سماحة السيّد، لماذا لا يكون كلُّ العربِ أنت؟
سماحةَ السيِّدِ الشهيد، من أين ندخلُ إلى جرحِنا العميق ، ينزُّ مِن غزَّةَ إلى الضفَّةِ إلى الجنوب، نضمِّدُهُ بشاشٍ مطهَّرٍ بالصلاة ونسألُ في دعائنا ، لماذا لا يكونُ كلُّ العربِ أنت؟
في غُرفتي الصَّغيرة تتجوَّلُ دَمعَةٌ في مُنتَهى التَّهذيب تبحثُ عن وسادَةٍ متفاءِلة وسطَ نُدرةِ الأرائِكِ الوثيرةِ.
سرعانَ ما عقدتُ قِرانَ صَلاتي عليها
وكَمِثلِ غَرامِ خِصلَتَينِ شقراوَينِ متحدِّرَتَينِ من سُلالةِ ضفائرَ مريميّةٍ جلَسنا معاً فوقَ أريكَةٍ تتقنُ خيوطُها تِلاوةَ الفاتحة نتندّرُ على حماقَةِ الأحقادِ المتناسِلة ونزاولُ كبرياءَنا البَتول على كُنوزِ القياصِرة وأَمجادِ كِسرى.
لا سراجَ في عتمةِ غرفَتي الصغيرة
إلا طيفُ سبّابتِك ومسبحَتي الورديَّةِ تُتَكتِكُ ثلاثةٌ وثلاثونَ من كُراتِها الخشبيَّةِ المدوّرةِ سجودَ التهدُّجِ المؤمن بالله.
فَها أنذا أتأمّلُ عبرَ شُبّاكِيَ المفتوحِ على الآفاق قمراً منشَقّاً إلى نِصفَينِ
كأنهُ قربانةٌ مكسورةٌ بينَ أصابِعِ كاهِنٍ جَليل؛ حِراءٌ فضّيّةٌ بينَ خدّيهِ المَشطورَتَينِ تلوّحُ لِوِصالي وسط سجود أهلِ مكَّةَ الصّيدا، أتلَحّفُ عباءتكَ المطرَّزَةِ بالحُبّ وأسكُبُ على الهزيعِ الأوّّلِ مِن ليلِ تأمُّلي الطّويل
نُقطَتَين ساجِدَتَين من زيتِ التجلّي
ونَهدةٍ وشعلةٍ وفيَّةٍ لِعودِ ثَقابٍ
يفكّرُ خارجَ العلبَة وأستهلُّ على عتبةِ أربعينِكَ الأرجوانيَّ دُعائي:
هَبني حُنوَّ يَدِكْ، ما لمستُ حريراً وديباجاً أليَنَ مِن كفِّها..اعطِنيها منبسِطَةً كسهلِ بِقاعٍ مطرَّزَةً
بالنخلِ والرُمّانِ وبأنامِلَ فِضَّةٍ تهطلُ
فينا بَرداً وسلاماً وامسحْ بها جَبينَ المشرِقِ المُعتَلّ.
ضُمَّها إلى طَيفِ يدٍ مثقوبَةٍ بَمِسمارٍ مضلَّعٍ ، يدٌ ناصريّةٌ أبرأَتِ الأَكمَهَ والأبرَصَ وتَرافَقا قليلًا فوق جرحِ غزَّةَ وَعَرِّجا معاً صوب مفارق بُحَّةِ صوتِ مؤذِّنٍ حَنون وامتَشِقا معاً حبلاً مجدولاً من خيوط الخَيش والكتّان وَاقرَعا معاً جرسَ كنيسةِ المَهد، هذا ماءٌ مقدّسٌ في الجرن وذاكَ ماءٌ شِفاءُ سَقَم. معاً ترافَقا حتى يتوضأَ العالمُ بدمعتَين من أحمد الدُرَّة ويتلو الكون فعل ندامَتِه على جريمة صلب فلسطينَ فوق جلجلة السُّكوت.
