العلاقات الصينية السورية ما بعد الأسد
ترى بكين أنّ انهيار النظام في سوريا قد يسمح بإعادة ظهور الجماعات المتطرّفة والإرهابية ومن شأن ذلك أن يؤثّر على المناطق المجاورة لسوريا، ويهدّد الأمن في المنطقة ككل والمصالح الصينية فيها.
عندما زار وزير الخارجية الصيني وانغ يي سوريا، بعد فوز الرئيس السابق بشار الأسد بولاية رئاسية رابعة عام 2021، دعا المسؤول الصيني إلى التخلّي عن وهم تغيير النظام في دمشق.
والعام الماضي استقبلت الصين الرئيس الأسد وزوجته بحفاوة حيث توجّها إلى مدينة هانغتشو الصينية على متن طائرة تابعة لشركة طيران الصين. وخلال رحلته التقى الرئيس الأسد بالرئيس الصيني شي جين بينغ وتمّ الاتفاق على رفع العلاقات بين البلدين إلى شراكة استراتيجية.
لطالما أعلنت الصين دعمها للنظام السوري السابق في المحافل الدولية ومجلس الأمن الدولي، فاستخدمت حقّ النقض الفيتو ضدّ قرارات تدين النظام، ودعت مراراً وتكراراً إلى رفع العقوبات الأحادية الجانب غير القانونية، وإلى حلّ سياسي للأزمة السورية، ورفضت التدخّلات العسكرية في البلاد.
وبعد أن هاجم المسلّحون حلب الشهر الماضي، أكدت بكين مجدداً دعمها لنظام الأسد، وأعلنت استعدادها للمساهمة بشكل إيجابي لمنع تدهور الوضع في البلاد.
لكنّ الأحداث في سوريا تسارعت بشكل كبير وانتهت في نهاية المطاف إلى عقد اتفاقيات بين مختلف الأطراف المعنية أدت إلى إسقاط نظام بشار الأسد الذي فرّ إلى روسيا وحصل على اللجوء السياسي.
عوامل عديدة كانت تدفع الصين إلى إبقاء دعمها لنظام الأسد منها اقتصادية وسياسية وأمنية.
فعلى الصعيد الاقتصادي، صحيح أنّ السوق السوري ليس كبير الحجم يمكن أن تعتمد عليه الصين، ولا سيما في ظلّ انهيار الاقتصاد السوري والعقوبات الأميركية المفروضة على دمشق، والحرب الأهلية التي مزّقت البلاد، إلا أن ما كانت تعوّل عليه بكين هو أن يكون لها موطئ قدم في سوريا بعد إيجاد حلّ للأزمة واستتباب الأمن، لذلك كانت ترغب في حال توفّر الأوضاع الأمنية المناسبة البدء بإعادة تطوير حقول النفط المتفق عليها مع الجانب السوري وتوقيع المزيد من العقود النفطية. والآن مع سقوط النظام ووجود حكومة انتقالية قد تعمل الأخيرة على رفض أو تغيير العقود التي أبرمها النظام السابق مع الصين.
سعت بكين إلى أن يكون لها دور في إعادة الإعمار، وقد أعلنت مراراً عن رغبتها في ذلك. مثلاً، في العام 2017، أكّد المبعوث الصيني الخاصّ حينها إلى سوريا شيه شيا ويان استعداد بلاده للمشاركة في إعادة إعمار سوريا. وكان الرئيس السوري السابق قد طلب مساعدة بكين في إعادة الإعمار ورحّب بالاستثمارات الصينية.
ومن ناحية أخرى، لسوريا موقع مهم في مبادرة الحزام والطريق الصينية، وكانت بكين تطمح في أن تستثمر في مرفأي طرطوس أو اللاذقية بالاتفاق مع روسيا التي لها قواعد عسكرية في مرفأ طرطوس وقاعدة حميميم في اللاذقية، ومن المحتمل أن تكون الصين قد خطّطت لكي تكون لها قاعدة عسكرية هناك.
كما أثار مشروع الربط السككي بين إيران والعراق وسوريا اهتمام الصين، لأنها كانت تهدف إلى ربطه بمبادرة الحزام والطريق.
