"داعش" وانتكاساته الكبرى في العراق
يبقى المسار المنحدر لوجود "داعش" وقوته في العراق علامة مهمة للغاية على تقييم الوضع الحقيقي للتنظيم، وخصوصاً بعد مقتل زعيمه السابق أبو بكر البغدادي.
خلال أقل من أسبوعين فقط، تعرض تنظيم "داعش" الإرهابي في العراق لضربات قاصمة ومؤثرة إلى حد كبير، ربما سيكون لها انعكاسات سلبية كبيرة عليه في هذه المرحلة أو المراحل اللاحقة، ارتباطاً بسبب جوهري وأساسيّ يكمن في البعد النوعي لتلك الضربات؛ ففي الحادي عشر من شهر تشرين الأول/أكتوبر الجاري، أعلن رئيس الوزراء العراقي المنتهية ولايته مصطفى الكاظمي إلقاء القبض على سامي جاسم الجبوري المكنى أبو آسيا، المسؤول المالي ونائب زعيم تنظيم "داعش" المقتول أبو بكر البغدادي، والذراع اليمنى لزعيم التنظيم الحالي أبو إبراهيم القريشي.
وبعد أسبوع واحد، تمَّ الإعلان عن اعتقال القيادي الآخر في تنظيم "داعش"، غزوان الزوبعي، الذي يعد العقل المدبر للكثير من العمليات الإرهابية التي وقعت في بغداد ومدن عراقية أخرى خلال الأعوام المنصرمة، وكان آخرها وأكثرها دموية تفجير مجمعات تجارية مكتظة بالمتبضعين والمارة في منطقة الكرادة الشرقية وسط بغداد في مطلع شهر تموز/يوليو 2016، والذي راح ضحيته أكثر من 300 شخص.
هاتان العمليتان اللتان أسفرتا عن الوصول إلى اثنين من أكبر وأخطر القيادات الداعشية، نفّذتا خارج حدود العراق، مثلما أكدت مصادر أمنية وعسكرية رسمية عراقية، من خلال جهد وتعاون وتنسيق دام عدة شهور بين جهاز المخابرات العراقي وجهاز الاستخبارات التركي.
وبهذا الخصوص، أشار الناطق الرسمي باسم قيادة العمليات المشتركة، اللواء تحسين الخفاجي، إلى "أن القوات الأمنية بدأت تكتيكاً جديداً للقبض على إرهابيي داعش، إذ إنّ جهاز المخابرات الوطني قام بعملية نوعية استطاع من خلالها استدراج نائب أبو بكر البغدادي من دولة أخرى وإلقاء القبض عليه داخل العراق".
في الوقت ذاته، تحدثت مصادر خاصة لبعض وسائل الإعلام عن "أن الاستخبارات التركية تعاونت مع قوات الأمن العراقية في عملية إلقاء القبض على سامي جاسم الجبوري، الذي كان مختبئاً في منطقة شمال غربي سوريا". والشيء نفسه تقريباً مع القيادي الداعشي، غزوان الزوبعي، الذي نقلت أوساط مطلعة معلومات عن اعتقاله في دولة مجاورة للعراق، ثم نقله جواً إلى بغداد.
قد ينظر البعض إلى مثل تلك العمليات على أنّها تشكل استمراراً لجهود ملاحقة تشكيلات تنظيم "داعش" وقياداته وقواعده من قبل القوات العسكرية والأجهزة الأمنية العراقية، وهذا صحيح جداً، بيد أن هناك ما هو مختلف عما يعلن عنه بين الفينة والأخرى من هجمات وضربات برية أو جوية على أوكار "داعش" في مناطق ومدن مختلفة، والاختلاف هنا يكمن في جملة أمور، من بينها:
- أن العمليات الأخيرة كانت نوعية، باعتبار أنها استهدفت قيادات داعشية كبيرة ومهمة في هيكلية التنظيم، مثلت لبضعة أعوام أبرز محاور "داعش" ومحركات عمله وتحركه وفاعليته، ليس في العراق فحسب، بل في دول ومواقع أخرى أيضاً.
- اعتقال كلٍّ من الجبوري والزوبعي وعدم قتلهما أمر ينطوي على أهمية استثنائية، انطلاقاً من أن الاعتقال يمكن أن يوفر قدراً كبيراً من المعلومات التي من شأنها أن توصل إلى قيادات ومثابات وخطوط داعشية عديدة، بجهد أقل ووقت أقصر، وبالتالي، قطع شرايين التخطيط العملياتي، والتمويل المالي، والترابط التنظيمي لتنظيم "داعش".