سماحةَ السيِّدِ الشهيد، من أين ندخلُ إلى جرحِنا العميق ، ينزُّ مِن غزَّةَ إلى الضفَّةِ إلى الجنوب، نضمِّدُهُ بشاشٍ مطهَّرٍ بالصلاة ونسألُ في دعائنا ، لماذا لا يكونُ كلُّ العربِ أنت؟ أما كنتَ وما زلتَ وستَبقَى كلَّ العرب؟
يقصِفونَ المصلّين في المساجد وَيتقاصفُ المسلمون برفات الشهداء
هؤلاء الذين صرخَ إبراهيم شحرور
بلغته العامية قائلًا عنهم" وِقفو..صَلّو ركعتَين ووَقَّفو، صَعبِه يكَفّوا بَعد ما تْشَقَّفو"..
أمَّ الصلاةَ يا سماحةَ السيِّدِ في محرابِ مدرسة التابعين، هناكَ لَملَموا بقاياهُم، كلُّ سبعينَ كيلوغراماً من الأشلاءِ في كيسٍ أسوَد
تعاهدوا احتسابَها شهيداً واحداً، تناثُرُها جعلَ مستحيلًا التعرفّ على أسمائها. في فلسطين ضاقت الأرض بالأضرحة يا سيِّد حتى كُتِبَت فوقَ بطون الحوامل شواهدُ القبور،فيا شعب البطولة كيف تموت الأجنة بلا أسماء وكيف تُكَفِّنُ البطونُ أجنَّتَها
وأين يصلّي الشهداءُ على الشهداء؟
أُمَّ الصَّلاة يا سيِّد حتى ينتصرَ المحراب على الحِراب. ألا يكفي سيفُ وجهِكَ لتنتصرَ الدماءُ على السيوف؟ ألا يكفينا هذا الموتُ حتى تستحيلَ صفّينُ صفّاً واحداً في مواجهة ليالي المَبيتِ التي تتناسلُ كلَّ ليلَةٍ وسطَ المناسِفِ المطهيَّةِ بلُحومِ أطفالِ العرب؟
جِئناكَ لتأتي إلى أشواقِنا من كل الأمكنة وقَصدناكَ في أَربعينِك لنراكَ في كلِّ الأزمنة علَّكَ وسطَ العمائمِ المُطيعةِ تُشهِرُ سحابَتَكَ تلكَ التي كَساها عليٌّ، فَارخِ طَرَفيها بين يديكَ هُنَيهَةً واصفَع بها هنيهةً أخرى وجه الضَّميرِ النائم علَّه يستفيق!
نتجوَّلُ في رحاب أربعينكَ في حدائقِ وجدانكَ الفسيح حامِلينَ شبكةً مخرَّمَةً نلتقطُ فيها فراشاتٍ تصفِّقُ أجنِحَةُ ابتهالاتِها في فضاءاتِك النورانيَّةِ الرَّحبةِ، وها نحن نلتقطُ في استهلالِ جولَتِنا شَرانِقَ أدمُعٍ تُذرَفُ مُضَرَّجَةً بألفِ لبَّيكَ يا نصرُ الله.
يا فَيضَ العِبارَةِ وَأُفقَ المَعاني، أليسَ مِنْ لُطْفِ اللَّهِ وَكَرَمِهِ أَنْ يَكُونَ تَكْلِيفُكَ بِمِثْلِ هَذِهِ السُّهُولَة؟
يا مَن لَم تَسَعْهُ المطارِحُ وَمَن آخُهُ تنزِفُ من جرحِ التآخي ومَن إذا هبَّت زعازِعُ الرّيحِ هدَّأَها بسبابةٍ، فلا تَعجَبَّنَّ يا قارِئي إذا سمحتُ برُوحي في هواه رخيصةً فَمَن يهوى لا يُؤثِرُ على الحبِّ غاليا.
