) في الحكومة القادمة سيسهل مساعي سوريا في "خلق الثقة" بينها وبين المجتمع الدولي، ومؤسسات التمويل الدولية بكل تأكيد.

مؤتمر باريس كان "فرصة" للحكومة السورية كي تقدم نفسها أكثر للعالم، وتسعى للحصول على المزيد من الدعم والتأييد الدولي لها.

حضور ممثلين عن مجموعة السبع، وممثل للأمين العام للأمم المتحدة أعطى للمؤتمر المزيد من الزخم السياسي والدبلوماسي وجعل الآمال المرجوة منه أكبر من غيرها.

كان المؤتمر خطوة نحو مؤتمر بروكسل الذي سيعقد في الشهر القادم، والذي سيسبقه الإعلان عن حكومة سورية جديدة تلبّي تطلعات الجميع، وفقاً لتصريحات وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني.

مستوى التمثيل الأميركي في مؤتمر باريس، ورفض الولايات المتحدة التوقيع على البيان الختامي للمؤتمر يدلان على أن مسألة رفع العقوبات ما زالت مطلباً بعيد المنال، أو أنها خاضعة للبازار الذي تتقنه الإدارة الأميركية الجديدة.

لا معنى للوعود الأوروبية والغربية إذا لم تترافق مع الرفع الأميركي للعقوبات، فهي من يسيطر على نظام "سويفت"، وتمنع تدفق الحوالات المصرفية إلى سوريا.

رفع العقوبات الأميركية عن سوريا يتطلب التوصل إلى اتفاق مع ميليشيات "قسد"، وهو ما تسعى الحكومة الانتقالية إلى تحقيقه.

حديث فرنسا عن ضرورة تحقيق "العدالة الانتقالية" في سوريا ومحاسبة مجرمي الحرب قد لا يلقى الكثير من المصداقية لدى المواطن السوري، خصوصاً أن فرنسا هي من استضافت رفعت الأسد "جزار حماة"، وسارق أموال الشعب السوري. كما أنها ساعدته على الهروب إلى سوريا بعد أن صدر قرار من القضاء الفرنسي بمحاسبته وسجنه.

أما المطالبة بتعهد الحكومة السورية بمحاربة الإرهاب فهي كلمة فضفاضة إلى حد كبير، فالحكومة لن تستطيع وحدها محاربة "داعش"، ولعل الحل الوحيد لمحاربته تكمن في وقف التمويل الخارجي لهذا التنظيم.

إعلان إدارة ترامب أنها ستتوقف عن الإنفاق على سجون "داعش" في الشمال السوري يثير قلق الكثير من الدول، خصوصاً أن التقديرات تشير إلى وجود نحو 12 ألفاً من عناصر التنظيم يتوزّعون على السجون التي تسيطر عليها "قسد" في الشمال السوري.

مصير السجناء من مسلّحي التنظيم أمر في غاية الأهمية ويثير قلق الكثير من الدول التي لا تريد عودة هؤلاء إليها، وفي مقدمة هذه الدول الصين التي لا تزال تتحفظ على التواصل مع الحكومة الانتقالية في سوريا، كما أنها قامت بسحب بعثتها الدبلوماسية من دمشق ولأجل غير مسمى بعد سقوط نظام الأسد.

إعادة التموضع على الصعيد الاقتصادي..

ورثت الحكومة الانتقالية في سوريا اقتصاداً مدمراً، أنهكته الحرب وساد فيه الفساد، حتى باتت سوريا تحتل المرتبة 177 من أصل 180 في مؤشر الفساد العالمي.

هوية الاقتصاد السوري كانت "مشوّهة"، فهو ليس "اقتصاداً اشتراكياً" كما كان يراه حزب البعث العربي الاشتراكي، وليس "اقتصاد السوق الاجتماعي" الذي كان شرطاً لانضمام سوريا إلى منظمة التجارة العالمية.

لقد كانت الهوية الحقيقية للاقتصاد السوري هي أنه "رأسمالية الدولة الاحتكارية الفاسدة"، حيث تركزت الثروة في يد قلة قليلة من رجال الأعمال الذين كانوا مجرد واجهة للرئيس المخلوع وزوجته.

الفساد في سوريا ميكانيزم متكامل ومتناغم في عمله، وبالتالي فليس من السهل تفكيكه، إلا إذا توفرت قيادة قوية قادرة على ترسيخ فكرة "النموذج" في الإدارة وفن الحكم، انطلاقاً من مقولة: "الناس على دين ملوكهم".