- بدلاً من أن تكون عمليات استهداف هذين القياديين الإرهابيين ذات طابع عسكري، فإنها كانت ذات طابع استخباراتي بحت، ما يؤشر إلى تغير في جانب من استراتيجية مواجهة "داعش"، وخصوصاً بعد أن باتت الأدوات والوسائل العسكرية غير كافية وغير مجدية في مواجهة شبكات التنظيم المتغلغلة تحت الأرض وملاحقتها، على العكس تماماً مما كان عليه الحال خلال مرحلة الحرب المباشرة منذ صيف العام 2014 وحتى إعلان النصر الشامل على "داعش" في نهايات العام 2017.
- التنسيق والتعاون الاستخباراتي مع أطراف خارجية قد يكون موجوداً وقائماً في السابق، ولكن في العمليات الأخيرة، بدا أكثر وضوحاً وأكبر أثراً، ولا سيّما في ما يتعلق الأمر بجهاز الاستخبارات التركي، لأن مثل ذلك التعاون والتنسيق لم يكن ليتم من دون أن يكون هناك قرار سياسي عالي المستوى، وهو ما يعكس نوعاً من التحول في توجهات أنقرة، فضلاً عن مستوى ذلك التوجّه، فالمعروف أنّ التعاون والتنسيق الاستخباراتي لمحاربة تنظيم "داعش" اقتصر أساساً على كل من العراق وسوريا وروسيا وإيران، عبر إنشاء مركز عملياتي بهذا الخصوص في منتصف شهر أيلول/سبتمبر 2015، مركزه العاصمة العراقية بغداد، وبقي الكثير من الشبهات يحوم حول دور سلبي تركي في التعاطي مع ملف الإرهاب والتنظيمات الإرهابية في المنطقة، ولا سيما مع مواقفها من مجمل الأزمة السورية، وتقديمها الدعم والإسناد العسكري والمالي لجماعات إرهابية من أجل إسقاط نفوذ النظام السوري الحاكم أو إضعافه.
ولعلّ التعاون والتنسيق الاستخباراتي بين بغداد وأنقرة لتعقّب قيادات "داعش" كانا مشروطين بتعاون وتنسيق مماثل بين الطرفين لتعقّب قيادات حزب العمال الكردستاني التركي المعارض (PKK) وملاحقته، وهو ما تتحدث عنه أوساط ومصادر خاصة من كواليس بعض المؤسسات الأمنية والاستخباراتية العراقية، وبإشراك مؤسسات وأجهزة استخباراتية تابعة لحكومة إقليم كردستان المحلية في أربيل.
وربما كان هناك هدف آخر وراء تعاون أنقرة ومساعدتها لبغداد في ملف الإرهاب الداعشي، وهو حرصها على الحؤول دون اتساع وجود "داعش" أو انتقاله إلى دول أخرى، تطمح أنقرة إلى أن يكون لها حضور ودور محوري فيها، في إطار السياسات التوسعية للرئيس التركي رجب طيب إردوغان.
وبما أنَّ تنظيم "داعش" ذو طابع أخطبوطي متشابك، ولا يستسلم بسهولة، فإنَّ عملياته الإرهابية الَّتي استهدفت مؤخراً مسجدين للشيعة في مدينتي قندوز وقندهار الأفغانيتين تمثّل بشكل أو بآخر رداً على الضربات النوعية، وكذلك الحال بالنسبة إلى التفجير الإرهابي الذي وقع قبل عدة أيام في العاصمة السورية دمشق، على اعتبار أنَّ الأخيرة لم تكن بعيدة عن عمليتي اعتقال الجبوري والزوبعي. إلى جانب ذلك، على الحكومة العراقية، بأجهزتها الأمنية والاستخباراتية، أن تتحسب جيداً لاحتمالات إقدام تنظيم "داعش" على تنفيذ عمليات إرهابية تستهدف المدنيين، كما هو معتاد.
وفي كلّ الأحوال، يبقى المسار المنحدر لوجود "داعش" وقوته في العراق علامة مهمة للغاية على تقييم الوضع الحقيقي للتنظيم، وخصوصاً بعد مقتل زعيمه السابق أبو بكر البغدادي بعملية عسكرية في مدينة إدلب السورية في 27 تشرين الأول/أكتوبر 2019.
ومن غير المستبعد أن يلقى الزعيم الحالي للتنظيم أبو إبراهيم القريشي المنحدر من مدينة تلعفر غرب محافظة نينوى المصير نفسه، ولا سيما مع تساقط كبار قادة التنظيم الواحد تلو الآخر، ومع ارتفاع وتيرة التعاون والتنسيق، وتبدّل الأولويات السياسية الاستراتيجية عند أكثر من طرف إقليمي ودولي في ضوء حقائق ومعطيات الواقع القائم، بدءاً من أفغانستان، مروراً بإيران وبعض جمهوريات آسيا الوسطى، ومن ثم سوريا والعراق ولبنان، حتى شمال أفريقيا والمغرب العربي.