ترامب… ملك في جمهورية الكذب والخداع
تعامل الأنظمة العربية والإسلامية مع الأكاذيب الأميركية عبر التاريخ شكّل الدافع الأساسي لواشنطن للاستمرار في استهداف أمن المنطقة.
-
الانصياع لأوهام ترامب وخططه سيقود إلى تهديدات وجودية.
منذ تأسيس الولايات المتحدة لبناتها، تشكّلت هويتها على مفارقة فاضحة بين الخطاب والممارسة. فهي تُقدِّم نفسها للعالم بوصفها موطن الحريات، والقيم الديمقراطية، ومهداً للتقدّم العلمي والتكنولوجي، لكنها في الواقع كثيرًا ما مارست نقيض هذه القيم في سلوك أقل ما يُقال فيه إنه قائم على الخداع والكذب.
لقد أدرك الأميركيون باكرًا أن القوة لا تقوم فقط على السلاح أو المال، بل على الصورة والرمز؛ فعملوا على صناعة وجه ناعم يغري الشعوب ويستدرجها إلى فضاء النفوذ الأميركي.
كما يلاحظ نعوم تشومسكي إن النظام الإعلامي الأميركي "لا يقدّم الحقيقة بقدر ما يصنع توافقًا زائفًا حول ما تريده السلطة أن يُصدَّق"، و يرى جوزيف ناي أن أميركا "جعلت الآخرين يريدون ما تريده هي" معبّراً عن الأوهام التي يغرق الأميركيون فيها الآخرين الذين يتحولون إلى لاهثين وراء سراب الحلم الأميركي الذي يخفي في جوهره مشاريع السيطرة والتحكم.
اليوم يبدو أن الطغيان الأميركي قد بلغ مداه؛ فلم تعد الولايات المتحدة، في نسختها الترامبية، معنية بتجميل صورتها بوصفها "نموذجًا" يُحتذى، بقدر ما أصبحت منشغلة بإبراز وجه المستبدّ القوي، الذي يعتمد على أدوات الخداع والإكراه لفرض إرادته وهيمنته وسطوته على الآخرين.
ومن المفارقات الصارخة في هذا الأداء السياسي، أن دونالد ترامب لا يكتفي بالسعي إلى فرض النفوذ، بل يسعى أيضًا إلى فرض المفاهيم والمعايير؛ فهو يرى في عدم منحه "جائزة نوبل للسلام" إهانة شخصية، في الوقت الذي يعلن فيه نيّته تغيير اسم "وزارة الدفاع الأميركية" إلى "وزارة الحرب"، ويدّعي أنه أنهى سبع حروب، بينما هو في الواقع أشعل حربًا ضد إيران، وشجّع على تصعيد العدوان في غزة، وهدّد بـ"فتح أبواب الجحيم" فيها، ودعا علنًا إلى تطهير عرقي من خلال مطالبته بتهجير سكان القطاع وتحويله إلى منطقة سياحية.
ترامب الذي يزعم أنه "أنهى الحروب"، يرسل طائراته إلى شواطئ فنزويلا، ويقصف قوارب الصيادين، ويضع جائزة لمن يدلي بمعلومات عن الرئيس الفنزويلي المنتخب ديمقراطيًا. وهو نفسه الذي قال إنه لو كان رئيسًا لما اندلعت الحرب الروسية–الأوكرانية، لكنه لم يقدّم أي حلٍّ فعلي لها، بل عاد وانخرط فيها أكثر من سلفه بايدن، مقدّمًا مزيدًا من السلاح والمعلومات لأوكرانيا، ودافعًا الدول إلى مقاطعة النفط الروسي، في تصعيدٍ لحربٍ اقتصادية جديدة تهدّد الاقتصاد العالمي.
أما في ما يتعلق بأفغانستان، فالرجل الذي لطالما انتقد بايدن على أدائه هناك، عاد ليحذّر من "أمور سيئة" ستحدث إن لم تُمنح واشنطن قاعدة باغرام، مكرّسًا بذلك منطق الابتزاز السياسي والعسكري ذاته الذي انتقده في خصومه.
وفي الداخل الأميركي، لا يتورّع "رجل السلام" عن عسكرة الشارع الأميركي، بزجّ الجيش والحرس الوطني في مواجهة المواطنين، ما أسهم في تعميق الانقسامات داخل المجتمع الأميركي، وضرب الصورة التي سعى أسلافه طويلًا إلى تلميعها: صورة أميركا بوصفها "الوطن الملجأ" و"أرض الحرية"، الحرية التي تبدو اليوم أكثر زيفًا وخداعًا من أي وقت مضى.
كل ذلك يؤكد أن المفهوم «الترامبي» للسلام يقوم على أن تكون الولايات المتحدة الأميركية متسيّدة للعالم، ومتحكمة في قرارات الشعوب، ومهيمنة على موارد الدول وفي سبيل هذا الهدف، لا ترى واشنطن بأساً في شنّ الحروب، وقتل الأبرياء، وتدمير ما يلزم، واستخدام كل وسائل القهر والإرغام لإخضاع من تراه متمرداً على إرادتها بالتوازي مع ترويج الأكاذيب التي لا تنتهي.
