ترامب وغزة.. ماذا بين التاريخ والمستقبل؟
تتحدث كل الوثائق التاريخية عن دعم أميركي-بريطاني-فرنسي لكل المشاريع الصهيونية، إذ كان اليهود يرون في غزة وجزء من سيناء، حالها حال الجنوب اللبناني، جزءاً من "دولة إسرائيل" المنشودة على الأرض الفلسطينية.
-
يعرف الجميع السجل الإجرامي الأميركي ومعه البريطاني ضد شعوب العالم برمّتها.
أثارت تصريحات الرئيس ترامب عن غزة وتهجير أهلها إلى الأردن ومصر نقاشاً واسعاً، ليس فقط على الصعيدين العربي والإسلامي، بل حتى العالمي، إذ رأها العديد من قادة العالم "ضرباً من الخيال"، فيما قال آخرون "إنها من نتاج الفكر الصهيو- أميركي بذكرياته التاريخية".
يعود تاريخ غزة إلى نحو 6-7 آلاف سنة قبل الإعلان عن استقلال الولايات الأميركية المتحدة عام 1776، ويعرف الجميع تفاصيل السجل الإجرامي لهذه الولايات في ما بينها خلال الحرب الأهلية، وقبل ذلك ضد السكان الأصليين للقارة الأميركية، شمالاً وجنوباً، وعلى يد حثالات المجتمعات الأوروبية بعد اكتشافها من قبل كريستوف كولومبوس عام1492، وهو عام سقوط دولة الأندلس العربية الإسلامية العظيمة التي أخرجت أوروبا من ظلمات القرون الوسطى.
ويعرف الجميع أيضاً السجل الإجرامي الأميركي ومعه البريطاني ضد شعوب العالم برمّتها، وفي المقدمة فلسطين، موضوع مقالنا هذا.
تتحدث كل الوثائق التاريخية عن دعم أميركي-بريطاني-فرنسي لكل المشاريع الصهيونية قبل الانتداب البريطاني لفلسطين عام 1920 وبعده، إذ كان اليهود يرون في غزة وجزء من سيناء، حالها حال الجنوب اللبناني، جزءاً من "دولة إسرائيل" المنشودة على الأرض الفلسطينية، وفي إطار ما يسمّى "أرض الميعاد" بحدودها المعروفة من الفرات إلى النيل.
وجاء الدور الأميركي في قرار التقسيم الذي تم التصويت عليه في الأمم المتحدة في 29 تشرين الثاني/نوفمبر، والذي أعطى 44% من فلسطين لنحو 1.2 مليون فلسطيني عربي مسلم ومسيحي، وهم أصحاب الأرض الحقيقيون، مقابل 56% لنحو600 ألف يهودي جاؤوا من جميع أنحاء العالم، وقتلوا الشعب الفلسطيني واغتصبوا أرضه، ولم تتجاوز ممتلكاتهم 70% من مساحة فلسطين، ولم تشمل يومها شبراً واحداً في غزة.
وكان اليهود والصهيونية العالمية يرون في غزة أرضاً مقدسة، بحجة أنها كانت ممراً لبني "إسرائيل" وهم في طريقهم إلى فلسطين، أرض بني كنعان، بعد خروجهم من مصر، وفق الأساطير التوراتية.
وكانت غزة هدف اليهود والصهاينة، ليس فقط خلال رسم خريطة الكيان العبري الذي تم الإعلان عنه في أيار/مايو 1948، بل بعد ذلك في العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 وما لحق به من احتلال لهذا القطاع ومعه باقي الأرض الفلسطينية في الضفة الغربية والقدس الشرقية في نكبة حزيران/ يونيو 1967.
وجاءت التطورات اللاحقة بما في ذلك حرب أكتوبر 1973 وتخلي السادات عن القطاع للكيان الصهيونى، وفق اتفاقية "كامب ديفيد" و ما سبقها من أحلام وأطماع الصهيونية العالمية، واليهود عموماً.
ومن بين هؤلاء سباتاي سيفي الذي أعلن نبوته في غزة عام 1666 بعد ان اضطر للهرب من مدينة إزمير التركية التي كان يعيش فيها، بعد أن نقلت الدولة العثمانية أجداده اليهود من إسبانيا إلى العديد من المدن العثمانية بما فيها إسطنبول وإزمير وإسكندرون وحلب وبيروت وغيرها، وذلك خلال سقوط دولة الأندلس العربية الإسلامية عام 1492.
وربما لهذا السبب أيضاً أقامت "الدولة العبرية" نحو 25 مستوطنة يهودية في ثلث مساحة القطاع بعد احتلاله عام 1967 إلى أن اضطرت لإخلاء هذه المستوطنات عام 2005.