أما على الصعيد السياسي، فقد عرضت بكين مراراً وساطتها لحلّ الأزمة في سوريا وقدّمت عدة مقترحات لذلك. ودعمت إلى جانب روسيا وإيران النظام السابق ضدّ العقوبات الأميركية المفروضة عليه والتدخّلات الخارجية واستخدمت حقّ النقض ضدّ قرارات مجلس الأمن التي تدينه.
لقد أخذت الصين، خلال السنوات الأخيرة، تنخرط بحذر في نزاعات الشرق الأوسط، سواء عبر التوسّط بين السعودية وإيران، أو المساهمة في التقريب بين سوريا والدول العربية، أو استقبال الفصائل الفلسطينية في بكين.
وفي إطار آخر يأتي تقارب الصين من الشرق الأوسط في ظلّ المنافسة الصينية الأميركية، وربما ساعد ابتعاد الولايات المتحدة الأميركية عن دول المنطقة، في بداية ولاية إدارة بايدن، الصين على الانخراط في الأوضاع الأمنية في الشرق الأوسط. ولكن مع عودة اهتمام الإدارة الأميركية بالمنطقة، وجدت الصين أن أميركا ستعارض دخولها إلى الشرق الأوسط ، ومع ذلك استمرّت في مساعيها لحلّ النزاعات مع علمها بأنّ جهودها لن تفضي إلى أيّ نتيجة.
ربما يدرك صنّاع القرار السياسي في الصين، أنّ اللاعبين الإقليميين والدوليين في الشرق الأوسط كثيرون، ولا تريد بكين أن تغوص في مستنقع الصراعات في المنطقة، وترى أن الولايات المتحدة الأميركية ما زالت القوة صاحبة النفوذ فيه، وهو ما أظهرته الأحداث التي وقعت منذ طوفان الأقصى والحرب بين حزب الله و"إسرائيل".
ومن المحتمل بعد عودة الرئيس ترامب إلى الرئاسة أن يُعاد تعزيز العلاقات بين أميركا ودول الخليج ، ولا سيما السعودية، التي تربطها بترامب علاقات قوية وتشهد رئاسته الأولى على ذلك. وبالتالي ليس مستبعداً أن يطلب ترامب من دول الخليج تخفيف علاقاتها ببكين.
وعلى الصعيد الأمني، فقد أثار وجود مقاتلي الإيغور في سوريا قلق الصين، التي عملت على عقد محادثات رفيعة المستوى مع دمشق لتبادل المعلومات الاستخباراتية حول تحرّكات الحزب الإسلامي التركستاني، الذي يضم مسلحين إيغوريين، على أساس شهري بدءاً من عام 2016. ومن المحتمل أن يتوقّف هذا التدقيق الاستحباراتي مع سقوط نظام الأسد.
مما لا شكّ فيه أن الصين كانت ترغب في بقاء نظام الأسد، وترى أنّ الأحداث التي وقعت مؤخّراً وانهيار النظام قد تؤدي إلى اضطراب الأوضاع في المنطقة.
وأنّ ما تقوم به "إسرائيل" من احتلال للأراضي السورية يفاقم الوضع في سوريا، وهو ما جاء في افتتاحية صحيفة China Daily التي أشارت أيضاً إلى أنه من السابق لأوانه القول إنّ الوضع سوف يتحسّن، وليس هناك ما يضمن أن سوريا لن تصبح ليبيا أخرى، أو مكاناً للاعبين مختلفين لتحقيق مكاسب شخصية، أو بؤرة لإعادة تجميع بعض الإرهابيين المتشدّدين.
وعندما سئل وزير الخارجية الصيني وانغ يي عن موقف الصين من الوضع الحالي في سوريا، أجاب الوزير الصيني أن بكين تدعم سوريا في تحقيق السلام، وتنفيذ قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254، ودفع العملية السياسية الداخلية وفقاً لمبدأ "بقيادة سورية وملكية سورية"، وإيجاد خطة إعادة تلبّي رغبات الشعب من خلال الحوار الشامل، وأضاف أن سوريا المستقبلية يجب أن تعارض بشدة جميع أشكال الإرهاب والقوى المتطرّفة، ودعا إلى رفع العقوبات الأحادية غير القانونية المفروضة على سوريا.
