بعد شهر من ولايته.. هل اختلف ترامب نسخة 2025 عن فترة رئاسته الأولى؟
ترامب 2025 يبدو أكثر غروراً وشراسة، ويركّز على إثبات قوته في الداخل والخارج، خاصة في قضايا مثل فلسطين وإيران بالنسبة للشرق الأوسط، والصين وروسيا على الصعيد العالمي.
-
ترامب في 2025 ليس مجرّد "نسخة مكرّرة".
من المؤكّد أنّ تولّي دونالد ترامب رئاسة الولايات المتحدة لمرّة جديدة، سيُعيد تشكيل السياسة الخارجية الأميركية، إذ يضع البيت الأبيض اليوم أجندة "أميركا أولاً" في حكم التنفيذ، ما قد يؤثّر على حياة عشرات الملايين من الناس خارج حدود دولة أميركا. فعلى الصعيد الدولي، يدّعي ترامب قدرته على إنهاء الحرب بين روسيا وأوكرانيا "في يومٍ واحد"، رافضاً تدفّق مليارات الدولارات من المساعدات إلى كييف، كما أنه يعلن غضبه من زيادة اعتماد الأوروبيين على الحماية العسكرية الأميركية، داعياً أعضاء حلف شمال الأطلسي (ناتو) إلى مضاعفة إنفاقهم العسكري أكثر من 5% من دخولهم الوطنية.
على مستوى الشرق الأوسط، فقد أشرف فريق دونالد ترامب، بالتعاون مع مصر وقطر، على هندسة اتفاق وقف إطلاق النار وتبادل الرهائن بين حركة حماس وحكومة الاحتلال الإسرائيلي، وكان ذلك بعد نجاحه في الانتخابات الرئاسية وقبل تولّيه السلطة رسمياً، لكنّ، الرجل المثير للجدل، أتْبعَ هذا الاتفاق بقنبلة مدويّة تتعلّق بدعوته لتهجير أهالي غزة من القطاع إلى شبه جزيرة سيناء والضفة الشرقية لنهر الأردن، مفصّحاً عن نيّته بناء العديد من المشروعات العقارية والسياحية القادرة على تحويل غزة إلى "ريفيرا الشرق الأوسط"، وهو الإعلان الذي أثار غضب العرب في مصر والأردن ودول الخليج، بالإضافة إلى الفلسطينيين بطبيعة الحال.
يرى جمعٌ من الخبراء الأميركيين، أمثال، تود بيلت ومايكل أنتون وريتشارد وايتز، أنّ ترامب بات يتعامل مع مختلف الأمور على أنها صفقات تجارية، بحيث يأخذ كلّ شيء قطعة تلو الأخرى، وبالتالي فهو يميل إلى الاتفاقيات الثنائية، ساعياً إلى الابتعاد عن الاتفاقيات متعدّدة الأطراف، كما أنّ إعلانه المتكرّر نهاية ما يصفه بـ"الامتيازات المجانية"، وتكراره الحديث عن أهمية التركيز على مصلحة الوطن من دون أيّ اعتبار آخر، لا يعني أنه يميل فطرياً إلى الانعزالية أو الانسحاب من المشهد الدولي، بل المؤكّد أنّ واشنطن آخذة في التوسّع في أدوارها الخارجية، لكن وفقاً لمُحدّدات ترامب وفريقه.
يعي دونالد ترامب أنّ الشعارات "الوطنيّة" الرنّانة التي استخدمها، وأحاديثه العاطفية حول "جعل أميركا عظيمة مرة أخرى" وأن "لا مكان مثل الوطن"، هي التي ضمنت له التأييد الشعبي الذي أوصله إلى منصبه الرئاسي للمرة الثانية، وعندما يتحدّث ترامب عن مشاريعه لتقليل الإنفاق العسكري على الحلفاء الخارجيين، أو عن رفض المهاجرين وحضّهم على العودة إلى بلادهم الأصلية، أو عن العمل على نحوٍ حثيث لمنع الصعود الاقتصادي للصين، هي جميعها أمور تلاقي قبولاً كبيراً من قِبل أبناء الطبقة الوسطى داخل الولايات المتحدة، والذين يريدون الاحتفاظ بالهيمنة على العالم، من دون إنفاق سنت واحد خارج حدود دولتهم، وهي المعادلة التي يعدهم ترامب بتنفيذها.
