خُطة ترامب بشأن غزة، قرصنة ممكنة أم أضغاث أحلام!

المسار الذي تسلكه "إسرائيل" الآن، تحت تأثير خزعبلات ترامب، قد يقودها بالضبط إلى دائرة حروب جديدة، إذ سيتوصّل "جيرانها" إلى استنتاج مفاده أن "إسرائيل" لا تفهم إلا القوة.

  • أحد أهم المعايير التي يُستند إليها للحكم على مقترح ترامب هو إمكانية تنفيذه.
    أحد أهم المعايير التي يُستند إليها للحكم على مقترح ترامب هو إمكانية تنفيذه.

توقّعت أوساط مقرّبة من رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو أن يكون لقاؤه مع الرئيس الأميركي دونالد ترمب هذا الأسبوع "استعراضاً للوحدة"، وتوقّع المعلّقون لقاءً تاريخياً ومصيرياً بشأن تنفيذ المرحلة الثانية من صفقة الإفراج عن الأسرى؛ لكنّ القمة بين الزعيمين، فاقت التوقّعات الأكثر جموحاً لمن حولهما، بل في العالم، ومن المرجّح أنها خيّبت آمال الكثيرين.

نجح ترامب في ولايته السابقة في توقيع اتفاقيات "أبراهام التطبيعية" بين "إسرائيل" والإمارات العربية المتحدة والبحرين، غير أنها في واقع الأمر لم تكن إلا "اتفاقيات لتجاوز الشعب الفلسطيني وقضيته"، ولم يكن الهدف وراءها خلق السلام بين "إسرائيل" والإمارات العربية المتحدة أو البحرين، اللتين لم تكونا في حالة حرب معها على أي حال، إنما خلق واقع جديد في الشرق الأوسط يتم فيه تهميش القضية الفلسطينية وتطلعات الفلسطينيين لنيل الاستقلال وإنهاء الاحتلال.

لكنّ المفاجأة أن السنوات الأربع التي مرّت منذ ذلك الحين كانت هي الأكثر مقاومة في تاريخ الصراع العربي – الإسرائيلي، فبعد 6 أشهر من توقيع الاتفاقيات المذكورة، اندلعت أحداث هبّة أيار/ مايو 2021، أو ما عُرف بمعركة "سيف القدس" ما أدى إلى توسيع دائرة المواجهة بين "إسرائيل" والفلسطينيين إلى كامل الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما في ذلك داخل الخط الأخضر، لأول مرة منذ عام 1948. وسجّل عاما 2022 و2023 مستويات قياسية من العمل الفدائي المقاوم في الضفة الغربية وداخل مناطق فلسطين المحتلة عام 48 حتى جاء السابع من أكتوبر 2023، وأصبح واضحاً للجميع أن تجاوز القضية الفلسطينية هو بمنزلة أضغاث أحلام تعتري الواهمين.

واليوم، بعد أن عاد ترامب ليتسيّد البيت الأبيض أطلق في القمة التي جمعته هذا الأسبوع بنتنياهو خطته الجديدة التي تفترض أنه "إن لم يكن بالإمكان تجاوز الفلسطينيين، فدعونا نطردهم"!.

وإن كان اقتراح ترامب يقتصر حالياً على غزة، فليس هناك ما يمنع توسيعه ليشمل الفلسطينيين في الضفة الغربية، وقد تكون "القدس الشرقية" أو أم الفحم أيضاً هي التالية في القائمة.

إن أحد أهم المعايير التي يُستند إليها للحكم على مقترح ترامب هو إمكانية تنفيذه؛ فما هي إمكانية أن يوافق مليونا فلسطيني، معظمهم من اللاجئين أو أحفاد اللاجئين، الذين فضّلوا العيش في مخيمات اللاجئين في غزة لمدة 75 عاماً ولم يغادروا وطنهم، على مغادرة القطاع الآن!. وما هو احتمال أن توافق دول مثل الأردن أو مصر على قبول حتى جزء من هذين المليونين وهما تعلمان جيداً أن هذه الخطوة قد تؤدي إلى انهيار نظاميهما!.

