جولات بلينكن المكوكية في المنطقة، ختامها فِشنك!

لا مكان للرهان على أن جولة بلينكن الحالية، في مثل هذه الظروف وفي ضوء هذه المعطيات، يمكن أن تقود إلى مسار سياسي ما، وعلى الأرجح أنها، أي جولة بلينكن، تأتي وفق اعتبارات ثلاثة.

0:00
  • جولة بلينكن الأخيرة لم نجنِ منها إلّا مزيداً من إطلاق يد
    جولة بلينكن الأخيرة لم نجنِ منها إلّا مزيداً من إطلاق يد "إسرائيل".

منذ أن بدأت "إسرائيل" حربها التدميرية قبل أكثر من عام على قطاع غزة، ولاحقاً على لبنان، دأبت الولايات المتحدة على تقديم عُروضٍ مسرحيةً عبثية، حاولت من خلالها الإيهام بأنها تقوم بدور يخالف الدور الإسرائيلي ويعارضه، بل حاولت الإيحاء في رغبتها في دفع "إسرائيل" إلى دخول مسار سياسي يُفضي إلى إطلاق سراح الأسرى وينهي الحرب. وحين اغتالت "إسرائيل" السنوار وسقطت ذريعة نتنياهو بشأن من يُعطّل مسار المفاوضات، سارعت الولايات المتحدة، كعادتها، إلى إرسال وزير خارجيتها إلى المنطقة، مُلمّحة إلى أن الظروف أصبحت مواتية لدخول مسار سياسي يُفضي إلى فكفكة حالة الاستعصاء التي تسود مشهد الحرب.

والواقع أن المرء لا يحتاج إلى كثير عناء ليصل إلى حقيقة الدوافع المحركة للسلوك الأميركي، وخصوصاً أنه لم تطرأ أي تحولات لافتة في الداخل الإسرائيلي ولا في مسار الحرب تدفع إلى الاعتقاد بإمكان تخلي نتنياهو وحكومته عن سردية الحرب المفتوحة حتى تحقيق "النصر المطلق"، أو إمكان قبول دخول مسار سياسي، ولو كان مرحلياً موقتاً، يُفضي إلى صفقة، وربما إلى وقف الحرب. فالتحول الوحيد، الذي حدث في مسار الحرب، هو اغتيال السنوار، وهذا التحول، وفق بعض الأصوات القادمة من الداخل الإسرائيلي، وعلى رأسها رئيس "الدولة" هيرتسوغ وممثلو أهالي الأسرى الإسرائيليين لدى المقاومة، وبعض رموز المعارضة، بالإضافة إلى أصواتٍ في الإدارة الأميركية، يفترِضُ أن العقبة الكبيرة الكأداء التي ظل نتنياهو ينفخ فيها ويتشدق بها لمنع الذهاب إلى صفقة زالت باغتيال السنوار، بمعنى أن غياب السنوار عن المشهد يجب أن يسمح الآن بـ"انفراجةٍ ما" على افتراض أنه "هو الذي كان يُعطّل" الذهاب إلى صفقة.

ولأن نتنياهو، البارع في اختلاق الذرائع، يعلم بأن عليه أن يقطع الطريق أمام تعالي هذه الأصوات "الحالمة" بعد أن سقطت ذريعته، سارع إلى التأكيد أن "المهمة لم تنتهِ بعد" على رغم اغتيال السنوار، وأن "على الذين يحتجزون الأسرى الإسرائيليين أن يسلموهم إذا أراود أن ينجوا برؤوسهم"، وهو ما دفع بلينكن إلى التأكيد، عقب لقائه نتنياهو في القدس المحتلة، "الحاجة إلى الاستفادة من التحرك الإسرائيلي الناجح في تطبيق العدالة على يحيى السنوار، من خلال تأمين إطلاق سراح جميع الرهائن وإنهاء الصراع في غزة، بطريقة توفر الأمن الدائم للإسرائيليين والفلسطينيين على حد سواء"، بحسب تعبيره.

أما في المقلب الآخر، فإن جملة المعطيات والتحولات المتسارعة تؤكد استراتيجية هذه الحكومة وخطها الثابت الذي تتبناه، والقاضي بتأجيج هذه الحرب والانتقال بها من ساحة إلى أخرى، برعاية أميركية حصرية من الألف إلى الياء.

أول هذه المعطيات، أو المحطات، الانتخاباتُ الأميركية التي باتت ثابتةً من ثوابت الرهان الإسرائيلي على عدم استعجال الذهاب إلى صفقة في انتظار ما ستسفر عنه نتائج الانتخابات الأميركية. فليس من المعقول، وقد بقي على موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية بضعة أسابيع، أن يمنح نتنياهو الحزب الديمقراطي وكامالا هاريس ورقة يقوّيهما فيها على ترامب، ويستدرج غضبه ونقمته على نتنياهو في حال حالفه الحظ ووصل إلى البيت الأبيض. زد على ذلك أن نتنياهو يراهن على فوز ترامب في الانتخابات الرئاسية لإطلاق يد "إسرائيل" وفرض هيمنتها في الشرق الأوسط، وهو الحليف المتفاني الذى أتى بما لم يأت به سابقوه من نقل للسفارة الأميركية إلى القدس الشرقية، ومنح "إسرائيل" صك ملكية فيما يتعلق بأراضي الجولان السوري المحتلة.