إعادة هيكلة القطاع العام خطوة هامة وضرورية، لم يطبق منها سوى تقليص عدد العاملين في الدولة، وتسريح عدد كبير منهم في خطوة لم يتم تفسيرها وشرحها بشكل كاف ومستفيض، ما جعلها تبدو وكأنها خطوة ارتجالية أبعد ما تكون عن القانون.

الخصخصة وبيع القطاع العام يبدو أنها خطوة قادمة وليس للحكومة تحفظات عليها، ويبقى التركيز على طريقة بيعها ومدى الشفافية المرافقة لذلك.

مساعي الحكومة الانتقالية في سوريا للحصول على المساعدات من الدول المانحة، والاقتراض من مؤسسات التمويل الدولية لن يكتب لها النجاح إلا إذا قامت الحكومة بعدد من الإجراءات وفي مقدمتها: تحقيق الاستقرار الداخلي وبناء هوية حقيقية للاقتصاد السوري، والاستعانة بشخصيات اقتصادية وازنة يسهم حضورها في تعزيز الثقة بمستقبل الاقتصاد السوري.

كذلك يتوجب على الحكومة صوغ خطة واضحة ومتكاملة لإعادة إعمار سوريا، على غرار "مشروع مارشال"، فوجود هذه الخطة هو البداية للانطلاق بمثل هذا المشروع. 

التعويل على المساعدات الدولية وحدها غير كاف، فالمساعدات "لا تبني دولاً". والاستعانة بالقروض الدولية وحدها لا تكفي، خصوصاً أن الكلفة التقديرية لإعادة إعمار سوريا تقدر بـ 600 مليار دولار، وهو رقم كبير لا يمكن توقع الحصول على أكثر من 10% منه من المؤسسات الدولية. 

كما أن لهذه المساعدات وتلك القروض ثمناً سياسياً يتوجب على الحكومة السورية دفعه، إذا كانت قادرة على ذلك وراغبة فيه.

"سوريا بلا مخيمات" هو أقصى ما يجب أن نحلم به على المديين القريب والمتوسط، خصوصاً أن 49% من المباني في سوريا عشوائيات، فلا مجال للحديث عن الرفاهية وتوقع العيش الرغيد.

الحديث عن الوصول إلى "اقتصاد حر" لا معنى له، فكل الاقتصادات حرة، لكن العبرة تكمن في القدرة على قيادة الاقتصاد وصولاً إلى تحقيق التنمية المنشودة.

البناء على الوهم" هو أخطر ما يمكن أن نعيشه. وفي هذا الإطار، يمكن فهم "التحسن الوهمي" في سعر صرف الليرة السورية مقابل الدولار، رغم توقف عجلة الإنتاج وحالة الشلل شبه التام التي يعاني منها الاقتصاد السوري.

المفارقة أن أكثر ما يحتاجه الاقتصاد السوري هو تشجيع الصادرات، وهذا لن يتحقق من دون تخفيض سعر الليرة السورية لا "حبسها"وتقليل المعروض منها، لخلق حالة من التحسن الوهمي في سعرها.

القروض الخارجية يمكن أن تكون عامل قوة، على غرار ما حدث في كوريا الجنوبية، إذ استطاعت توظيف تلك القروض في مشاريع تنموية حقيقية أدت في المحصلة إلى انتقالها إلى مصاف الدول المتقدمة.

أما بعض الدول العربية فقد وظفت القروض الخارجية التي حصلت عليها في مشاريع الرفاه وتطوير البنية التحتية وبناء القصور وغيرها، بدلاً من توظيفها في مشاريع تنموية حقيقية، فكانت تلك القروض وبالاً عليها وعلى الأجيال القادمة من أبنائها.

غياب البيانات والمعلومات الصحيحة حول الاقتصاد السوري يزيد من تعقيد المسألة، ويحتّم على الحكومة البدء بتأسيس قاعدة بيانات واضحة وشفافة تسهم في تعزيز ثقة المستثمرين، وتشجعهم على القدوم إلى سوريا.

تفكك البنية الإدارية للدولة في سوريا أمر في غاية الأهمية، ويمكن لفرنسا المساهمة في تطويره لكون النظام الإداري والقانوني في سوريا مستمداً من النموذج الفرنسي وبشكل كبير.

أفكار كثيرة تقدمها الحكومة السورية ويبقى التحدي الأكبر أمامها في القدرة على تحويل تلك الأفكار إلى مشاريع يمكن الاستفادة منها في الانتقال بسوريا إلى المكانة التي تليق بها.