ترى بكين أنّ انهيار النظام في سوريا قد يسمح بإعادة ظهور الجماعات المتطرّفة والإرهابية ومن شأن ذلك أن يؤثّر على المناطق المجاورة لسوريا، ويهدّد الأمن في المنطقة ككل والمصالح الصينية فيها.
فضلاً عن أنّ تداخل مصالح الجماعات المسلّحة، المدعومة من أطراف خارجية، قد يؤدي إلى حدوث حرب أهلية جديدة وربما تدخل البلاد في المجهول وعدم اليقين.
كانت الصين تنتظر إيجاد حلّ سياسي في سوريا، واستقرار الأوضاع الأمنية فيها كي تشارك في إعادة الإعمار واستكشاف آبار نفطية جديدة وزيادة استثماراتها، ولكنّ سقوط النظام قضى على طموحات الصين المستقبلية، وتراجع نفوذها لصالح تعزيز نفوذ الولايات المتحدة الأميركية.
تتبع بكين الآن سياسة الانتظار والترقّب من أجل تقييم الأوضاع في سوريا لترسم ملامح علاقاتها مع الحكومة الانتقالية وأبي محمد الجولاني وفتح قنوات الاتصال مع الإدارة الجديدة عبر تركيا التي أصبح لها نفوذ كبير في سوريا أو عبر قطر.
ومن جهة أخرى من مصلحة الإدارة الجديدة في سوريا التعاون مع بكين نظراً لحاجتها إلى الاعتراف الدولي بها وإلى إعادة إعمار البلاد وإنعاش الاقتصاد فالصين قوة اقتصادية كبيرة.
ولكنّ حصة الصين من سوريا قد لا تكون كبيرة نظراً لتعدّد اللاعبين الفاعلين فيها، وسعي الولايات المتحدة الأميركية لمنع وجود نفوذ للصين في سوريا.
وربما ستركّز الصين في المرحلة المقبلة على عدم تهديد مسلّحي الحزب الإسلامي التركستاني لمصالح الصين خاصة أن الحزب، الذي ساعد في الإطاحة ببشار الأسد وله علاقة قوية مع هيئة تحرير الشام، قد هدّد بنقل المعركة إلى الصين. ففي 6 كانون الأول/ديسمبر الجاري أصدر أمير الحزب الإسلامي التركستاني، عبد الحقّ التركستاني، بياناً أكد فيه خطط المجموعة لمهاجمة الصين في المستقبل.
وبعد يومين نُشر مقطع فيديو لمسلّحين من الحزب الإسلامي التركستاني يحملون رشاشات ويرتدون ملابس عسكرية وقال رجل منهم إنهم سيستمرّون في القتال في "تركستان الشرقية" إقليم شينجيانغ كما قاتلوا في حمص وفي إدلب. وبعد أن كان مسلحو الإيغور محصورين إلى حد كبير في محافظة إدلب وضواحيها، وصلوا إلى دمشق وغيرها من المدن الكبرى.
ليس من الواضح ما إذا كان مسلّحو الإيغور سيعودون إلى الصين، ولكن لدى بكين قلق من أن المسلّحين سوف يستقرّون مرة أخرى في باكستان وأفغانستان اللتين أصبحتا ملاذاً آمناً في السنوات الأخيرة لمختلف المنظّمات الإرهابية، بما في ذلك تنظيم الدولة الإسلامية في خراسان وحركة طالبان الباكستانية وجيش تحرير بلوشستان، وأيضاً إمكانية سعي واشنطن إلى دعم الحزب الإسلامي التركستاني للعمل ضدّ الصين خاصة أن دونالد ترامب أزال الحزب من قوائم الإرهاب عام 2020.
لقد أخطأت بكين عندما اعتبرت أن إسقاط النظام السوري وهم، وها هي اليوم تنتظر وتترقّب ما ستؤول إليه الأوضاع في سوريا، وليس مستبعداً أن تتواصل مع الإدارة الجديدة في المستقبل عبر تركيا، فالصين لا يهمّها لون القطّ طالما أنه يصطاد الفئران.