ترامب أكثر ثقةً وتحكّماً في الأمور
يبدو دونالد ترامب اليوم في وضع أكثر رسوخاً على كرسيّ الرئاسة مقارنة بما كانت عليه الأحوال في فترته الأولى بين عامي 2017 و2021، فهو لديه الخبرة اللازمة للمنصب، كما أنه اكتسب مزيداً من الثقة في ذاته، بعد أن منحه الأميركيون أصواتهم لمرّة جديدة، بما يعني أنّ أفكاره وسياساته تتمتّع بالقبول الشعبي الكافي، وأنّ ملايين الأميركيين أدركوا أنهم في حاجة ماسّة إليها، بعد السنوات العجاف التي قضوها تحت حكم الديمقراطي جو بايدن، وستمنح تلك المسائل ترامب القدرة اللازمة لإحكام قبضته بدرجة أكبر على كلّ السياسات الداخلية والخارجية للولايات المتحدة خلال السنوات الأربع المقبلة.
ففي فترة رئاسته الأولى، حاول ترامب إجراء تخفيضات عميقة فيما يتعلّق بالمساعدات الخارجية، لكنّ إرادة الكونغرس لم توافق إرادته، أما في هذه المرة فلا يجد مثل تلك المعارضة من رفاقه الجمهوريين في تحرّكه لتجميد هذا التمويل، كما أنّ ترامب اليوم قادر على إجراء تغييرات واسعة فيما يتعلّق بالمسؤولين الفيدراليين، على عكس الحال في الفترة الأولى عندما فشل في إقالة روبرت مولر، المحقّق الخاص الذي عُيّن للتحقيق في الصلات بينه وبين روسيا، وقد منعه من ذلك محاميو البيت الأبيض؛ واليوم، أيضاً، يدفع بالمحامي، كاش باتيل، لقيادة الأف بي أي، بينما عجز عن تحقيق الأمر نفسه خلال فترته الأولى بعد معارضة وزير العدل بيل بار.
ولا مفرّ من الاعتراف بأنّ تحرّكات ترامب الكثيفة في أوّل شهر له في المنصب تؤكّد أنّ الإدارة الأميركية تملك الآن قدمين أكثر ثباتاً، ولا تشعر بأيّ نوعٍ من القلق أو التوتر، فلم يعد هناك الجمهوريون المخضرمون من إداراتَي جورج بوش ودونالد ريجان الذين حثّوا ترامب خلال فترته الأولى على التمسّك بسياسات محافظة تقليدية، فقد تمّ الاستغناء عنهم لصالح مجموعة من الجمهوريين من أنصار "أميركا أولاً"، الذين يؤمنون بـ"الترامبيّة"، ويساعدون الرئيس في إعادة ضبط سياسات البلاد، وربما تحويلها جذرياً، وإلى جانبهم، رجل الأعمال البارز، أيلون ماسك، الذى أطلق له الرئيس العنان لسبر أغوار البيروقراطية.
الجدل حول ما إذا كان ترامب في نسخته الجديدة سيكون مختلفاً عن النموذج الذي اختبره العالم بفترته الأولى، يشغل بال الكثيرين، بحكم أنّ الولايات المتحدة هي الدولة الأكثر اشتباكاً في القضايا الدولية. ويعتقد مراقبون أنّ ترامب سيتبنّى نهجاً أكثر براغماتية، بينما يرى آخرون أنه سيكون أكثر تشدّداً، خاصة مع عدم حاجته للترشّح مرة أخرى؛ وفي كلّ الأحوال فإنّ التغيير المتوقّع ليس في الأفكار، وإنما في قدرته على التعبير عنها وتنفيذها، أو كما يقول ستيف بانون، مستشار ترامب السابق: "في فترته الثانية، ترامب سينفّذ كلّ ما كان يخطّط له في الأولى من دون تردّد".
