حماس وإعادة ضبط معادلة مستقبل غزة

كما يُمسك مقاتلو القسام والمقاومة بزمام المواجهة العسكرية تحت النار وفي أعماق الميدان، تمسك القيادة السياسية بزمام المبادرة الاستراتيجية، وتخوض معركة على الشرعية والقرار والسيادة.

0:00
  • يمتلك الفلسطينيون والعرب فرصة نادرة لأخذ زمام المبادرة وتحديد مستقبل غزة بأنفسهم.
    يمتلك الفلسطينيون والعرب فرصة نادرة لأخذ زمام المبادرة وتحديد مستقبل غزة بأنفسهم.

تصاعد التوتر في الأيام السابقة بين رئيس الوزراء "بنيامين نتنياهو" ومعه وزراء حكومته وبين رئيس الأركان "إيال زامير:، على ضوء موقف "الجيش" الرافض لفكرة إنشاء "مدينة إنسانية" في جنوب غزة، بل إن وسائل الإعلام الإسرائيلية نشرت تسريبات من جلسة الكابينت تتهم فيها نتنياهو أن "الجيش" يريد إفشال تلك الخطة.

وفي الوقت ذاته، قدم "الجيش" تقديراته أن هذه الخطة ستؤثر سلبًا على حظوظ نجاح الوصول إلى الهدنة وصفقة التبادل، الأمر الذي يعرّض حياة الأسرى الإسرائيليين للخطر.

هذا الخلاف ما هو إلا انعكاس لتضارب الخطط الإسرائيلية لما يسمى "اليوم التالي" لغزة بعد الحرب، والكيفية التي تنهي بها "إسرائيل" الحرب، خاصة أن التسريبات الصحافية تؤكد أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب أكد لنتنياهو أثناء لقاءاته ضرورة إنهاء الحرب.

وبالتالي باتت هناك ضرورة لصياغة خطة إسرائيلية لإنهاء الحرب وتعريف اليوم التالي لغزة، وهنا برزت الخلافات في الرؤى بين التيار اليميني الديني في الحكومة، والذي يهدد نتنياهو بإسقاط الائتلاف في حال عدم تنفيذ خطته، وبين التيار المهني العسكري والأمني الذي يعبر عنه الجيش، وبين هذين الفريقين يناور نتنياهو كمن يسير في حقل ألغام يريد تخطيه من دون أن يخسر مستقبله السياسي.

ما قدمه اللواء تامير هايمن، رئيس معهد الأمن القومي، ورئيس شعبة الاستخبارات العسكرية أمان كورقة سياسية نشرها معهد الأمن القومي، يُعتبر رؤية عسكرية وأمنية مهنية، تسعى إلى إنهاء الحرب وفق خطة عملية تأخذ في الاعتبار الواقع الميداني المعقّد والمستجدات، وتُركز على تحقيق أهداف عسكرية متدرجة، بالتوازي مع محاولة بناء آليات لإدارة ما بعد الحرب على نحو يقلل التكاليف السياسية والإنسانية.

وهذه الرؤية تزداد قبولاً، في ظل استمرار عمليات المقاومة في غزة حتى في المناطق التي جرى احتلالها عدة مرات سابقًا، وأيضًا في ظل ازدياد الاستقطاب الداخلي الإسرائيلي حول قضية قانون التجنيد للحريديم.

في المقابل، هناك رؤية التيار اليميني الديني التي تُصر على استكمال الحرب حتى إنهاء حماس بالكامل، معتبرة أن أي حل وسط أو تنازل سيُضعف إسرائيل أمنياً وسياسياً، وبالتالي تركز على تطبيق خطة "المدينة الإنسانية"، وتعزيز المليشيات المسلحة التابعة للشاباك، وإبقاء المساعدات تحت السيطرة العسكرية، وهو ما يُمهّد لتنفيذ مخطط تهجير على الأقل نصف مليون فلسطيني من القطاع.

في هذه اللحظة المفصلية، لا يُطلب من حركة حماس الاصطفاف مع أحد أطراف الصراع داخل "إسرائيل"، بل المطلوب هو الانتقال من موقع ردّ الفعل إلى موقع الفعل المبادر، واستعادة زمام المبادرة السياسية من يد "إسرائيل".

ويتحقق ذلك من خلال الإعلان عن التخلي عن إدارة الحكم في غزة، بمعزل عن التفاوض مع "إسرائيل"، وتشكيل لجنة إدارية فلسطينية مهنية مؤقتة، تنبثق من توافق وطني داخلي، وتعمل ضمن مظلة عربية–دولية كما تنص المبادرة المصرية.