ويبدو كذلك أن احتمال أن تكون الولايات المتحدة، التي انسحبت من العراق وهربت من أفغانستان، على استعداد الآن "لتولي ملكية" قطاع غزة وإدارته وتنميته، بعيد المنال بالقدر نفسه.

ورغم أن فرص تطبيق "الخطة" تبدو ضئيلة للغاية، فقد كان لها بالفعل تأثيرٌ عميق على الخطاب السياسي في "إسرائيل". وربما يكون أكثر دقة أن نقول إن هذا الخطاب "الترامبي المهووس" يعكس حقيقة التيارات والتوجهات الأعمق في المجتمع الإسرائيلي، فلم يتفاجأ أحدٌ من أن اليمين الديني الفاشي تعامل مع المؤتمر الصحفي الذي عقده ترامب ونتنياهو في البيت الأبيض باعتباره "وحياً إلهياً"!.

حتى أولئك الذين يُنظر إليهم في "إسرائيل" بوصفهم "معتدلين" مثل بيني غانتس، قالوا إن خطة ترامب لترحيل الفلسطينيين تمثل تفكيراً "إبداعياً مثيراً للاهتمام"، ناهيك بـ"جيش" الاحتلال، الذي نُقل عن مسؤول كبير في هيئة أركانه العامة قوله إن مبادرة ترامب بشأن الترحيل هي "فكرة ممتازة".

المؤكد أن تصريحات ترامب هذه لن تمر من دون أن تكون لها عواقبها "الوخيمة" على المدى القريب؛ فشعور "إسرائيل" بأن لديها فرصة تاريخية لإفراغ قطاع غزة من سكانه الفلسطينيين سوف يعطي دعماً كبيراً لمطالبة بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير بتفجير وقف إطلاق النار قبل الوصول إلى المرحلة الثانية، واحتلال غزة ودفع الفلسطينيين إلى الخروج منها. ومن المرجح أن يستجيب نتنياهو لمثل هذا الطلب، ومن غير المتوقع أن يعترض ترامب، على عكس الآمال التي علّقتها عليه عائلات الأسرى وبعض السياسيين الإسرائيليين.

وحتى لو افترضنا جدلاً أنه تم تنفيذ المرحلتين الثانية والثالثة من الصفقة، وتم إطلاق سراح الأسرى، وانسحب "جيش" الاحتلال من القطاع، وتم التوصل إلى وقفٍ دائم لإطلاق النار، فإن خطة ترامب ستترك أثرها الكبير على التوجهات السياسية في "إسرائيل". فما هو الحافز الذي قد يدفع أي حزبٍ صهيوني يهودي إلى التوصل إلى اتفاق سياسي مع الفلسطينيين، إن كان الجمهور الإسرائيلي ينتظر "بحماس" خيار "إفراغ هذا البلد بأكمله من سكانه"؟ 

أما بالنسبة إلى الفلسطينيين؛ فحين يقترح الرئيس الأميركي الترانسفير كحل للمشكلة الفلسطينية، وحين تتبنى "إسرائيل" كلها، من أقصى يمينها الفاشي الديني إلى أقصى الوسط الليبرالي واليسار الصهيوني، هذا الحل، تصبح الرسالة، حتى بالنسبة إلى دعاة التصالح مع "إسرائيل" من بين الفلسطينيين، واضحة لا لبس فيها "لا إمكانية للتسوية السياسية مع إسرائيل وحليفها الأميركي الحالي".

والواضح أن خطر هذا الطرح لا ينتهي عند هذه النقطة؛ فبسبب افتقار ترامب التام إلى فهم الشرق الأوسط وعقليته وثقافته يلقي بالقضية الفلسطينية إلى "حِجر" دول المنطقة ويحوّلها من صراع إسرائيلي - فلسطيني، إلى صراع عربي – عربي داخل هذه الدول بما يطال أمنها واستقرارها.