وفي النقاط الآتية، يمكن رصد العوامل التي قد تُسهّل مهمة ترامب لإجراء التغييرات التي يرغب بها:
أولاً، تراجع القيود:
في فترته الأولى، كان على ترامب مراعاة إعادة انتخابه، أما الآن، فهو غير مقيّد بذلك، ما قد يجعله أكثر حرية في تنفيذ سياسات جذرية.
ثانياً، الواقع السياسي المُتغيّر:
التحديّات الجديدة التي فرضت نفسها، مثل الحرب الدائرة في أوكرانيا منذ شباط/ فبراير 2022 وتصاعد التوتر مع الصين، والأوضاع المشتعلة في الشرق الأوسط، والتي قد تدفعه إلى تعديل بعض توجّهاته التي تبنّاها سابقاً.
ثالثاً، الدروس التي تعلّمها في فترته الأولى:
كثير من الرؤساء يغيّرون أساليبهم في فترتهم الثانية بعد فهم أعمق للسياسات الدولية والداخلية.
رابعاً، العودة إلى شعار "أميركا أولاً" بقوة أشدّ:
يضغط مؤيّدو ترامب بصورة لافتة لرؤية الشعارات التي التفّوا حولها، وهي تُطّبق على الأرض، فالجمهوريون اليوم يريدون تنفيذ كلّ الأطروحات التي تمّ عرضها خلال الحملة الانتخابية بشأن الهجرة والضرائب والعلاقات التجارية مع الصين والمكسيك، من دون أيّ قدر من المرونة أو مراعاة الظروف المحليّة.
خامساً، معاركه مع الدولة العميقة:
لطالما تحدّث ترامب عن وجود قوى داخلية تُعرقل أجندته، وفي فترته الثانية قد يسعى لتفكيكها بلا أيّ معوّقات.
هل يمكن أن تشهد سياسات ترامب تجاه الشرق الأوسط أيّ نوع من الاختلاف؟
فيما يتعلّق بالسياسة الأميركية تجاه الشرق الأوسط، فإنّ الأمر يعتمد على المستجدّات والتحدّيات التي يمكن أن يواجهها دونالد ترامب، لكن بالنظر إلى تاريخه، فمن المرجّح أن يبقى "رجل العقارات" وفيّاً لأسلوبه، مع بعض التعديلات بحسب الظروف.
فمن حيث المبدأ ستواصل واشنطن دعمها للاحتلال الإسرائيلي، مع تراجع الخطاب الأميركي التقليدي المؤيّد لحقّ الفلسطينيين في إنشاء دولتهم على حدود الرابع من حزيران/يونيو 1967، لصالح الخطاب الداعم لأفكار اليمين الإسرائيلي المتطرّف، ما يعني أنّ الفلسطينيين بصدد اختبار صعب خلال الفترة المقبلة، خاصة مع الضغوط الواسعة التي تتمّ بحقّ المقاومة، تماشياً مع تصاعد احتمالات اندلاع الحرب مرة أخرى في قطاع غزة من جهة، واتساع رقعة الاستيطان في الضفة الغربية من جهة أخرى.
أما فيما يتعلّق بإيران، باعتبارها قلب المحور المعارِض للهيمنة الأميركية في المنطقة، فمن المعلوم أنّ ترامب عازم على تشديد العقوبات الاقتصادية، وربما دعم عمليات عسكرية ضدّها، بالإضافة إلى التنسيق مع الحلفاء التقليديين للحدّ من تمدّد محور المقاومة بشكلٍ عام.