وقد أشارت مجلة فورين أفيرز في مقال بعنوان «الأكاذيب التي ترويها أميركا لنفسها بشأن الشرق الأوسط» للكاتبين روبرت مالي وحسين آغا إلى أن «لغز السياسة الأميركية هو أن قادتها يعرفون الكثير، لكنهم يفهمون القليل». من الواضح أن ترامب من أكثر الرؤساء الذين ينطبق عليهم هذا التوصيف. من المؤكد أن الرجل يعرف قدرات بلاده لكنه لا يفهم حقيقة أن لكل قوة حدوداً وأن جميع الطغاة والمستبدين عبر التاريخ ساقهم طغيانهم إلى مسار الهبوط والزوال.
وفي المقال ذاته، يذكر الكاتبان أنه «مع مرور الوقت، يصبح من الصعب التمييز بين نهاية خداع الذات وبداية التظاهر لخداع الآخرين»، وهو ما يجعل الطغاة يصدقون أوهامهم، ويغرقون في جنون العظمة، ظانّين أن ما يتمنونه قد أصبح واقعاً. وهذه هي حالة ترامب، الذي روّج فكرة أنه قادر على حلّ الحروب بكلمة منه، إلا أنه وقع أسيراً لهذه الأوهام، فانتهى فشله إلى مزيد من التسلط والتناقض، كما يتجلى في تصريحاته المتقلبة والمتعارضة.
صحيح أن هذا اللغز في السياسة الأميركية ليس جديداً، فقد تناولته مقالات عديدة، منها مقالة بعنوان «كيف يصبح الوهم كذباً» التي قالت إن «الأكاذيب تقبع في صميم السياسة والدبلوماسية لكن هناك أكاذيب يُزعم أنها تخدم الصالح العام، وأخرى تُستخدم لإنجاز الأمور، حتى وإن كانت قبيحة أو عنيفة أو شنيعة". أما في الحالة الترامبية، فنحن أمام قمة السوء: مزيج من الكذب والخداع وسوء الفهم، مقرون بقدرات تدميرية هائلة كفيلة بإعدام الحياة على الأرض.
إن امتلاك مثل هذه القدرات تحت سلطة إدارة متهورة كإدارة ترامب يجعل مواجهة هذه السياسات مسألة وجودية للعالم أجمع. فمستقبل شعوب الأرض أصبح مرتبطاً بالقدرة على التصدي لهذه الحالة الخطرة المهيمنة في واشنطن، وهو ما يتطلب موقفاً عالمياً موحداً، تبدأ مسؤوليته من داخل الولايات المتحدة نفسها، حيث بدأ الشعب الأميركي يعاني بدوره من نتائج السياسات القائمة على الكذب والخداع والجهل.
أما في منطقتنا العربية، فالتجارب الطويلة مع الإدارات الأميركية المتعاقبة منذ الحرب العالمية الثانية لم تُثمر سوى الأكاذيب والخداع والمعايير المزدوجة. وكان يُفترض أن تكون أنظمتنا قد استوعبت هذه الدروس، لكنها لا تزال في معظمها تسير في فلك واشنطن، تقمع شعوبها إرضاءً لها، وتبيع الأوهام استناداً إلى وعود أميركية فارغة، حتى باتت تربط أمنها القومي، بل وجودها، بالمشاريع الأميركية التي لا تخدم في نهاية المطاف سوى "إسرائيل"، فيما يبقى أمن المنطقة الحقيقي تحت وطأة الهيمنة الأميركية.
واليوم، نجد أنفسنا أمام نسخة جديدة من الخداع الأميركي. يقدم الرئيس الأميركي خطته لوقف الحرب في غزة وكأنها انتصار لمنطق السلام، بينما تؤكد الوقائع أنها ليست سوى خطة للاستثمار في القتل والدمار والجوع، بهدف فرض الرؤية الأميركية ــــــــــــ الإسرائيلية على المنطقة.
إن تعامل الأنظمة العربية والإسلامية مع الأكاذيب الأميركية عبر التاريخ شكّل الدافع الأساسي لواشنطن للاستمرار في استهداف أمن المنطقة.
ومع ترامب النرجسي المتربع على عرش الكذب والخداع، فإن الانصياع لأوهامه وخططه سيقود إلى تهديدات وجودية تمسّ الكيانات الوطنية ذاتها.
والخشية الحقيقية أن يُرسم مصير منطقتنا بين تل أبيب وواشنطن، فيما يُلدغ العرب والمسلمون من الجحر ذاته مرة أخرى، كما لُدغوا بعد الحرب العالمية الثانية عندما تركوا للآخرين مهمة تقرير مصيرهم، بينما ظلوا غارقين في أوهام وخداع القوى الاستعمارية القديمة.