أَكَفَنٌ للموتِ هذا الذي لُفِفتَ بهِ أم ثوبُ زِفاف؟ يا سيِّدا أجود مِسماح، أيُّ عصاً كُسِرَت مع خواطِرِنا؟ أيُّ عطشٍ للعزِّ كنتَ ترويهِ وجوعٍ للسؤدُدِ كنتَ تطعِمُهُ؟ أيُّ نَبعٍ ولم تُفجِّرُهُ وأيُّ جبلٍ ولَم تُوتِّدهُ وأيُّ قوةٍ لم تكن حكمَتَها وأي حكمةٍ لم تكن قوَّتَها ثمَّ تأتينا لومةُ لائمٍ بأننا أسرفنا في عشقنا فنردُّ أن لا خير في الإسرافِ إلا في الحب مردِّدينَ مع الحلاج " يا لائمي في هواه كم تلومُ فَلَوْ عرَفْتَ منـه الـذي عنيتُ لـم تـَلُمِ".
اسمعوا يا سادة ماذا قال السيِّدُ مستَشهِداً بالسيِّدِ المسيح: أنا أسأل سؤالًا هنا - يقول سماحتُهُ- وهذا ما ينتظرُهُ المسيحيون أيضاً، المسيح الذي نقرأُ عنه في الإنجيلِ وفي القرآن وفي سيرَتِه وفي أخلاقِه وفي قِيَمِه، المسيحُ الذي سيعودُ عودَتَهُ إلى الدُّنيا، نَصيرُ مَن سَيَكون؟ هذا المسيحُ الذي تَعمَلونَ لِيَعود سيكونُ نصيرَ مَن؟ هل سيكون نصيرَ الطُّغاة والعُتاة والجَبابِرَة والفَراعِنَة؟ هل سيكون نصيراً وعوناً للقَتَلَة المتوحِّشين المجرمين الذين يسفِكونَ دِماءَ مَلايين البَشَر من أجل السيطرة على النفط والمال والأسواق؟ هل سيكون نصير وعون أولئك قُساةِ القلوب الذين يهدِرون الكثير من أرزاق هذه الأرض ومن قمحِهِم ليحافِظوا على سِعرِه وقيمتِه بالدولار في الوقت الذي يموتُ فيه عشرات الملايين من الجوع في العالم؟ هل هذا هو عيسى بن مريم أم أنَّ المسيح الذي نعرفُهُ ويعرفهُ المسيحيون سيكون نصيرَ الحُفاة والضُّعَفاء والفقراء والمساكين والمستَضعَفين والمعذَّبين والمظلومين؟ سيكون نصيرَ مَن؟
بهذه الكلمات خَرَجَت عباءَةُ السيِّدِ من صلاةِ مجموعةٍ إلى صلاة المجموعة ومن صلاةِ عمارةٍ دينية إلى صلاةِ معمورةٍ بشريَّة فتحوّلَ السيِّدُ من مُبَشِّرٍ بالدين إلى مبشِّرٍ بالله طابِعاً قُبلَةً روحيَّةً على قِبلةٍ مقدسيَّةٍ طَوَّبَها السيِّدُ المسيحُ سيرَةً مُتَأنجلةً بالحبّ.
المسيحُ الذي طهَّرَ الهَيكَل وفَرَضَ سلطانه بكل حزم وقوة. ولم يستطع أحد أن يتصدى له أو يمنعه مما كان يفعله... وهكذا أخرج جميع الذين كانوا يبيعون ويشترون في الهيكل
وقَلَب موائد الصيارفة، وكراسي باعة الحمام وَوبَّخَ الناسَ بِشِدَّةٍ قائلًا: مكتوبٌ بيتي بيتُ الصلاةِ يُدعى وأنتم جعلتموهُ مغارَةَ لُصوص ولَم يدع أحداً يجتاز الهيكل بمتاع.