فمثل هذا الطلب يعدّ تهديداً مباشراً للأنظمة في العالم العربي؛ فالنظام الأردني مثلاً يخشى أن يؤدي تدفق أعداد كبيرة من الفلسطينيين إلى المملكة إلى نهايته، لأنه سيغيّر التوازن الديموغرافي الدقيق هناك، وهو الذي ظل دائماً يخشى من إمكانية أن يطبّق اليمين الإسرائيلي فكرة أن "الأردن هو فلسطين" ويتعامل مع المملكة كدولة فلسطينية.

كما أن مصر والأردن لن تتعاونا مع هذه الخطوة، على الرغم من تأكيدات ترامب بأنهما ستضطران إلى الامتثال بسبب اعتمادهما على المساعدات والدعم العسكري الأميركي، فبالنسبة إلى كليهما، يتجاوز اقتراح ترامب الخطوط الحُمر. 

كما أن اتفاقيات السلام مع مصر والأردن تشكل حجر الزاوية في الأمن القومي الإسرائيلي، وسيكون من غير الحكمة دعم سياسة من شأنها أن تقوّض نظامين يشكّل التعاون معهما في المسائل الأمنية والاستخبارية أهمية بالغة بالنسبة إلى "إسرائيل".

وإذا ما استمر نتنياهو في سياسته الداعمة لأفكار ترامب للحفاظ على تحالفاته الداخلية، فقد يقود إلى تقويض تحالفات "إسرائيل" مع الأردن ومصر، من دون أن يحصل على شيء في المقابل.

وبالتأكيد، فإن هذه الخطوة "المجنونة" التي اتخذها ترامب، وتبني "إسرائيل" الغريزي لها، من شأنه أن يرسل رسالة إلى الأنظمة في الشرق الأوسط، حتى تلك التي تُعرف بأنها "معتدلة"، مفادها أنه لا جدوى من التنازل، وذلك لأن "إسرائيل" تعتقد أنها بفضل قوتها العسكرية والدعم الأميركي اللامتناهي تستطيع فرض أي حل تريده على الشرق الأوسط، بما في ذلك تهجير الملايين من بلادهم وإلغاء حق الشعوب في تقرير المصير، على الرغم من أن العالم أجمع تقريباً اعترف بهذا الحق.

لم تكتف "إسرائيل" في الحرب الأخيرة التي خاضتها على جبهات عدة، بالقتل الجماعي وتدمير البنية التحتية، بل احتلت أجزاء من لبنان وترفض الانسحاب منها رغم الاتفاق الذي وقّعته، واحتلت أجزاءً من سوريا من دون أن تُبدي استعداداً للانسحاب منها، ومن المؤكد أن هذه الحقيقة تعزز الانطباع بأن "إسرائيل" توصّلت إلى استنتاج مفاده أنها قادرة على خلق نظام جديد في الشرق الأوسط بالقوة؛ من دون موافقة العرب، ومن دون التفاوض معهم.

إن المسار الذي تسلكه "إسرائيل" الآن، تحت تأثير خزعبلات ترامب، قد يقودها بالضبط إلى دائرة حروب جديدة، إذ سيتوصّل "جيرانها" إلى استنتاج مفاده أن "إسرائيل" لا تفهم إلا القوة، فحين تُخيّر هذه الأنظمة بين القبول مُكرَهةً باستيعاب اللاجئين الفلسطينين بما يرتّبه من خطر على وجودها، أو خوض الحرب، فإنها على الأرجح ستختار الحرب وإن كانت ستخسرها.

وبالتأكيد، فإن التحركات القسرية التي يقوم بها ترامب، والمحاولات الإسرائيلية البائسة لاستغلالها، ستقابل بالقوة وسيكون ذلك سيئاً حتى لـ "إسرائيل" نفسها، وقد تتشكل تحالفات جديدة رافضة للإملاءات الأميركية في الشرق الأوسط وحول العالم.