وذلك بعد أن فقدت أملها في السيطرة التامة عليه وعلى أصحابه من أبناء الشعب الفلسطيني الذي أثبت أكثر من مرة عظمته وعظمة أبنائه المقاتلين في حماس والجهاد الإسلامي وباقي الفصائل الفلسطينية التي تصدت للعدوان الإسرائيلي على القطاع، والذي تكرر أكثر من سبع مرات منذ العام 2001 وأدى إلى استشهاد الآلاف وتدمير عشرات الآلاف من المساكن والبنى التحتية.
ومن دون أن تحرك العواصم العربية ساكناً تجاه كل هذه الاعتداءات الهمجية التي باتت أكثر خطورة، واكتسبت طابعاً عقائدياً بعد فوز حماس في انتخابات 2006.
وجعل ذلك من القطاع هدفاً لكل المؤامرات الإقليمية والدولية التي وضعت العديد من الحسابات لمواجهة تطورات المرحلة اللاحقة، بعد أن أصبحت حماس جزءاً من جبهة الصمود والتصدي للمشاريع الصهيونية المدعومة دائماً من واشنطن وعملائها في المنطقة.
ويعرف الجميع أن كل ما تعرضت له طهران في سنوات "الربيع العربي" سببه الرئيسي، بل الوحيد، هو موقفها هذا، وأرادت واشنطن أن تلقي بظلالها عليه بالتنسيق والتعاون مع أنقرة والدوحة اللتين لعبتا الدور الرئيسي في إقناع خالد مشعل، رئيس المكتب السياسي، كي يغلق مكاتب ومخيمات حماس في سوريا ويغادرها إلى قطر وتركيا مع تكليف المئات من المسلحين القتال مع المجموعات الإرهابية ضد الجيش السوري.
وهو الموضوع الذي نجح الشهيد قاسم سليماني في تجاوزه، وتحقيق المصالحة بين حماس بقيادة الشهيدين إسماعيل هنية ويحيى السنوار وكل من دمشق وحزب الله.
ودفع ذلك واشنطن وحلفاءها لوضع العديد من الخطط للتخلص من الأعداء، وفي مقدمتهم الشهيد قاسم سليماني ثم إسماعيل هنية ويحيى السنوار والشهيدان حسن نصر الله وهاشم صفي الدين لتكون دمشق الهدف ما قبل الأخير في مسلسل المؤامرات التي سيستمر وفق رؤية النظام الأميركي الجديد وحلفائه في المنطقة.
وسيسعى ترامب خلال الأيام والأسابيع القليلة القادمة لتحقيقه تحت شعار "اخلق الفوضى في المنطقة ثم رتب أمورها وفق مزاجك". ولهذا السبب طرح ترامب فكرة "تفريغ غزة من شعبها" ليشتت بذلك انتباه العالم، وخصوصاً العالم العربي، ويمنعه من الانتباه للمؤامرات الكبرى التي يخطط لها وهدفها كالعادة تحقيق المخططات والمشاريع الاستراتيجية لـ"الدولة العبرية" التي حققت انتصارها الأكبر بتغيير النظام في دمشق، باعتبار أن ذلك سيكون بوابتها للتخطيط والاستعداد لما تهدف إليه في تحدياتها مع إيران.
وهو ما سنرى بوادره قريباً، وبشكل خاص بعد القمة العربية الاستثنائية في القاهرة في الـ 27 من الشهر الجاري، ثم القمة العربية العادية في بغداد نهاية مارس/ آذار، وقد يخطط الكثيرون خلالها لتوجيه بعض الرسائل إلى الجارة إيران وباسم الكيان العبري الذي يستمد قوته من أقوال ترامب وأفعاله، والذي يخطط لمزيد من التآمر على المنطقة وقضاياها القومية الاستراتيجية، وفي مقدمتها فلسطين.
ويبدو أنها لم تعد ضمن اهتمامات الأنظمة العربية التي تنفست الصعداء بعد تغيير النظام في دمشق، وقبل ذلك اغتيال الشهيد السيد حسن نصر الله وعدد مهم من قيادات الحزب وكوادره، وقد استنفر كثيرون كل إمكانياتهم لتضييق الحصار عليه لبنانياً وفق الرؤية الصهيونية، صاحبة نظرية "الفوضى الخلاقة" التي يبدو أن ترامب بعد قمته القادمة مع بوتين نهاية الشهر الجاري في السعودية سيسعى لتطبيقها عبر غزة، بعد أن بات واضحاً أنه مهما بلغ عدد المتآمرين عليها سيظل أقل من شعب غزة العظيم الذي دافع بنسائه وأطفاله وشبّانه، ليس فقط عن كرامته، بل كرامة كل العرب والمسلمين وشرفهم، حتى وإن تآمر البعض منهم، وتواطأ حكامهم عليه، فانتصر عليهم جميعاً كما سينتصر على ترامب الذي يعتمد في جميع حساباته على أزلامه في المنطقة، وهم كثر، وعمالتهم حالة جينية مستعصية!