وحسب رواية الإنجيل للقديس يوحنا البشير، يقول عن السيد المسيح إنه صنع سوطاً من حِبال، وطرد الجميع من الهيكل الغنم والبقر، وكبّ دراهم الصيارفة، وقَلَبَ موائدهم. وقال لباعة الحمام: ارفعوا هذه من ههنا"
وهذا يرينا أن المسيح الوديع كان حازماً أيضاً، يرينا مدى شخصيته المتكاملة التي تجمع الفضائل كلها. فهو وإن كان وديعاً ومتواضع القلب إلا أنه حينما يلزم الأمر، يمكن أن يكون حازماً جداً، يتصرَّف بقوة، كما حدث في ذلك اليوم..
كان السيدُ المسيحُ حازماً، وكان حزمه ممزوجاً بالتعليم "مكتوب بيتي بيت الصلاة يدعى". وهكذا نفذ ما يريد، بوضع الأمور في وضعها السليم كان لا بد من تطهير الهيكل بأي طريقة فالهيكل هو بيت الله وبيت الله له قدسيته وهذه القدسية واجب يجب الحفاظ عليه. والغيرة المقدسة تدعو إلى ذلك. وحسنٌ أن السيد المسيح أعطانا قدوة ومثالاً في هذا الأمر.
هؤلاء الصيارفة والباعة وتجّار الاحتكار والجشع الذين صاروا في زمننا هذا تجار النفط والغاز واليورانيوم وأصحاب الشركات العملاقة والمضاربين في البورصات العالمية، هؤلاء الذين ذكرهم سماحة السيد في خطابه التاريخي الذي ذكرتُهُ ها هُنا، هؤلاء صبَرَ اللهُ عليهم زماناً، بكل هدوء ولما لم ينصلحوا بالهدوء، استخدم معهم الشدة،
وفي إصلاح أي إنسان، الله مستعد أن يستخدم الكلمة الطيبة، وهو مستعد أيضاً أن يستخدم السوط، ولو للتخويف وليس للضرب. الأمران ممكنان. فبأيهما تريد أن ينصلح حالك أيها المستكبر والمتسلِّطُ والطاغي والمُحتل والمتجبِّر؟
إن كنت حساساً سريع التأثر فقلبُك يتبكَّت في داخلك من كلمة تقرأها أو تسمعُها،من عظَةٍ، من لحنٍ، من منظرٍ، مِن دُعاءٍ ومن علامةٍ يقول لك الله هذا يكفى.
أما إن كنت لا تنتفع من الكلمة الطيبة، فالسوط ممكن: المرض، التجارب، الحوادث، الضيقات، والوسائل كثيرة. واللهُ يختار المناسب لك وقد أراد الله أن يُسكِنَ روحَ المقاومة في شعبٍ أبى الذلَّ والهَوان وزوّدهُ بالصبر والإيمان والتصميم ورفدهُ بالصلاة والتوكّل والاحتساب والتصميم والتخطيط بما يتحدى مرور الأزمنة ووعورة الأمكنة ثمَّ سلَّحَهُ بما يوجعُ ويؤلمُ الطغاة والعُتاة والمفسدين في الأرض وأعطى كل هذا اسماً واحداً هو المقاومة، ولذلك نصرُّ نحن المسيحيين على اعتبار المسيح مقاوماً أوّل افتدى بدمه البشرية وخلَّصها من الشر والطغيان.
ينتظرُ السيِّدُ معنا مجيء المسيح وقد صرَّح بذلك في خطبته " سيعودُ عودَتَهُ" ولا يقولُ "إنكم" تنتظرونه وحدكم في معرض مخاطبته للمسيحيين فهو يجمُلُ نفسَهُ بطقوس الانتظار وهذا كما تعلمون وحدةُ مصيرٍ لمؤمنين متّحِدين بلاهوت الانتظار الذي هو لاهوت انتصار مبني على الرجاء بانتهاء الأزمنة المُعلِنَة بداية الدينونة وخلاص البشرية من الطاغوت والطغاة.
سماحة السيّد، في أربعينِك ما زال يخوننا الاعتراف بِأربعينِك!