أما المعطى الآخر، الذي ينفي إمكان قبول نتنياهو الذهاب إلى مسار سياسي في هذه المرحلة، فمرتبط بالتحضيرات الإسرائيلية لتوجيه ضربة إلى إيران، قد تُفضي، وفق الرهان الإسرائيلي، إلى تحولات تخدم مصلحة "إسرائيل" وأطماعها، وتؤثر في ساحتي المواجهة في غزة ولبنان، ضمن المقاربة الإسرائيلية القائلة إن "ضرب الرأس سيفضي إلى إضعاف الأذرع"، على نحو يدفعها إلى تقديم تنازلات على مقاس الرغبات والتمنيات الإسرائيلية.

أما ثالث هذه المعطيات أو التحولات، فهو الحرب التدميرية التي تُشن هذه الأيام على شمالي قطاع غزة فيما ما بات يُعرف بأنه تنفيذٌ لـ"خطة الجنرالات" القاضية بإخلاء شمالي قطاع غزة من ساكنيه واقتطاعه والسيطرة عليه، وفرضه شريطاً أمنياً عازلاظً. فلا يُعقل أن تشن "إسرائيل" هذه الحرب التدميرية على القطاع وترتكب كل هذه المجازر، بعد أن أطلقت الولايات المتحدة يدها بمنحها 30 يوماً لتنفيذ المهمة بذريعة ترتيب إدخال المساعدات، ثم تذهب "إسرائيل" إلى دخول مسار سياسي يُعطّل تنفيذ هذه الخطة، وهي ما زالت في أيامها الأولى!

أما المعطى الرابع والأخير، فمرتبطٌ بالدعوات المحمومة، التي أطلقها بن غفير وسموتريتش، في أوج زيارة بلينكن، والداعية إلى عدّ القطاع جُزءاً من أرض "إسرائيل" الكبرى، والحث على إعادة استيطانه واحتلاله، فـ"حيثما وُجد الاستيطان وُجد الأمن"، وفق سموتريتش، بالتزامن مع حث الغزيين على البحث عن مكان آخر للعيش فيه خارج هذه الأرض التي هي "ملك للشعب اليهودي"! فهل يستقيم، مع مثل هذه الدعوات، أن يُطرح إمكان أن تذهب هذه الحكومة، التي يشكل بن غفير وسموتريتش ركناً أساسياً فيها، إلى التعاطي الايجابي مع فكرة وقف الحرب ودخول مسار سياسي!

في المحصلة، لا مكان للرهان على أن جولة بلينكن الحالية، في مثل هذه الظروف وفي ضوء هذه المعطيات، يمكن أن تقود إلى مسار سياسي ما، وعلى الأرجح أنها، أي جولة بلينكن، تأتي وفق اعتبارات ثلاثة:

أولها هو التنسيق والتشاور فيما يخص الضربة الإسرائيلية المزمعة ضد إيران. وثانيها مرتبطٌ بمسار الإعماء والإلهاء اللذين قادتهما الولايات المتحدة منذ بداية هذه الحرب خدمةً لنتنياهو في محاولة للتخفيف عنه أمام الضغوطات الداخلية الإسرائيلية التي بدأت تُطالب بضرورة الذهاب إلى صفقة بعد اغتيال السنوار، وللتخفيف كذلك من الانتقادات الموجهة إلى الولايات المتحدة، والأهم التخفيف من أضرار التماهي المطلق مع النزوات الإسرائيلية على الحزب الديموقراطي ومرشحته هاريس في ظل اقتراب الانتخابات الرئاسية الأميركية. أما الاعتبار الثالث والأهم من جولة بلينكن وهوكستين فهو التلويح بعصا القوة الإسرائيلية أمام المقاومة وأمام الإقليم، بصورة عامة، أو ما أطلق عليه الناطق الإعلامي باسم حزب الله "استطلاعاً تفاوضياً بالنار".

خلاصة الأمر أن جولة بلينكن الحالية، الأخيرة على الأرجح قبل الانتخابات الأميركية، تضاف إلى سلسلة الجولات المتعددة السابقة، والتي لم نجنِ منها إلّا مزيداً من إطلاق يد "إسرائيل" وانفلاتها الوحشي الجنوني، وهي في المحصلة خَضٌّ في ماء "ختامها فِشِنك" لا يُرجى منها خير.

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.