رفح بين النيران المتقاطعة: بين الحق المغيَّب والافتراء المنظَّم

مصر لن تكون شاهد زور على مؤامرة، ولا جسراً لتمرير "إسرائيل الكبرى"، ولا سوقاً تُؤجّر فيها الجغرافيا باسم الإنسانية الزائفة.

0:00
  • بين الجغرافيا والضمير... بوابة تُثقل بالافتراء.
    بين الجغرافيا والضمير... بوابة تُثقل بالافتراء.

في وقتٍ تُغلق فيه الأبواب فعلياً بنيران الاحتلال على معبر رفح، تُفتح بوابات التحريض والافتراء على مصر، التي لم تغلق معبرها يوماً من طرفها. في هذا المقال، قراءة تحليلية لمعادلة رفح المعقّدة بين الجغرافيا والضمير، والحق الذي يُراد به باطل، وحملات التشهير التي تتخفّى خلف شعارات الدعم لغزة بينما تخدم أجندات أخرى.

بين الجغرافيا والضمير... بوابة تُثقل بالافتراء

ليست هذه المرة الأولى التي يتحوّل فيها معبر رفح من ممر إنساني إلى ساحة للتجاذب السياسي والتحريض الإعلامي. لكنه هذه المرة يقع في مرمى نيران مزدوجة: نيران الاحتلال الذي يقصف ويدمّر ويغلق، ونيران التشويه التي تنطلق من بعض العواصم ومراكز النفوذ في الخارج، ومن منصات يدّعي أصحابها مناصرة القضية الفلسطينية وهم في حقيقتهم يزايدون بها.

فرضت الجغرافيا على مصر أن تكون بوابة غزة الوحيدة إلى العالم، وحمّلها الضمير القومي مسؤولية الدفاع عن الحق الفلسطيني، فصارت عرضة لمحاولات الابتزاز، تحت شعارات الإغاثة والمناصرة، بينما المقصود الحقيقي هو النيل من مكانتها وسيادتها.

الحقّ حين يُراد به باطل

من المشروع تماماً أن تُرفع الأصوات مطالبة مصر – بحكم موقعها وتاريخها وثقلها – بتحمّل مسؤولياتها تجاه القطاع المحاصر. لكن حين تتحوّل هذه المطالبات إلى شعارات مشبوهة، يتصدّرها من لم يُلقِ يوماً شوال قمح أو زجاجة ماء إلى غزة، واكتفى بإطلاق شعارات مثل: "الجيش المصري صهيوني" و"يسقط يسقط حكم العسكر"، فإننا نكون أمام استغلال فجّ لمعاناة غزة لأغراض سياسية لا علاقة لها بالنُبل ولا بالواجب الأخلاقي.

الحقيقة المغيّبة عمداً

الحقيقة التي تُغيَّب عمداً هي أنّ معبر رفح من الجهة المصرية لم يُغلق منذ بدء العدوان، وأنّ البوابة المصرية ظلّت مفتوحة للإنقاذ والإجلاء والمساعدة، في وقت كانت فيه طائرات الاحتلال تمطر رفح الفلسطينية بالصواريخ والنار. ومع أنّ مصر ليست الجهة التي تملك السيطرة على الجانب الفلسطيني من المعبر، فإنها لم تتوقّف عن محاولات إدخال المساعدات وتخفيف المعاناة، رغم تعنّت الاحتلال ورفضه لكلّ محاولات التنسيق الآمن.

الاحتلال هو من يُغلق الباب

يكفي أن نشير إلى أنّ "الجيش" الصهيوني، ومنذ اجتياحه لمدينة رفح الفلسطينية في أيار/مايو 2024، يُحكم قبضته على المعبر من الطرف الآخر، مانعاً دخول أو خروج أي شاحنة أو سيارة إسعاف إلا بإذن مسبق، غالباً ما يُقابل بالمماطلة أو المنع الكامل. وقد شهد العالم كيف قُصفت قوافل الإغاثة، وكيف تمّ تحويل المساعدات إلى هدف عسكري، بدل أن تكون ممراً للرحمة.

مساعدات مصرية تتحدّث عنها الأفعال لا التصريحات

ورغم ذلك، نجحت مصر يوم 21 تموز/يوليو فقط في إدخال ألف طن من المساعدات عبر معبر زيكيم، فكان ردّ الاحتلال أن فتح نيرانه على الجموع الفلسطينية التي اندفعت نحو الشاحنات، فسقط عشرات الشهداء في دقائق معدودات.

ومع ذلك، لم تتراجع مصر، وأدخلت ما يزيد على 13 ألف طن من المساعدات في أقل من 36 ساعة، من دون أن تتفاخر أو تزايد، بل أدّت ما اعتبرته واجباً قومياً وإنسانياً. وتشير التقارير إلى أنّ إجمالي ما تمّ إدخاله من مساعدات مصرية عبر المنافذ المختلفة منذ بدء العدوان تجاوز 90 ألف طن، شملت مواد غذائية وطبية ووقوداً.