بهذا الإعلان، تُنهي حماس حالة الارتهان للمراوغة الإسرائيلية في ملف التفاوض، وتُعيد رسم حدود المعادلة:

ما يتعلق بغزة وإدارتها وإعادة إعمارها وتشكيل سلطتها المدنية، يُنزع من يد "إسرائيل"، ويُوضع ضمن دائرة النقاش الفلسطيني–الفلسطيني من جهة، والفلسطيني–العربي–الدولي من جهة أخرى؛ فيما يبقى التفاوض مع "إسرائيل" محصورًا بملف الأسرى ووقف الحرب، بما يُعزّز مناخًا سياسيًا واضحًا ويمنع "إسرائيل" من استخدام مفاوضات وقف الحرب كأداة لفرض تصوراتها للحكم في غزة.

بل وأكثر من ذلك، فإن أكثر الملفات حساسية – مثل قضية سلاح المقاومة – لا تُطرح في هذا السياق كاستسلام لمطلب إسرائيلي، بل تُحوَّل إلى قضية سيادية تُناقش على طاولة المصلحة الوطنية الفلسطينية العليا، بعيدًا عن الابتزاز أو شروط الحرب، بل من منطق استراتيجي فلسطيني يتعامل مع شكل المقاومة وجدواها في كل مرحلة، وتوازن القوى القائم.

إنها خطوة وطنية مؤسسة، تعيد بناء الموقف الفلسطيني من موقع المسؤولية، وتُخرج غزة من فخ الحصار السياسي والأمني، إلى أفق المبادرة الوطنية الواعية.

إن اتخاذ قرار التخلي عن إدارة الحكم في غزة، وتشكيل لجنة إدارية فلسطينية مؤقتة بمظلة عربية، ليس مجرد خطوة إدارية، بل هو تحول استراتيجي يعيد توزيع مراكز القرار بشأن غزة، ويسحب من إسرائيل أهم أدوات التحكم السياسي والعسكري.

أولًا، تفقد الحكومة الإسرائيلية الذريعة الأساسية لاستمرار الحرب، وهي "إسقاط حكم حماس". فحين لا تكون حماس في الحكم أصلًا، يتحول استمرار العدوان إلى مشروع تهجيري مكشوف، بلا غطاء أخلاقي أو أمني.

ثانيًا، تتحرر الملفات الفلسطينية من دائرة الابتزاز العسكري: فـإعادة الإعمار، وتوزيع المساعدات، وإدارة المعابر، وحتى مناقشة سلاح المقاومة، تصبح كلها ملفات فلسطينية داخلية تُناقش على طاولة القرار الوطني الجامع،  مع الأشقاء العرب والمجتمع الدولي، وليس في غرف العمليات الأمنية والعسكرية الإسرائيلية.

هكذا، يُعاد تموضع حماس من سلطة محاصرة إلى حركة تحرر تتصرف بمسؤولية استراتيجية، وتُعيد صياغة أدوات الاشتباك مع الاحتلال من موقع المبادرة لا المساومة.

ويتحول الموقف العربي الداعم للمبادرة إلى غطاء شرعي دولي لأي تحرك فلسطيني سياسي أو ميداني، في حين تُحاصر "إسرائيل" سياسيًا أمام الإدارة الأميركية والمجتمع الدولي، وتُفتح ثغرة في جدار المعادلة التي حاول نتنياهو فرضها بالقوة.

بكلمة واحدة: تتحول الخطوة الفلسطينية إلى فخ سياسي لـ"إسرائيل"، بدلاً من أن تكون فخًا تفاوضيًا للفلسطينيين.

ولعل الأهم، أن هذه الخطوة لا تمثل بأي حال من الأحوال استسلامًا أو انسحابًا من ساحة الفعل الوطني، بل هي تحرك استراتيجي موازٍ للمعركة الميدانية.

فكما يُمسك مقاتلو القسام والمقاومة بزمام المواجهة العسكرية تحت النار وفي أعماق الميدان، تمسك القيادة السياسية بزمام المبادرة الاستراتيجية، وتخوض معركة على الشرعية والقرار والسيادة بأدوات سياسية توازي في خطورتها وفعاليتها ما يجري في الميدان.

إنها وحدة المسارين: القتال والتفاوض، المقاومة والحكمة، السلاح والسياسة، في لحظة فارقة قد تُعيد تعريف المشروع الوطني الفلسطيني نفسه.

يمتلك الفلسطينيون والعرب فرصة نادرة لأخذ زمام المبادرة وتحديد مستقبل غزة بأنفسهم.

أما ترك الأمور على حالها، فهو ببساطة تفويض لـ"إسرائيل" لترسم ملامح الغد بالتهجير والمجازر والتجويع.

القرار الآن: إما أن نقرر نحن، أو يُفرض علينا ما تقرره "إسرائيل".

وما من خطوة تقصّر من عمر هذه الحرب، إلا وسيراها الشعب الفلسطيني فعلًا وطنيًا شجاعًا يستحق التقدير.