وتستفيد الإدارة الأميركية في هذا التوجّه من المتغيّرات التي شهدتها المنطقة خلال العام الماضي، سواء باستشهاد عدد من رموز المقاومة اللبنانية يتقدّمهم السيد حسن نصر الله، أو بسقوط نظام بشار الأسد، الذي كان بمثابة "الحلقة المركزية" للمحور، بحكم موقع سوريا الجغرافي، وبالنظر إلى أنه كان بمثابة النظام العربي الوحيد المنخرط في النشاط المقاوم، وقد أدّى قانون قيصر الذي أقرّه ترامب خلال عام 2020، الدور الأبرز في إضعاف النظام السوري، ما سهّل مسألة سقوطه في الثامن من كانون الأول/ديسمبر 2024.
وكان ترامب قد ركّز خلال فترته الأولى على رعاية التطبيع بين عدد من الأنظمة العربية و"تل أبيب"، فيما سمّي بـ"اتفاقيات أبراهام"، وهو اليوم عازم على رعاية اتفاقيات مشابهة، لكنه يعتمد سياسة خشنة للضغط على الأنظمة الحليفة له. ففي الفترة الأولى عزّز ترامب علاقاته مع السعودية والإمارات من خلال صفقات أسلحة بمليارات الدولارات، أما اليوم فرغم استمرار العلاقات مع الخليج، والوعود الاستثمارية الضخمة، فإنّ بعض الحلفاء قد يشعرون بعدم الارتياح تجاه سياساته الجديدة، خاصة فيما يتعلّق بفلسطين، ودعواته لتهجير أهلها، ودعمه الصريح للتصعيد العسكري الإسرائيلي، ومنح "جيش" الاحتلال مزيداً من الأسلحة الفتّاكة.
ترامب في 2025 ليس مجرّد "نسخة مكرّرة"
خلاصة الشهر الماضي تقول إن دونالد ترامب لديه رغبة في تحقيق "إرث سياسي قوي وأكثر جرأة وتأثيراً"، ولو كان ذلك على حساب بعض العلاقات التقليدية، ما يجعله أكثر عدوانية في إجراءاته الداخلية وسياساته الخارجية، ففي 2020 كان يمكن اعتباره رئيساً براغماتياً يركّز على المصالح الاقتصادية وتقليل التدخّلات الخارجية، دونما التخلّي عن موقع أميركا القياديّ في العالم.
لكنّ ترامب 2025 يبدو أكثر غروراً وشراسة، ويركّز على إثبات قوته في الداخل والخارج، خاصة في قضايا مثل فلسطين وإيران بالنسبة للشرق الأوسط، والصين وروسيا على الصعيد العالمي، وحتى أوروبا سينالها حظ وافر من تلك التغيّرات، التي لن تطال جوهر السياسات الترامبيّة، لكنها تتعلق بآليات التنفيذ والصورة التي يمكن أن تظهر بها.
وعلى الصعيد العربي، ستكون العديد من الأنظمة في مأزق شديد فيما يتعلّق بالتعامل مع الإدارة الأميركية تحت قيادة ترامب، خاصة مع تخلّي الرئيس الأميركي عن الحدّ الأدنى من البروتوكول وقواعد اللياقة، واستخدامه ألفاظاً وعبارات حادّة كوسيلة لإحراج مخالفيه، ومن المفترض أن تُلزم تلك الضغوط الأميركية العرب بالبحث عن المشتركات وتقليل هامش الخلافات وتوحيد المواقف، ثمّ البحث عن الحلفاء الإقليميين والدوليين بالشكل الذي يُمكّنهم من مواجهة ترامب في نسخته الجديدة.
خاصة إذا كانت الأنظمة العربية حريصة على "هامش الاستقلال" الذي تتمتّع به دولهم، أو معنيّة ـــــ بأيّ قدر ـــــ بحقّ الشعب الفلسطيني في أرضه التاريخية.