تسويق الكذب وتغذية الانقسام

الأكثر إيلاماً أنّ بعض من يتصدّرون مشهد السباب والتحريض، لم يقدّموا لغزة ما يسدّ رمق طفل أو يضمّد جراح جريح. بل إنّ فئة منهم تنتمي لتنظيم الإخوان المسلمين وفروعه المنتشرة في أرجاء المعمورة، تقيم قياداتها في دولٍ تطبّع جهاراً مع العدو، وتُشرّع له أبواب الأسواق وتغلقها في وجه الفلسطينيين.

أولئك لا يرَون في غزة إلا ورقة في لعبة الابتزاز السياسي، يرفعون صوتها حين تخدم مصالحهم، ويصمتون حين يصير صوتها عبئاً. يصوغون الشعارات بمداد المصالح لا بدموع التعاطف، ثم يقذفون التهم جزافاً على مصر، وكأنها هي من يُحاصر ويقصف، لا من تحاول بكلّ ما تملك احتواء النكبة وتخفيف آثارها، وسط تعقيدات ميدانية وسياسية بالغة الخطورة.

شيطنة ممنهجة تحت غطاء الإصلاح

فهل يُعقل أن تُحمّل مصر وحدها مسؤولية المجاعة في غزة، بينما تُنسى يد الاحتلال التي تخنق القطاع براً وبحراً وجواً؟ وهل يُعقل أن يُساء إلى مصر لأنها لم تفتح بوابةً مغلقة من الجهة الأخرى؟ أم أنّ في الأمر ما يُشبه ترتيباً مدروساً لشيطنة مصر وتفكيك موقعها العربي والتاريخي؟

مصر الحصن لا المتهم

لقد آن الأوان لقول الحقيقة كما هي، بلا مواربة ولا تزييف: مصر ليست خصماً لغزة، بل سندها، وهي التي دفعت ثمناً باهظاً في حروبها مع "إسرائيل"، وكانت ولا تزال الملاذ والممر والحصن.

وإذا كانت بعض الأصوات تطالب بدور مصري أكبر، فإننا نرحّب بالنقاش الجادّ، ونطالب أيضاً بطرح الأسئلة الصحيحة: أين بقية العرب؟ أين من يطبّعون في السرّ والعلن؟ أين من يملكون المال والقوة والبترول؟ لماذا لم نرَ منهم سفينة إنقاذ أو حملة إغاثة أو حتى شجباً لقصف القوافل الإنسانية؟ إنّ غزة اليوم لا تحتاج إلى مزايدات ولا شعارات، بل تحتاج إلى ضمير حيّ، ورؤية استراتيجية، وتنسيق بين الشرفاء، لا تبادل للاتهامات.

مصر ليست للبيع ولا فلسطين للمقايضة

ولعلّ مصر، رغم كلّ ما يُقال، كانت ولا تزال آخر الجدران الواقفة في وجه مشروع التهجير والتفريغ، ورفضت بشكل قاطع كلّ محاولات تحويل سيناء إلى بديل لغزة أو إلى مدينة خيام تحت ستار الإنسانية.

فمن شاء أن ينصر فلسطين، فليبدأ من هناك، من الوقوف مع الحقيقة، لا مع من يُراد لهم أن يكتبوا التاريخ بالافتراء.

فمصر لن تكون شاهد زور على مؤامرة، ولا جسراً لتمرير "إسرائيل الكبرى"، ولا سوقاً تُؤجّر فيها الجغرافيا باسم الإنسانية الزائفة.

وإن كان لا بدّ من مراجعة، فلتكن مراجعة شاملة تعيد ترتيب أولويات الأمّة، لا محاكم تفتيش تستهدف الدولة التي ما زالت واقفة حين تهاوت دول وشُيّعت قضايا.

إننا في زمن تُستباح فيه الحقائق، وتصاغ فيه التهم بأقلام مأجورة، لكننا أيضاً في زمن لا يحتمل الصمت. فإما أن نواجه الكذب بالحقيقة، أو نصبح جميعاً أدوات في أيدي من يصوغون مصيرنا من خلف الكواليس.

ومع كلّ ذلك، لا ننكر أنّ المطلوب من مصر بحكم الجغرافيا والمكانة والتاريخ أكبر بكثير مما تقدّمه. وندرك أنّ تطلّعات الشعوب تفوق أحياناً طاقة الحكومات، لكنّ الإنصاف يقتضي أيضاً أن نعي حجم التعقيدات وتشابك المصالح والمخاطر، وأن نفرّق بين التقصير والتآمر، بين الاختلاف والشيطنة.

وكما قال جمال حمدان: "مصر هي قلب العالم العربي والإسلامي، وإذا انكسر القلب فلا عجب أن تنهار الأطراف".

ولتبقَ مصر، رغم الجراح، جبلاً لا تهزّه الرياح، ويداً لا تُصافح الباطل، وعيناً لا تنام عن الخطر حين يغفل غيرها أو يُشغل بالترف عن التهديد المقبل.